مؤشرات الأسهم الأمريكية تغلق على تراجع    الاتفاق يواجه القادسية الكويتي في دوري أبطال الخليج للأندية    تركيا: نستهدف رفع حجم التجارة مع السعودية إلى 30 مليار دولار    اتحاد الغرف يطلق مبادرة قانونية للتوعية بأنظمة الاستثمار في المملكة والبرتغال    الاحتلال لا يعترف ب (الأونروا)    «الكونغرس» يختار الرئيس حال تعادل هاريس وترمب    المملكة تستحوذ على المركز الأول عالمياً في تصدير وإنتاج التمور    النصر لا يخشى «العين»    الهلال يمزق شباك الاستقلال الإيراني بثلاثية في نخبة آسيا    المملكة ومولدوفا تعززان التعاون الثنائي    «التعليم»: 5 حالات تتيح للطلاب التغيب عن أداء الاختبارات    الأسمري ل«عكاظ»: 720 مصلحاً ومصلحة أصدروا 372 ألف وثيقة    الاختبارات.. ضوابط وتسهيلات    «جاهز للعرض» يستقطب فناني الشرقية    «حديقة السويدي» من ثقافة باكستان إلى الأسبوع اليمني    شتاء طنطورة يعود للعُلا    «الأسبوع العربي في اليونسكو».. ترسيخ المكانة الثقافية في المملكة    12 تخصصاً عصبياً يناقشه نخبة من العلماء والمتخصصين بالخبر.. الخميس    برعاية الأميرعبدالعزيز بن سعود.. انطلاق المؤتمر والمعرض الدولي الرابع لعمليات الإطفاء    ليلة الحسم    المحميات وأهمية الهوية السياحية المتفردة لكل محمية    سلوكيات خاطئة في السينما    إعادة نشر !    «DNA» آخر في الأهلي    العلاج في الخارج.. حاجة أم عادة؟    1800 شهيد فلسطيني في العملية البرية الإسرائيلية بغزة    ربط الرحلات بالذكاء الاصطناعي في «خرائط جوجل»    رئيس الشورى يستقبل السفير الأمريكي    مسلسل حفريات الشوارع    للتميُّز..عنوان    لماذا رسوم المدارس العالمية تفوق المدارس المحلية؟    تنوع تراثي    منظومة رقمية متطورة للقدية    الأمير عبدالعزيز بن سعود يتابع سير العمل في قيادة القوات الخاصة للأمن والحماية    الأمير تركي بن طلال يستقبل أمير منطقة الجوف    زرًعِية الشبحة القمح العضوي    غيبوبة توقف ذاكرة ستيني عند عام 1980    نحتاج هيئة لمكافحة الفوضى    في شهر ديسمبر المقبل.. مهرجان شتاء طنطورة يعود للعلا    كلمات تُعيد الروح    قصص من العُمرة    " المعاناة التي تنتظر الهلال"    في الجولة الرابعة من دوري أبطال أوروبا.. قمة بين ريال مدريد وميلان.. وألونسو يعود إلى ليفربول    الاستقلالية المطلقة    تشخيص حالات نقص افراز الغدة الدرقيه خلال الحمل    النظام الغذائي المحاكي للصيام يحسن صحة الكلى    سعود بن بندر يهنئ مدير فرع التجارة بالشرقية    ترمب وهاريس في مهمة حصاد جمع الأصوات    أمير تبوك يستقبل قنصل بنغلاديش    «تطوير المدينة» تستعرض التنمية المستدامة في القاهرة    الدفاع المدني: استمرار هطول الأمطار الرعدية على مناطق المملكة حتى السبت المقبل    وزير الدفاع يستقبل نظيره العراقي ويوقّعان مذكرة تفاهم للتعاون العسكري    السعودية تؤكد دعمها لجهود التنوع الأحيائي وتدعو لمؤتمر مكافحة التصحر بالرياض    قائد القوات المشتركة يستقبل الشيخ السديس    الأمين العام للتحالف الإسلامي يستقبل وزير الدفاع العراقي        حرس الحدود بعسير يحبط تهريب 150 كلجم من القات    مقال ذو نوافذ مُطِلَّة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إقتراحات أميركا أم فرانسيس دينغ ... ولماذا تتعجل الخرطوم الرفض ؟
نشر في الحياة يوم 07 - 04 - 2001

تتجه أولويات السياسة الأميركية في افريقيا نحو جنوب افريقيا ونيجيريا بأكثر من السودان، وحتى في هذا الاطار تأتي افريقيا دون الأولويات الاستراتيجية وتبقى في حدود الأهمية فقط.
