لن يدعي اي كاتب سياسي تقديم حل للمشكلة العراقية من دون ان تسقط نتائجه الأخيرة في الأوهام. وقد أوقعت هذه المسألة في شراكها من قبل اذكى كتّاب السيناريوات في العالم الغربي. ومع تراكم الشعور بالإحباط، الذي رافقه دائماً الخوف من استمرارها بلا حل، اصبح اخطر ما فيها ان مجرد التحرك، سياسياً لاحتوائها يترتب عليه في كل مرة تقديم كبش فداء. إنها العقدة التي تحتكر منذ اثني عشر عاماً الجزء الأكبر من النشاط الديبلوماسي للعرب، وتبتز مشاعرهم، وفي فترات مؤتمراتهم تعبث بتلك المشاعر، وتسخر من آمالهم في التقرب الى بعضهم البعض. ويخرج العراق كنظام المنتصر الوحيد من هذه المؤتمرات، سواء فشلت لأنه يكون سبب فشلها او رممت بعض الصدوع لأن مكاسب الترميم تخفف الأعباء عنه اكثر من غيره. وبهذا تحتل المشكلة العراقية، وهي ثاني اعقد مشكلة في تاريخ العرب الحديث بعد المشكلة الفلسطينية، مكانة فريدة من نوعها داخل الجامعة العربية. تعرف كل الدول الأعضاء طابعها الابتزازي، ولا تستطيع دولة لوحدها معارضتها، تجنباً لاتهامها بعرقلة التضامن العربي. والآن، وقد تزامن انعقاد مؤتمر القمة العربية مع التهديد الأميركي للإجهاز على نظام الرئيس العراقي صدام حسين، رفعت المشكلة العراقية رأسها المضمّد بالألغام من جديد. معروف ان ادارة الرئيس بوش الجديدة لم تخصص حيزاً كبيراً في برنامجها للعراق، إلا ان احداث ايلول سبتمبر 2001 جعلت المشكلة العراقية تومض بقوة في رؤوس المحيطين بالرئيس الأميركي، وفي الوقت نفسه تحركت الضغوط الداخلية بعض الجمهوريين المهتمين منذ عهد كلينتون والضغوط الخارجية اسرائيل للإبقاء على ذاك الوميض مشتعلاً. ومع انتهاء الزخم الكبير للهجوم على حكومة طالبان، فتح الأميركيون الملف العراقي، معتمدين مسألة التفتيش الدولي على أسلحة الدمار، المجمدة منذ فترة طويلة، ولن نعرف شيئاً عن الخطة العسكرية المهيأة كرد فعل على رفض العراق السماح بعودة المفتشين، بيد ان انعكاسها الأول على المنطقة العربية اصبح واضحاً للجميع. والحرب على افغانستان ولّدت مخاوف وحسابات متضاربة، قد تحمل المسؤولين العرب على التفكير بروية في المسار الذي قد تتخذه حرب جديدة على الإرهاب تريد الاندفاع بقوانينها الخاصة، بينما لا يرغب العرب في انتشار القوات الأجنبية، اميركية او مشتركة، في مساحات جديدة من اراضيهم، بما يؤدي الى اثارة التساؤل، في شأن مصير استقلال الدول العربية! وهذا ايضاً ينبع ويصبّ في المشكلة العراقية، التي تشبه في تعقيدها، الخصب المناعي المضاد لدى الفيروس. وقبل إيراد المقارنات لتفسير وجوه التعقيد الأخرى، لو افترضنا ان الأميركيين قرروا، منعاً لإحراج اصدقائهم العرب، سحب قواتهم، ماذا سيترتب على وجود قواتهم الأخرى القليلة الموجودة على الحدود الكويتية مع العراق، وسط دعاية عراقية واسعة مدعومة بمجندين يعملون في كل الدول العربية؟! وهل تستطيع الجامعة العربية، هذه المرة، ان تضمن للكويتيين نوماً خالياً من الكوابيس على بعد اميال من جار