لصناعة القرار السياسي السعودي متطلبات ومرجعيات، تجعله يختلف بمنطلقاته عن أي قرار سياسي آخر. ولعل هذه المنطلقات، إن لم يكن أهمها على الإطلاق، ضرورة أن يكون متماشياً مع الوجهة الشرعية الإسلامية، إلى الحد الذي يجعله متخذاً صبغة القبول الشرعي النسبي على الأقل. ومنذ الملك عبدالعزيز رحمه الله، حتى الآن، لا يمكن أن تجد قراراً سياسياً، سواءً كان محلياً أو أن له علاقة بالشأن الخارجي، إلا وتكون له مثل هذه المرجعية. حتى ان هناك بعض القضايا التي تعتبر من ضرورات التحديث في رأي الكثيرين داخل المملكة وخارجها، لا تزال معلقة، ولم يُتخذ فيها قرار بعد. والسبب بمنتهى البساطة أن مثل هذه القضايا تحتاج إلى رؤية شرعية تحظى ولو بقدر معقول من القبول داخلياً. وفي الغالب يكون مثل هذه القضايا المعلقة محل أخذ وردّّ ونقاش في الساحة السعودية الدينية، ولم يتبلور حيالها رأي ديني مستقر حسب شروط التوجه الديني وإطاره العام في المملكة. لذلك، ما كان في مقدور الأمير عبدالله إطلاق مبادرته الأخيرة بشأن السلام مع إسرائيل، لو لم يكن لهذه المبادرة، من حيث القبول، مستند شرعي ديني يتيح له التعامل مع هذه القضية سياسياً، وفق مقتضيات تقديره للمصلحة. هذه الآلية للقرار السياسي السعودي، هي ما يجهله الكثيرون، الأمر الذي جعل كثيراً من المعترضين على المبادرة، لسبب أو لآخر، يتناولونها بالنقد من زاوية مدى توافقها مع مقتضيات الشرع الإسلامي. فقد ظهرت أصوات هنا وهناك تنتقدها من هذه الزوايا، وفي تقديري، أن مثل هذا النقد، ومن هذه الزاوية على وجه الخصوص، هو من أضعف الجوانب التي يمكن نقد هذه المبادرة من خلاله، فهي من هذا الجانب تحديداً مغطاة تماماً، وبمنتهى القوة والإحكام. فشرعية هذه المبادرة دينياً تستند ما كان قد أفتى به الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله، مفتي المملكة السابق، ورئيس مجلس كبار العلماء فيها آنذاك، وأحد أهم علماء العصر السعوديين قوة وصدقية، والذي تحظى فتاواه بقدر كبير من القبول، ليس في المملكة فحسب، وإنما في معظم أنحاء العالم الإسلامي. هذه الفتوى، جاءت إجابة عن سؤال كان طرح عليه مفاده: "المنطقة تعيش اليوم مرحلة السلام واتفاقاته، الأمر الذي آذى كثيراً من المسلمين وحدا ببعضهم الى معارضته والسعي الى مواجهة الحكومات التي تدعمه عن طريق الاغتيالات أو ضرب الأهداف المدنية للأعداء، ومنطقهم يقوم على الآتي: أ- أن الإسلام يرفض مبدأ المهادنة. ب- أن الإسلام يدعو لمواجهة الأعداء بغض النظر عن حال الأمة والمسلمين من ضعف أو قوة. نرجو بيان الحق، وكيف نتعامل مع هذا الواقع بما يكفل سلامة الدين وأهله؟"، فأجاب الشيخ: "تجوز الهدنة مع الأعداء مطلقة وموقتة، إذا رأى ولي الأمر المصلحة في ذلك، لقول الله سبحانه "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم"، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم فعلهما جميعاً، كما صالح أهل مكة على ترك الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض، وصالح كثيراً من قبائل العرب صلحاً مطلقاً، فلما فتح الله عليه مكة نبذ إليهم عهودهم، وأجل من لا عهد له أربعة أشهر، كما في قول الله سبحانه "براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر". وبعث صلى الله عليه وسلم المنادين بذلك عام تسع من الهجرة بعد الفتح مع الصديق لما حج رضي الله عنه، ولأن الحاجة والمصلحة الإسلامية قد تدعوان إلى الهدنة المطلقة ثم قطعها عند زوال الحاجة، كما فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وقد بسط العلامة ابن القيم -رحمه الله- القول في ذلك في كتابه "أحكام أهل الذمة"، واختار ذلك شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة من أهل العلم. والله ولي التوفيق". انتهى نص الفتوى. وقد لاقت هذه الفتوى بعض ردود الأفعال المعارضة، كان أهمها يدور حول نقطتين: الأولى: هل يجوز الصلح مع اغتصاب أرض المسلمين؟ والثانية: هل السلام الدائم يدخل من الناحية الفقهية في معنى الصلح أو الهدنة الموقتة والمطلقة؟ النقطة الأولى المتعلقة بمدى جواز الصلح مع العدو في الوقت الذي يغتصب أراضي المسلمين، هو الاعتراض الذي تبناه الشيخ يوسف القرضاوي في لقاء أجرته معه مجلة "المجتمع" الكويتية. وقد أجاب عليه الشيخ ابن باز في توضيح تعقيبي قائلاً: "ونقول للشيخ يوسف وفقه الله وغيره من أهل العلم: إن قريشاً قد أخذت أموال المهاجرين ودورهم، كما قال الله سبحانه في سورة الحشر: "للفقراء المهاجرين الذين اخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون"، ومع ذلك صالح النبي صلى الله عليه وسلم قريشاً يوم الحديبية سنة ست من الهجرة، ولم يمنع هذا الصلح ما فعلته قريش من ظلم المهاجرين في دورهم وأموالهم، مراعاة للمصلحة العامة التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم لجميع المسلمين من المهاجرين وغيرهم، ولمن يرغب الدخول في الإسلام. ونقول أيضاً: جواباً لفضيلة الشيخ يوسف عن المثال الذي مثل به في مقاله وهو: "لو أن إنساناً غصب دار إنسان وأخرجه إلى العراء ثم صالحه على بعضها، أجاب الشيخ يوسف: إن هذا الصلح لا يصح، وهذا غريب جداً بل هو خطأ محض، ولا شك أن المظلوم إذا رضي ببعض حقه، واصطلح مع الظالم في ذلك فلا حرج، لعجزه عن أخذ حقه كله، وما لا يدرك كله لا يترك جله، وقد قال الله عز وجل "فاتقوا الله ما استطعتم"، وقال سبحانه "والصلح خير" ولا شك أن رضا المظلوم بحجرة من داره أو حجرتين أو أكثر يسكن فيها هو وأهله خير من بقائه في العراء، أما قوله عز وجل "فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركّم أعمالكم" فهذه الآية فيما إذا كان المظلوم أقوى من الظالم وأقدر على أخذ حقه، فإنه لا يجوز له الضعف، والدعوة إلى السلم، وهو أعلى من الظالم وأقدر على أخذ حقه، أما إذا كان ليس هو الأعلى في القوة الحسية فلا بأس أن يدعو إلى السلم، كما صرح بذلك الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره هذه الآية، وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى السلم يوم الحديبية، لما رأى أن ذلك هو الأصلح للمسلمين والأنفع لهم وأنه أولى من القتال وهو عليه الصلاة والسلام القدوة الحسنة في كل ما يأتي ويذر، لقول الله عز وجل "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة" الآية، ولما نقضوا العهد وقدر على مقاتلتهم يوم الفتح غزاهم في عقر دارهم، وفتح الله عليه البلاد، ومكنه من رقاب أهلها حتى عفا عنهم، وتم له الفتح والنصر ولله الحمد والمنة". انتهى التعقيب الذي كان بالمقاييس الشرعية التأصيلية قاطعاً بلا شك. وأما النقطة الثانية التي تدور حول سؤال مؤداه: هل السلام الذي يتحدثون عنه يدخل في معنى الصلح أو الهدنة الموقتة أو المطلقة، مثلما جاءت في التراث الفقهي الإسلامي؟ كان أبرز من تحدث عن هذا الجانب الدكتور عبدالرحمن عبدالخالق الداعية المعروف والمصري الجنسية، والذي يعيش الآن في الكويت، فقد ذكر في مقال له ما نصه: وأما الدعوة إلى السلم بمعنى ترك الحرب نهائياً، ومصالحة الكفار أبداً، ونبذ الحرب والقتال مطلقاً، فهذا كفر بالله تعالى مخرج من ملة الإسلام، وإلغاء لفريضة الجهاد التي جعلها الله فرضاً على كل مسلم إلى يوم القيامة كما قال تعالى "كتب عليكم القتال وهو كره لكم" البقرة: 216 وكتب بمعنى فرض، وقول النبي صلى الله عليه وسلم "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية" رواه مسلم والنسائي وأحمد والترمذي. انتهى كلام الدكتور عبدالخالق. ومن الواضح أن الدكتور عبدالخالق ينطلق في رؤيته إلى السلام على أنه سلام، لا يتعامل مع الحاضر أو حتى مع المستقبل المنظور فقط، وإنما يمتد إلى المستقبل بشكل مطلق وغير محدد نهائياً، أي إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو بذلك إلغاء للجهاد - كما قال -، ليبقى السؤال الذي يفرضه السياق هنا: هل السلام هو على الأرض، يعني بالضرورة فرض واقع لن يتغير بتغير الظروف والبواعث والأسباب التي فرضته كصلح، أو قل: كهدنة؟ أم أنه سلام غير ملزم متى ما تغيرت الظروف؟ هنا تنتقل هذه القضية من مستوى الحرام المطلق دينياً الذي يصل إلى مرحلة الإجماع بين الأمة إلى مستوى "الخلافات الفقهية" في تفسير مصطلح "سلام"، وغني عن القول أن من النادر أن تجد قضية قديمة أو حديثة لا تكتنفها مثل هذه التوجهات الخلافية، لاسيما وأن مصطلح "سلام"، كما هو مستخدم الآن، من المصطلحات الجديدة، والطارئة على القاموس العربي، والتي هي في مدلولاتها وأبعادها لا تزال غير مستقرة في الذهن العربي. أي أن الخلاف ينطلق ويتمحور في حقيقته حول سؤال مؤداه: هل "السلام" الذي نتحدث عنه هو "الهدنة"، أو "الصلح" الذي أجازه الإسلام مع العدو، أم أن له معنى آخر، يجعله بعيداً عن هذه المفاهيم التي استند إليها الشيخ ابن باز في فتواه؟ وهذا بلا شك خلاف فقهي محض، لا يعنينا في تفاصيله هنا، بقدر ما يهمنا التأكيد على أن هذه المسألة هي في واقعها و حقيقتها مسألة خلافية على أقل تقدير. وفي ذلك يقول "ابن قيم الجوزية" في "إعلام الموقعين" ج1 ص76، عن الإمام مالك: "أنه كان يكثر أن يقول: إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين". * كاتب سعودي.