وجاء تصريح القائم بالأعمال الأميركي في الخرطوم ريمون براون، الذي نشرته الحياة عن مراسلها هناك بتاريخ 23 آذار مارس ليؤكد هذا الاتجاه. مع ذلك تبقى أهمية ما أورده الكاتب من توضيحه للدور الذي يلعبه الدكتور السوداني فرانسيس دينغ، عبر المؤسسات الأكاديمية، لإبراز أهمية الدور الأميركي العاجل في السودان وطرح الخيار الكونفيدرالي ضمن سيادة سودانية وطنية واحدة غير مجزأة لتفصيل مشروع فرانسيس دينغ المتعلق بنظامين في دولة واحدة. ونشر كاتب المقال هذا المشروع على صفحات الحياة قبل عامين تقريباً العدد 13227 - تاريخ 26 أيار/ مايو 1999.
منذ أن قرأت على واجهات الصحف ما طُرح بصفته مقترحات أو مشروع أميركي لحل مشكلة الحرب الأهلية في جنوب السودان، وعلى رغم ترجمة وتقديم نزار ضو النعيم لهذا المشروع ملخصاً في صحيفة "الحياة" - عدد 13873 - تاريخ 10 آذار 2001 إلا انني شككته كثيراً في تلك النبرة التي أعطت السودان أولوية في السياسة الأميركية الجديدة. وما دفعني الى الشك أمران:
أولاً: روح التحريض ليُعطي السودان تلك الأولوية.
ثانياً: أنى كنت قد اطلعت ودرست بتركيز عرض المركز نفسه الذي صدرت عنه سياسة الولايات المتحدة لانهاء الحرب في السودان لسياسات الولايات المتحدة الافريقية، حيث وجدت تناقضاً كبيراً بين التقرير المعني بسياسة الولايات المتحدة الافريقية والتقرير الخاص بالسودان، وقد صدر الأول الافريقي في كانون الأول ديسمبر 2000 وصدر الثاني السوداني في شباط فبراير 2001 عن المركز الأميركي نفسه.
CENTER FOR STRATEGIC AND INTERNATIONAL STUDIES-SCIS
فتقرير السياسة الأميركية في افريقيا لم يعط افريقيا كلها مستوى استراتيجيا في نظرة المخطط الأميركي وانما أعطاها أهمية فقط: THOUGH NOT STRATEGIC, REMAIN HIGHLY IMPORTANT .
في حين أن تقرير السياسة الاميركية في السودان يعطي السودان قيمة استراتيجية في السياسة الأميركية وأولوية تفوق تقديرات التقرير الافريقي ولكل افريقيا، بل انه حتى ضمن الأولوية العامة لافريقيا لا نجد اهتماماً مركزاً إلا على نيجيريا وجنوب افريقيا لأسباب شرحها التقرير.
وبتدقيق للمرة الثانية والثالثة في التقرير عن السودان وجدت ان الذي قام بالعمل - حتى على مستوى الصياغة الانكليزية - هو بالقطع الدكتور فرانسيس دينغ. وبأكثر من زميله المشارك له في إعداد التقرير وهو الدكتور ستيفن موريسن مدير برنامج افريقيا في المعهد الاميركي المذكور سي إس آي إس.