عُرف بالتهور، وسبق له احتلال بلدهم الصغير بربع مليون جندي شقيق؟! المعروف ان جميع الحكومات العربية وعلى الأقل الآن، تتمنى، سراً أو علناً، ظهور نظام جديد في العراق، لكنها تخاف من الثمن الكبير الذي ستدفعه المنطقة العربية نتيجة ذلك! ولذلك ايضاً، وضع العرب اصدقاءهم الأميركيين في مأزق حين بدأت إدارة بوش الحديث عن ملف العراق المهمل. وهكذا، ما ان يجري التفكير في المشكلة العراقية، حتى يدفع كل طرف صديقه الى الارتباك، ثم الشلل. وهذا هو عنصر التعقيد الأول في المشكلة العراقية بالنسبة الى الأميركيين. اما بالنسبة الى العرب، فهم مطلعون على حيل نظام بغداد التي يلجأ إليها قبل مؤتمرات القمة، وعلى رغم ذلك يقبلون تلك الحيل على مضض، لتتوفر للقمة نسبة معقولة من الصفاء. فإذا وضعنا المشكلة الفلسطينية كنقطة للبحث والمقارنة مع المشكلة العراقية تبدو الأولى، على رغم قدمها واحتلالها موقعاً مميزاً في الوجدان القومي للعرب، اقل تعقيداً، كونها تخضع لديناميكية الحلول الخاصة بحق تقرير المصير: مفاوضات - اتفاق - تنفيذ، ما ان تلوح اشارة الى حسن النيات لدى الطرفين. اما المشكلة العراقية، فإنها تخضع لقرار شخص واحد، مزاجي، لا يسمح بتدخل اي اجتهاد يعارض رغباته، أو يلزمه بموقف اخلاقي ثابت، وهو يميل الى التنازل والقسم على التوبة كلما اقترب الخطر منه، فيصاب العرب بالبلبلة، ثم الانقسام، ويقبلون في النهاية وجود من يمثله بينهم، ويخرجون في كل مرة غير متفقين على امر حاسم، أو قابل للتنفيذ. حتى الآن، حصلت المشكلة العراقية على الجزء الأكبر من الجهود التي يفترض ان تُكرس للإعداد للقمة المزمع عقدها في الشهر المقبل في بيروت، وحتى هذه اللحظة لن يكون بمقدور سياسي عربي او أجنبي التكهن بالمفاجآت المتوقعة من الرئيس العراقي، خصوصاً انه الآن في أشد حالات التوتر، بعد ان شهد الانهيار السريع الذي لحق بحكومة طالبان، ويسمع منذ فترة الجدول الدولي حول مصير نظامه! وسوف ينعكس توتر الأعصاب العراقية بدرجة كبيرة على عملية الإعداد الجارية للقمة العربية، ثم يحتل مكانه الشقاقي المميز داخلها، فمن تكون الأضاحي الأخرى، مع شعب العراق، التي سترفع الى مذبح التضامن العربي الجديد؟ نتيجة احداث ايلول، ومواصلة اعوان بن لادن، من العصابيين المأخوذين بفكرة تدمير الغرب، التخفي بحثاً عن طائرة او جدار يفجرون انفسهم والقريبين منهم فيه، سوف تبقى أنظار الكراهية والخوف متجهة نحو العرب، وهذا ليس لمصلحتهم، مهما صدرت بعض كلمات التضامن او الإعجاب القليلة، وسوف تتراكم المشكلات على الدول العربية بسبب ذلك، وهي في الأساس تنوء تحت اثقال لا ترحم من الهموم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وعندما يبحث المسؤولون العرب عن فرصة، ولو ضئيلة وفي مقابل التنازلات، للتفكير ضمن صف واحد متكافل ومتضامن في المشكلات المتفجرة، أو الخامدة، التي تسود المنطقة العربية منذ ربع قرن، فإنهم يبدون اشبه بالمساكين الذين تعذبهم ايديهم المغلولة وبحثهم