في سيرة عزمي بشارة الشخصية تتلخص قضية وقصة كفاح شعب، تسمو فوق كل ما لدى اسرائيل من ادعاءات واصطناعات. والمحاكمة تفضح خارطة القيم الصهيونية، وأمام رسالة بشارة التي رفعها في التسعينات، مؤسساً لشعار "دولة لكل مواطنيها" في مواجهة العنصرية الصهيونية، فهي تفضح الشكليات والتفسير المتساهل ل"الديموقراطية الصهيونية"، وكل ما أفرزته الحياة الصهيونية من مؤسسات وتعبيرات شكلاً ومضموناً. وتأتي المحاكمة كضرورة صهيونية، لانها إعادة نظر مجدداً في استيراد المقولات الاستعمارية والخطاب الاستعماري في إطاره الأوسع العنصري، والممارسات العنصرية وهذا ما تؤكده عموم التصورات الصهيونية بتياريها اليميني واليساري، عن عرب ال48 ك"فئة متمردة". فلا يحدّ حدّ ذلك الادعاء ب"التقاليد الديموقراطية" للدولة، والتي بنيت من صلصال ذلّ وظلم الاستعمار. فالمحاكمة استعادة لأوليتها التاريخية مع مستوى "أدنى" من البشر، وعقلية الحدود والريادة الصهيونية، امتداداً لنزع ملكية الوطنيين الأصليين، طالما ان العرب يمثلون في الخطاب الصهيوني وضعاً مماثلاً للمرتبة الدنيا. وهم ذاتهم ضحايا التهجير القسري الداخلي، ونظام التفرقة العنصرية والحقوق السليبة. فمصادرة الأراضي جارية على قدم وساق، والحق في السكن تحوّل الى صراع على البقاء، ومستوى التعليم في تدهور متواصل، والتمييز في التشغيل في أعتى صوره، والهجمة على الهوية الوطنية تزداد شراسة من خلال برامج التعايش والتطبيع. فمنذ التسعينات تجاهل اتفاق أوسلو الفلسطينيين في اسرائيل، وتركهم من دون سند قومي فلسطيني يشدّ أزرهم في الكوارث التي تكتنفهم من كل جانب. وازدادت معارك الأرض والسكن واشتدت. فرغم التكاثر السكاني العربي تمتنع الدولة الصهيونية عن تخصيص أراض لبناء المشاريع السكنية للمجتمع العربي، في سياسة عنصرية مفتوحة على مصراعها. هذا يفسّر شعار "دولة لكل مواطنيها" بعد اتفاق أوسلو. وطالما ان الخطاب الكولونيالي يتجاهل المقاومة المناهضة للاستعمار، فهو في حال اسرائيل يمتد الى قطاع غزة والضفة الغربية والجولان. والأشد عنفاً، في نطاق ال48، هو إنكارها وجود أقلية وطنية، وإخضاعها والاستيلاء على أراضيها ومجتمعها وثقافتها، ومحاولات احتوائها بأعيادها ورموزها وإشاراتها، وما شابه من أعلام وأختام. ولن يفلح هذا. وترمز المحاكمة الى المفاهيم الرئيسية للصهيونية والسياسة الكولونيالية، وهو مجموعة المعاني الرسمية لدولة اسرائيل. كما أنها ترمز للقوة الفلسطينية في ميادينها ومواقعها المختلفة، وتكثف الذاكرة وتستعيدها، هي حاولت الصهيونية إدراجها النسيان وتهشيمها وضمّها الى قصصها. والمحاكمة تفتح على سيل من الاسئلة حول من يساندها، ويتشابك معها بشكل معقد، ارتباطاً بمركزها الذي يضع في اعتباره الأصولي ان "العناية الإلهية" أوجدت شعباً "مختاراً"، وتفضلت بمنح هذا الشعب أرضاً "موعودة"، شعباً يتحدر من أصول "واحدة" وينتمي الى دين واحد، و"تتشابه" سلوكياته وعاداته، من خلال الدين، في أصقاع المعمورة. أما الآخر فهو مستثنى، ولا يتم احتسابه ضمن حقوق "الأمة" بما فيها من أشكنازيم وسفارديم وفلاشا. ويمكن القول في هذا الصدع التاريخي وعنفه المستعاد. ان الغزو عملية مستمرة والفكرة الجديرة بالقراءة أن سيادة النزعة العسكرية، والهرمية الطبقية العنصرية، تتوجه ضد من يتمسكون بهويتهم ووطنهم وقوميتهم وثقافتهم. وهي انتهاكات خالصة لروح حقوق الانسان في حلّة غير مألوفة تندمج من ايديولوجيات معاصرة وامبريالية تدعى حقوق الانسان. لقد دارت رحى التاريخ على نحو ساخر. فمَنْ يحاكم مَنْ؟ وهذا "البوريم الأسطوري" - عيد المساخر اليهودي، يتجسد في وقائع شديدة السخرية. فحكومة شارون قمة المساخر. أما المحاكمة فستثري التجربة الكفاحية الفلسطينية، وتعزز ثوابتها لمواصلة الطريق الشاق الى تجديد النهضة القومية الفلسطينية. لندن - رشيد قويدر كاتب فلسطيني