اضافة الى أن المعهد ليس حكومياً، على رغم خطوة لدى الجمهوريين، متهمة، ورشة العمل التي عقدها عن السودان وباشرت أعمالها منذ تموز يوليو 2000 وفي أوقات متقطعة هي فقط محاولة التأثير في القرار الأميركي بعد تسلم الجمهوريين السلطة. ملقياً باللائمة على سياسة الديموقراطيين كلينتون في ما يختص بعزل السودان واحتوائه عبر ممارسة الضغوط من دون جدوى.
فالتقرير هو في حقيقته رسالة موجهة من دكتور فرانسيس دينغ - عبر المعهد الأميركي وفاعلياته البالغة 50 مشاركاً - للإدارة الأميركية الجديدة وليس مبادرة حكومية اميركية بالطريقة التي عالجتها بها الصحف في واجهاتها، وبالطريقة التي أخذتها بها حكومة السودان وردت عليها عبر تصريح الرئيس البشير الرافض لها 15 آذار 2001.
ان صناعة القرار الأميركي في افريقيا، سواء كان جمهورياً أو ديموقراطياً، لم يرق بعد الى المستوى الاستراتيجي من حيث الأهمية والأولوية، إذ يبقى في دائرة الاهتمامات العامة، ويلي المصالح التي يُطلق عليها فعلاً استراتيجية وهي الخاصة برابطة الكومنولث والرابطة الفرنكوفونية. ولم تشمر أميركا عن عضلاتها بعد، إلا قليلاً وبوجه فرنسا، وعلى رغم ان التقرير الخاص بالسودان يشير الى تحرك الدول الأوروبية بنسبية ايجابية أكثر من أميركا تجاه السودان إلا أنه يعود ويلتف حول نفسه ليرشح اميركا لدور أكثر من الاتحاد الأوروبي؟
هل ستستجيب أميركا لهذا التقرير؟
على رغم سيكولوجية التقرير التي تبرز أهمية السودان بالنسبة الى اميركا، والحديث المسهب عن مآسي الحرب في جنوب السودان، بما يفترض معه اثارة الضمير الاميركي والمنظمات العاملة في مجالات حقوق الانسان والجمعيات الخيرية، إلا انه لا يخرج من حيز المناشدة، بل ان البترول السوداني نفسه - 175 ألف برميل يومياً - ليس محفزّاً للاهتمام الأميركي على نحو استراتيجي، فحصيلة اميركا من كل بترول افريقيا بما في ذلك شمال افريقيا لا تتجاوز 15 في المئة من وارداتها، وهناك أكثر من سبب استراتيجي وسياسي يجعل اميركا غير راغبة في زيادة وارداتها من البترول الافريقي، لهذا أقدر ان ادارة الرئيس بوش ستستمر في سياسة من سبقها من الديموقراطيين تجاه السودان، أي سياسة العزل والاحتواء POLICY OF CONTAINMENT AND ISOLATION وأقدر انها لن تندفع لإيجاد تحالف دولي يتولى حل مشكلة الحرب في الجنوب انطلاقاً من مبادئ الايقاد من دون الايقاد، ومع استبعاد مصر وليبيا. فإيجاد تحالف دولي تتزعمه الولايات المتحدة، واتخاذ مبادئ الايقاد - من دون الايقاد - مرتكزاً للحوار بين الحكومة وحركة قرنق، ومع استبعاد مصر وليبيا - على نحو ما - هي من تطلعات دكتور فرانسيس دينغ ولكنها لم تصبح مشروعاً اميركياً بعد.
بل إن ما يناقش أحياناً في الاطارات الأقرب لأن تكون حكومية في اميركا لا تنتج عنه مقررات يؤخذ بها فعلاً، ويرجع ذلك الى ان افريقيا بأكملها لم تكتسب بعد مستوى الأهمية الاستراتيجية، وإن أخذ بأهميتها.