المتعب. والسؤال الذي يعذب الكثير من الناس في المقابل: "لماذا وصلت دول حديثة لها مؤسسات صخمة وعلاقات دولية واسعة وخبرات الى هذه الحال من العجز؟" الجواب يكمن في ظاهرة عدم الثقة التي تتعمق باستمرار بين الدول العربية. كل نظام عربي، باستثناء القليل، وأرجو ان لا تزعم كل الأنظمة انها جزء من هذا القليل، يحتمي بإيديولوجية معينة، قومية او اشتراكية او دينية، تجعله ينظر داخل نفسه، وتعفيه، او هكذا يريدها، من النظر في ما حوله. كان على نيرون ان يقتل أعوانه ومربيه بالسم لكي يتخلص من نصائحهم الثقيلة على سمعه، وحين بلغت منشورات امه اغريبينا مرحلة الإزعاج، بدا له التخلص من إزعاجها في غاية البساطة، كمية اخرى صغيرة من السم، لأن نيرون، وهو رجل موهوب في الشعر والموسيقى والرياضة، جعل هذه الفنون ايديولوجيته في الحياة، فأصبح عدمياً كبيراً، يحق لأذنيه، إذا تعرضتا للمضايقة، قتل جميع سكان الامبراطورية، او تدمير عاصمتها العظيمة روما، وقد فعل، كما تذكر حكايات الرومان القديمة! لأن العدمية لا تقبل غير هلوسات ذاتها. الفرق، إن حادث تدمير نيرون لروما امر مشكوك في صحته، ترفضه الدراسات التاريخية الحديثة، لأن نيرون يعشق مدينته الجميلة التي ساهم في بنائها. اما تدمير بغداد عام 1991 بالقنابل فقد حصل فعلاً، كما حصل تدمير الجزائر بالحرب الأصولية، وصنعاء بحرب القبائل، والقاهرة باكتظاظها بالولادات والبطالة، ودمشق بالفساد وتفشي ظاهرة الرشوة، والمدن الفلسطينية بمدافع الدبابات الإسرائيلية وهي ترد هجمات حماس التي اصبحت سلطة موازية لعرفات، وعمّان بنزوح العراقيين إليها، وعواصم الخليج بارتفاع عدد العمالة الآسيوية، والخرطوم بحربها العرقية، وبيروت بصراع طوائفها. ولم يبق للعرب إلا القليل يحق لهم الفخر بسلامته. وعلى رغم ذلك، عندما يضم القادة العرب اجتماع موسع يشعر كل واحد منهم ان المصلحة العليا تتحقق، فقط، إذا وظف التضامن العربي لدعم موقف بلده تجاه القضية الفلسطينية. هذا الشعور له قوة الإيمان لدى بعض القادة، خصوصاً الذين يدخلون المؤتمرات وغبار الدمار ما زال عالقاً بثيابهم ووجوههم! الآن، إذا وضعنا المشكلتين الفلسطينية والعراقية جنباً الى جنب، ثم سمحنا أولاً للرئيس الفلسطيني، او من ينوب عنه، بدخول قاعة الاجتماعات في قمة الشهر المقبل، فإن الفلسطينيين سيطلبون موقفاً تضامنياً يستند الى مبدأ انصر اخاك ظالماً أو مظلوماً وهو مبدأ لا يوجد نص يقابله في جميع القوانين الدولية الحديثة! وإذا دخل الرئيس العراقي، فإن الجميع سيتمنون عدم حضوره، أولاً بسبب غموض نياته، وثانياً لأن حضوراً كهذا قد يدفع عدداً من الموجودين الى الانسحاب فيفسد الإجماع منذ اليوم الأول. لكن، إذا دخل من ينوب عنه، وهذا هو المرجح، فإن جميع العاملين مع الرئيس العراقي من وزراء وديبلوماسيين وأصدقاء بعيدين وأقرباء، يشبهون في عملهم تجار الشنطة، يمكنهم ان يخرجوا لك اي بضاعة تحتاج، لكن اياً منهم لا يستطيع ضمان فترة ديمومتها * كاتب عراقي مقيم في بريطانيا.