قالت الكونتيسة العاشقة حين رأته يدخل صالونها المخملي الأحمر دون استئذان: "آه يا سيدي كم برّحني الشوق"، ثم استدركت أمام سيدات البلاط الثرثارات: "كم برّحني الشوق إلى ذلك المكان... أأنت قادم من هناك؟". فهم كازانوفا المعنى المزدوج وارتباك العاشقة، فأجابها: سيدتي النبيلة، أفهم شوقك، والمكان من حيث أتيت لا يُدل عليه ب"هناك" بل ب"من فوق". *** كان كازانوفا يعلم تماماً أنه معشوق لنفسه، ولكن أيضاً لسحر المكان الآتي منه، أي البندقية. كان يتماثل بمكانه وبعشقه معاً، فيستعملهما للتدليل على ندرة الاثنين. حتى أنه كان يحسب ما يُروى عنه ويُقال - لا يتردد في الكذب والقول إنه قادم لتوه من البندقية حين لم يكن الأمر كذلك أبداً خلال تجواله وأسفاره الكثيرة. يتماثل الناس كثيراً بأمكنتهم ويتأبطون سحرها معهم حين يغادرونها. إنهم يرون لها سحراً لمجرد أنهم لم يعودوا ماكثين فيها، وقلّما يشككون في صحة ما يتأبطون وفي فعله في الآخرين. هكذا يفعل الغرباء وأيضاً الزجالون حين يفاخرون بسحر بلدانهم أو بلداتهم الصغيرة النائية. إنهم يعتقدون - دون خوف من الوقوع في سخرية الآخرين - أن لبلادهم أو لأمكنتهم الاصلية عموماً من الجمال والصفات ما لا نجده إلا فيها. فالزجالون في قريتي مثلاً عاشوا طوال حياتهم فيها ولم يروا أصقاعاً أخرى، لكنهم لم يتوانوا يوماً عن مقارنتها بسويسرا بأشعار تنتهي إلى التعبير عن الأسى والشفقة على أهل سويسرا الخاسرين طبعاً - شكلاً ومضموناً - في عملية المقارنة القاسية هذه. هذا أمر طريف جداً لكن ما يؤرقني، سنة بعد سنة، هو أن تعتمد البلدية، والسلطات المعنية من بعدها، تقييمات الزجالين فأرى أن قريتي تخسر شيئاً فشيئاً - وبشكل لا مردّ له - جمالها الحقيقي وكدت أقول الموضوعي... وشيئاً فشيئاً أصبح أكثر ثقلاً وازعاجاً في ملاحظاتي المستاءة القليلة والتي تقلّ زيارة بعد زيارة. وأشعر أنه من السخف أن أنغّص عليهم متعهم فهم مرتاحون تماماً إلى ما هم فيه ولا يرون ما أرى، فعلامَ النكد؟ كنت فقط أتمنى لقريتي - بقليل من "الزعبرة" - أن تبقى "فوق"، وحتى لا أضطر، كغيري من الغرباء، إلى استعارة أمكنة الآخرين. *** لكن البندقية ليست مكان الآخرين، لأنها لا تستطيع أن تكون لأهلها، أعني لأهلها فقط. قلّة قليلة من أهل البندقية تعيش باستمرار في دانتيلا الحجر والماء هذه. إنها فوق الاحتمال، ومتعبة جداً هذه الروعة المستمرة، صباحاً ومساءً، صيفاً وشتاء. بسماء صافية أو بسماء نازلة إلى الأرض والماء حيث لن ترى السفن العابرة، حتى الكبيرة منها، بل تسمعها تشق الماء والضباب. إنها مكان محتمل للعابرين فقط وللغرباء. لذلك ربما كان كرنفالها، للابتعاد وراء الأقنعة لمن لا يستطيع المغادرة منذ أن كانت البندقية مملكة تشعّ بالذهب والمخمل، ولا تزال حتى الآن. حتى وكالات الأسفار لا تنصحك بالبقاء أكثر من ثلاثة أيام. ستعود مليئاً بها ومنهكاً، تقول الموظفة في مكتب السفريات وتضيف: لا تذهب إلى البندقية بمفردك، خذ أحداً معك، عشيقاً، صديقاً أو رفيقاً للتلهي به عنها. كأنّ أهل البندقية، الذين لا يقيمون فيها، يعرفون أنها "مكان سحر" الآخرين الأول، الأكثر استقطاباً. إنها المكان الذي سيستعيره الغرباء الذين فقدوا سحر مكانهم الأصلي. ولذا حين تنزلق بك المراكب على مياه ال"غراندي كانالي" سترى بيوتاً كثيرة مضاءة وفارغة خلف الستائر المرفوعة. إنها مسارح للعابر... لكي يتنهد عميقاً ويدخل إلى دفء المكان الوثير ويمكث هناك الثواني الطويلة. يترك أهل البندقية بيوتهم الفارغة المضاءة بلطف من أجل أن تدخل أعين الغرباء المشتاقين لأمكنتهم التي فقدت سحرها. على هذه المسارح الصغيرة - التي تشبه بيوت الدمى حين كنا صغاراً - نلعب أدواراً تشبهنا ولا تشبهنا. كلنا نكون العاشقة المرتبكة أو... كازانوفا، وكلنا نتمتع - لثوانٍ طويلة - بأناس قادمين إلينا بأشواق آسرة طاغية... "من فوق".