فبتاريخ 15 أيار 1997 سبق للكونغرس أن ناقش مقترحات محددة ضمن احدى اللجان المتخصصة، وفي اطار سياسة العزل والاحتواء حين اقترح ضرورة توسيع قاعدة المشاركة في حكم الانقاذ على أساس ان الاطار المحدود والضيق الذي يستند اليه الانقاذ يشكل دافعاً له للتصلب العقائدي والآحادية، واقترح أن تتم المشاركة عبر معتدلين في شمال السودان وجنوبه، ولم يطرح المشروع الاميركي وقتها أسماء محددة ولا تبنى أحزاباً أو طوائف محددة ولم يتناول حركة قرنق في الجنوب بأي خصوصية، بل ترك الباب م فتوحاً. وتصدت تلك المقترحات الأميركية لهجوم مكثف من جمعيات تطوعية وخيرية ذات طابع تبشيري نادت وقتها بضرورة اسقاط النظام ولكن من دون أن تطرح بدائل محددة.
قد علم من علم وقتها، وفي اطار مناقشات أيار 1997، ان ادارة كلينتون لا تحبذ التعامل مع الطائفتين، حزب الأمة والأنصار المهدويين بقيادة السيد الصادق المهدي الذي تواصلت سنوات حكمه 1986 - 1989 مع ايران وليبيا، في حين ان الطائفة الأخرى الشريكة في الحكم مع المهدي وهي طائفة الختمية ورئيسها السيد محمد عثمان الميرغني، وهو رئيس الحزب الاتحادي الديموقراطي تواصل مع العراق ومصر. وهناك خلفيات أخرى لجفاء أميركا مع الطائفتين، وهو جفاء قائم حتى اليوم، ما دفع بالصادق المهدي لأن يكيل اللوم لأميركا التي لم تؤد دورها في السودان بمستوى ثقلها العالمي "الحياة" - العودة من تهتدون الى تفلحون - الحلقة الأخيرة - 14 كانون الأول 2000 العدد 13791. كذلك الحلقة رقم 3 بتاريخ 23/11/2000.
مشروع النظامين في دولة واحدة
لم يحدث ان طرحت اميركا أو وافقت على أي مشروع انفصالي أو استقلالي يختص بجنوب السودان، خلافاً لما يقوله أو يكتبه البعض من دون توثيق - فأهم تقرير صدر عن وزارة الدفاع الاميركية البنتاغون - كان بتاريخ 11 كانون الأول 1984، ووضعه مع فريق عمل متكامل الخبير بالاستراتيجية أنتوني. ب. كوردسمان، وحمله معه في زيارته الى السودان نائب الرئيس الأميركي آنذاك جورج بوش وهو التقرير الذي هيأ لسقوط نميري، وعنوانه: المنعكسات الاستراتيجية والاقليمية لعدم الاستقرار في السودان.
في ذلك التقرير بدا واضحاً رفض أميركا قيام دويلة قبلية مغلقة في جنوب السودان أياً كانت الشعارات التي تستند اليها. كما ان وزيرة خارجية اميركا السابقة مادلين أولبرايت لم تطرح أثناء لقائها قادة المعارضة السودانية في يوغندة كانون الأول 1997 ما يتجاوز سياسة العزل والاحتواء مكتفية بتهديد نظام الانقاذ وبصوت عالٍ جداً، ولكن من دون الاشارة الى استقلال الجنوب أو انفصاله، بل لم تقدم الى دول المواجهة وقتها مع نظام الانقاذ اريتريا - اثيوبيا - يوغندة سوى عشرين مليون دولار وفي شكل أجهزة عسكرية للمراقبة. ولم تقدم للمعارضة سوى مدخلات انتاج لاستخدامها في ما أطلقوا عليه المناطق المحررة. وسخرت وقتها بقولي ان الأرياف السودانية على مدى مليون ميل مربع كلها مناطق محررة إذ لا سلطة فيها.
فالولايات المتحدة ليست طرفاً في مشروع النظامين في دولة واحدة، لا بموجب تقرير كوردسمان عن البنتاغون في 11/12/1984، ولا بموجب مناقشات الكونغرس في 15/5/1997، ولا بموجب محادثات أولبرايت مع المعارضة السودانية في يوغندة في كانون الأول 1997.
