حكايات الجن والغيلان والسعالي، التي كان بعض المسافرين في القِفار والبراري يدعون أنها تعترض طريقهم، كثيرة ومتنوعة يفيض بها مخزون الأدب الشعبي. وهي في بعضها حكايات مملوءة بالرعب، وإن كانت من جانب آخر تستعرض شجاعة الراوي الذي يدعي أنه تعرض لها أثناء رحلته. تلك الحكايات، على رغم ما فيها من تصوير للرعب إلا أن الناس كانوا، وربما مازالوا يقبلون على سماعها ويستمتعون بمتابعتها، فهي أشبه بأفلام الرعب الأمريكية المشهورة في عصرنا هذا. في كتاب الحيوان يتطرق الجاحظ إلى ذكر تلك الحكايات والأشعار المملوءة كذبا وزيفا ويستعرض بعض الحكايات والأبيات التي وردت على لسان الأعراب والشعراء ممن يدعون أنهم يرون الغيلان ويسمعون عزيف الجان (أصوات الجان). ويستشهد الجاحظ بكلام (ابو اسحاق) الذي يعمد إلى تحليل حكايات وأشعار الجان والغيلان مما يقصه الأعراب عن عزيف الجنان وتغول الغيلان، بأسلوب أقرب إلى أسلوب علم النفس المعاصر في تحليل السلوك، حيث يقول: «أصل هذا الأمر وابتداؤه أن القوم لما نزلوا بلاد الوحش، عملت فيهم الوحشة، ومن انفرد وطال مقامه في البلاد والخلاء والبعد من الإنس، استوحش ولاسيما مع قلة المذاكرين (...) وإذا استوحش الإنسان تمثل له الشيء الصغير في صورة الكبير، وارتاب وتفرق ذهنه، وانتفضت أخلاطه، فرأى ما لايرى وسمع مالا يسمع، وتوهم على الشيء اليسير الحقير أنه عظيم جليل». ويضاف إلى هذا أن الناس ينشأون على تلك الروايات والأحاديث عن الجن والغيلان، فيزدادون إيمانا بها، فيصير الواحد منهم، عند أول وحشة وفزعة، وعند صياح بوم ومجاوبة صدى، كذابا نفاجا فيقول: «رأيت الغيلان وكلمت السعلاة، ثم يتجاوز ذلك إلى أن يقول قتلتها، ثم يتجاوز ذلك إلى أن يقول: رافقتها، ثم يتجاوز ذلك إلى أن يقول: تزوجتها!». ويمضي الجاحظ في تعليل أسباب شيوع التمادي في رواية أخبار الغيلان والجن فينسبه إلى أن أولئك الكذابين شجعهم على التمادي في رواية أكاذيبهم أن من كانوا يتلقونها عنهم هم من الأعراب والعامة، الذين لم يعتادوا التشكك والتأمل فيما يلقى إليهم لتمييز ما يمكن تصديقه وما لا يمكن. وزاد على هذا أنه كلما كان الراوي أكذب في شعره وأخباره كان عندهم أطرف والإقبال على حديثه أكثر، لذلك صار بعضهم يدعي رؤية الغول أو قتلها أو مرافقتها أو تزوجها. مثل هذا التحليل السلوكي الذي يفسر به الجاحظ ما كان شائعا في عصره من أشعار وحكايات كاذبة عن الجن والسعالي والغيلان، هل يصلح أن نستعيره لنفسر به ما يجري في أيامنا هذه من كثرة تناقل أخبار السحر والسحرة والبطولات الفذة في اكتشاف مخابئه وفك طلاسمه وإبطال ضرره؟، أو مثل ما يدعيه الناس من حالات تلبس الجن لهم وما يتسببون فيه من سوق لهم إلى الإتيان بتصرفات غريبة لايملكون دفعها عنهم؟.