طرح هذا المشروع لإقامة علاقة كونفيدرالية أي علاقة تعاهدية دستورية بين شمال السودان وجنوبه، ومع اختلاف النظامين في ورشة عمل تمت في جمهورية ايرلندا في 2 آب اغسطس 1991، أي بعد قيام الانقاذ على الأسس الاسلامية التي يفهمونها بسنتين.
ثم تواصل طرح هذه الكونفيدرالية في ما نشرته لي صحيفة "الحياة" - عدد 13227 - تاريخ 26/5/1999، بعنوان خيار الوحدة الكونفيدرالية بين شمال السودان وجنوبه، وفي ما أعلنه قائد الجيش الشعبي لتحرير السودان، العقيد جون قرنق في بيانه بتاريخ 16 أيار 1999.
وسبقنا الرئيس البشير بشهر واحد حين أعلن بتاريخ 26 نيسان ابريل 1999 ان طرح الكونفيدرالية كحل لمشكلة الجنوب هو أمر مرفوض.
ثم اتخذ مؤتمر الحزب الحاكم المؤتمر الوطني قراراً يقضي بحل مشكلة الجنوب بما هو من دون الكونفيدرالية وذلك بتاريخ 30 أيلول سبتمبر 2000.
هل تمهد الكونفيدرالية للانفصال؟
تُفهم الكونفيدرالية لدى نظام الانقاذ وبعض الشماليين وبعض الدول المجاورة بأنها الطريق الذي يمهد الى الانفصال. غير ان هذا الفهم خاطئ جملة وتفصيلاً، لأنهم لم يقرأوا أوضاع الجنوب، الماضية والحاضرة والمستقبلية، قراءة موضوعية. فالجنوبيون وإن أعلن بعضهم حركة باسم حركة استقلال السودان أو لوّحوا بالانفصال، سراً وجهراً، منذ عام 1955 والى اليوم، إلا أنهم في الحقيقة لا يعمدون لذلك لأسباب جنوبية تختص بهم في المقام الأول ولأسباب اقليمية ودولية.
ان ما انتهى اليه معظم من في الجنوب هو انهم لا يريدون هيمنة الشمال عليهم. وقد جربوا التعايش مع الشمال في اطار حكم مركزي 1956 - 1972 وحكم اقليمي بصلاحيات تقارب الفيدرالية 1972 - 1983 ثم حكم ولائي لامركزي فترة الانقاذ الراهنة، وثبت لهم عبر كل هذه التجارب مع الشمال وأنظمة الشمال المختلفة انه ليس من نتيجة سوى أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم وبمعزل عن هيمنة الشمال والشماليين.
إن الحقيقة التي لا يريد كثير من الشماليين التيقن منها هي ان السودان وطن تحت التأسيس بجغرافيته السياسية الراهنة حديثة التكوين، ولم تتم عبر تطور جدلي وطني داخلي استجمع أجزاء السودان ودمجها أو ألفّها ببعضها، وانما تكونت هذه الجغرافية - السياسية نتيجة التوسع المصري جنوباً باتجاه منابع النيل منذ عام 1821 وكذلك باتجاه البحر الأحمر، وبلغ هذا التوسع قمته في عهد الخديوي اسماعيل 1863 - 1879 حيث شمل حتى يوغندة واريتريا ضمن حكمدارية السودان التي تدار من الخرطوم. ولم يكن السودان التاريخي القديم يعني سوى الوسط والشمال بمحاذاة النيل، غير ان التوسع المصري ضم الى هذا الوسط والشمال كلاً من الجنوب والشرق والغرب.
لعبت عوامل حضارية ودينية وثقافية دورها في تعميق التفاعلات بين وسط السودان وشماله من جهة وممالك شرق السودان وغربه من جهة أخرى، وذلك بحكم وجود هذه القواسم المشتركة، غير ان علاقة الشمال مع الجنوب ظلت ومنذ ارتباطه بالشمال عام 1874 تتخذ منحى آخر، فمنذ الحاقه بالشمال ظلت العلاقة ادارية ثم انكفأ الجنوب على نفسه وبمعزل عن هذا الرابط الاداري أثناء فترة الحكم المهدوي للسودان 1885 - 1898، وبعد سقوط المهدية ودخول السودان مرحلة الحكم البريطاني - المصري 1898 - 1956 ظل الجنوب مغلقاً من دون الشمال بقوانين ادارية بريطانية والى عام 1947. ثم اصبحت علاقته بالشمال دستورية من عام 1947 والى الاستقلال في عام 1956، ثم نشبت ثوراته التي أغلقت الطريق على أن تفاعلات ايجابية مع الشمال: 1955 - 1962 - 1965 - 1983.
ما هي الأسباب؟ فشرحها يطول، ولكن النتيجة حروب مستمرة وملايين القتلى من الجانبين، ونزوح إثر نزوح من الجنوب الى الشمال، ومن الجنوب الى دول الجوار، يسمى الأول من الداخل نزوحاً ويسمى الثاني الى الخارج لجوءاً.
ويظهر النفط في الجنوب، ولا تشرك حكومات الشمال منذ عهد نميري الجنوبيين لا في تقنية النفط ولا ادارة حقوله، ثم تجعل المصافي في الشمال وليس على مقربة منحقول الانتاج الجنوبية، ثم تتهم حكومة الشمال الراهنة بإبادة القبائل الجنوبية من مناطق النفط أو دفعها للنزوح الى خارجها.
إذاً، فعلاقاتنا بالجنوب بدأت ادارية ثم دستورية وهي الآن قتالية أو في مظنة البعض جهادية فكيف يمكن التعايش خارج منطق نظامين في دولة واحدة.
سبق لي تحديد النظامين بخيار الكونفيدرالية "الحياة" - عدد 13227 - تاريخ 26/5/1999 ولكني طرحت صيغة الكونفيدرالية كخيار وحدوي وليس كخيار انفصالي.
كونفيدرالية ضمن سيادة واحدة
الذين توهموا ان الكونفيدرالية هي شكل من أشكال الانفصال لم يستبينوا ان صيغتها وحدوية ضمن سيادة وطنية واحدة. هؤلاء تعاملوا مع شكلية الطرح من دون مضمونه، فقرنق نفسه لا يزال يضع العصي في عجلات الطرح الكونفيدرالي وان تبناه شكلاً في 16/5/1999.
العقيد الدكتور جون قرنق هو الخصم الدائم لكل الأنظمة في الشمال، تماماً كما انه الخصم الدائم لكل معارضيه في الجنوب. ولا يعود الأمر هنا الى "فرديته المتضخمة" وإن كان هو - أي قرنق - كذلك، ولكن يعود الأمر أكثر الى "منهج استراتيجي" يتحكم في كل "تكتيكاته". ليس بسبب "عمالته لأجندة أجنبية" فهذا أمر غير وارد اطلاقاً وقطعاً، وليس بسبب "انفصاليته"، فقرنق "وحدوي سوداني حتى النخاع".
السبب الرئيسي وراء استقصاءات قرنق هو انه يجمع بين "متناقضين" يريد تحريكهما في مسار واحد. أحدهما "مثالي للغاية" وهو دعوته "لسودان جديد ديموقراطي علماني موحد". فهو بسودانه الجديد هذا خصم دائم لكل مركبات السودان القديم، تاريخياً وسياسياً وحضارياً وثقافياً وبالتالي ضد "هيمنة" هذه المركبات القديمة على الشمال والجنوب معاً. ثم انه بحكم سودانه الجديد الواحد المتحد، خصم دائم لكل الحركات الانفصالية في الجنوب، ولا يقبل بتقرير المصير الذي يؤدي الى الانفصال، غير انه لا يقبل أيضاً بسودان موحد تكون الهيمنة فيه لمركبات السودان القديم. إلا أن يكون هذا السودان علمانياً ديموقراطياً جديداً.
هذا هو الوجه الأول للدكتور جون قرنق. ولكن كيف يحقق قرنق هذه المسارات باتجاه سودان جديد علماني ديموقراطي موحد؟
ان استراتيجيته هذه تعتمد "تكتيكاً نقيضاً" ينسف دعواه المثالية من جذورها، فحركة قرنق ليست فكرية تعتمد على الحداثة المعاصرة، والقوى الاجتماعية الحديثة، وتدافعات العولمة، وانما تعتمد "أدنى" المراتب الاجتماعية في التحالفات السياسية، بتوجه واضح نحو الاثنيات أو المكونات "غير العربية" في النسيج السوداني. فهو يتجه للتحالف مع النوبا والانقسنا والبجا، وكل ما هو "غير عربي" في الشمال بدعاوى "المناطق المهمشة" وبذات نهج "الكتاب الأسود" غير المنسوب لأبويه. فيحدث قرنق "مطابقة مفتعلة" ما بين قطاعي التهميش والاثنيات غير العربية، فكل ما هو غير عربي مهمش، وكل مهمش هو غير عربي. وهذا قول لا تسنده الجغرافية - البشرية، ولا جغرافية التنمية الاقتصادية في السودان ولا محركات الاستثمار الزراعي والصناعي والتجاري طوال الحقبة الاستعمارية واختياراتها على مستوى الانتاجية ونوعيتها والموانئ وخطوط المواصلات ومراكز الادارة. فلو عُهد الأمر لقرنق نفسه لما جعل ميناء السودان في نمولي وليس البحر الأحمر، ولما جعل مجمع ورش السكك الحديد في واو وليس عطبرة. وفي هذا الاطار تندرج دعاوى كثيرة "مفتعلة" حول تعمد أبناء وسط السودان وشرقه تهميش الآخرين من دون النظر في مدى التهميش الواقع على هؤلاء أنفسهم، لأن الاستعمار حين وضع خطط الاقتصاد والتنمية لم يستهدِ بكتابات ايف لاكوست أو بول باران أو الدراسات المتعلقة ب"جغرافية التخلف" كتلك التي يشغل بها نفسه الآن "منتدى روما". فقرنق يحاول المزاوجة بين متناقضين جذريين: مثالية الادعاء بسودان ديموقراطي علماني موحد، ولكنه يستند الى مركبات ما دون مستوى السودان التقليدي القديم نفسه، اي مركبات "التجزئة العرقية"، فدعوته وحدوية ونهجه تفكيكي، ودعوته حداثية ونهجه قبلي تقليدي.
ثم يعلم - الى جانب ذلك - ان قاعدة ارتكازه الجنوبية، ليست مؤهلة لا اجتماعياً ولا فكرياً ولا سياسياً ولا ثقافياً، لتندرج في مشروعه الوطني الديموقراطي العلماني الموحد، فحدود "المواطنة" لديها هي حدودها "القبلية" الدائمة الاشتباك في حدود "مواطنة" القبائل الأخرى التي تماثلها في تفكيرها. فكما ان هناك الوطني الدينكاوي هناك الوطني النويري والوطن الشلكاوي، ثم ما هي علاقة "العلمانية" بأعراف الجنوب ودور الكجور وموقع "الرث" وزعماء العشائر؟ وما هي علاقة الديموقراطية بآليات الشورى القبلية في الجنوب عبر تراتبية الرؤساء.
هذا التناقض هو الذي جعل قرنق يستعصي على الفهم الموضوعي لخيار الوحدة الكونفيدرالية نفسها، فحين طرحت هذا الخيار - كما طرحه آخرون - لايجاد حال من التوسط بين وحدة مرفوضة خشية من هيمنة الشمال، أياً كانت هذه الوحدة فيدرالية أو اقليمية ذاتية، وبين "انفصالية" مرفوضة ايضاً، جنوبياً واقليمياً ودولياً، أظهر قرنق قبوله بالخيار الكونفيدرالي، ولكن في اطار ما يتحرك به قرنق بين المتناقضين، اللذين ذكرناهما. مثالية السودان الجديد وتكتيك التجزئة العنصرية فقفز بخريطة الكونفيدرالية لتشمل مناطق "الأنقسنا والنوبا وآبين" في شمال السودان.
هدف قرنق الأساسي ليس فيما قدره البعض من انه يريد "توسعة" الجنوب جغرافياً ويقفز به الى أبعد من حدود 1956 الادارية التي أقرتها اتفاقية أديس أبابا في 1972.
هدف قرنق الأساسي هو ألا تحصره الكونفيدرالية في الحدود الجغرافية - السياسية للجنوب فتجرده عن "الامتداد الشمالي" لدعواه الوحدوية. فقبول قرنق بالكونفيدرالية ضمن حدود 1956 يعني ذلك "اختصاره" الى قرنق الجنوبي فقط. فاتساع الخريطة الجغرافية بالنسبة لقرنق هو اتساع "سياسي مبدئي" يرتبط بتكتيك السودان "الموحد"، ولكن مرة أخرى يكشف قرنق عن متناقضاته حين تكون مناطق الشمال الملحقة بخريطته حاملة خصائص المطابقات الاثنية والعرقية.
غير ان قرنق هذا - والمتعب جداً للغاية - يشكل مادة خطرة اخرى في معادلات المتغيرات السياسية السودانية، وذلك حين يجمع بين "مرتكزه الحركي" في الجنوب وتمدده على مستويين أخريين في الشمال اضافة الى تمدده الاثني - العرقي الذي ذكرناه. فهو متمدد عسكرياً في الشمال على مستوى الجبهة الشرقية مع اريتريا. ولكنه متمدد بشكل أكثر خطورة باستقطاباته لعدد من المثقفين السودانيين الشماليين استغلالاً لكل العوامل الرافضة في الشمال نفسه لتجربة الانقاذ في الحكم. فهو يحاول "الاستثمار الذكي" لحال الاستقطاب الحادة بين الانقاذ والشعب، ما يدفع بالكثيرين من ابنائنا وبالذات الجيل الجديد للبحث عن "سودان جديد" يخلو من كل المركبات التقليدية والقديمة بما فيها تركيبة الانقاذ الايديولوجية والسياسية نفسها.
فشعار "السودان الجديد" أصبح "رائجاً" تردده ألسنة كثيرة، خصوصاً ان القوى الطائفية تطل من جديد لتطرح وفاقاً وطنياً يتسق مع طموحاتها الذاتية. وان يساريي الشمال يجترون سلفية يسارية "دوغمائية" لم تميّز حتى الآن بين "مادية الجدلية" و"جدل الواقع".
فالكونفيدرالية خيار "وحدوي" ضمن "سيادة سودانية واحدة غير مجزأة" لها "خصوصيتها" الدستورية "الاستثنائية" المماثلة تماماً مع سابقة دستورية "استثنائية" عرفناها وعرفها العالم "للمرة الأولى" فيما كان من "حكم ثنائي" لشريكين على بلد واحد. فإذا كان الأجانب ابتدعوا حالات دستورية استثنائية للتشارك في حكم بلد واحد، فكيف نعجز نحن عن ابتداع صيغة دستورية ملائمة تعيد ترتيب الأوضاع بين شمالنا وجنوبنا، وقفاً للحرب وتجاوزاً لوحدتنا الشكلية والمظهرية؟ فإذا كانت الكونفيدرالية في سوابقها التاريخية هي بين دولتين قائمتين، فيمكن أن تكون الكونفيدرالية أيضاً حلاً دستورياً لطرفين في دولة واحدة استحال تعايشهما، ولا يريد أحدهما أو كلاهما الانفصال عن الآخر نتيجة التداخل البشري الديموغرافي والمصالح المائية والنفطية المشتركة. فهل الذين خيروا الجنوب بحق الانفصال أقرب للنزعة الوحدوية أم الذين لجأوا لخيار الوحدة الكونفيدرالية؟
* سياسي ومفكر سوداني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.