كما يليق بالشعراء الكبار ان يأتوا من الماضي الى الحاضر، هكذا أتى منصور الرحباني بأبي الطيب المتنبي، احد اكبر الشعراء في تاريخ العرب. منذ بدايات التفتّح، يقول الرحباني، كان المتنبي يعيش في خياله، وكان كلما قرأه اكثر، حصد لقى كثيرة في شعره وفي شخصيته وفي ذلك العنفوان الذي كأنه لم يسكن شاعراً قط مثلما سكن المتنبي، مادح نفسه في كل كبير، وأمام كل أمير، والقابض على المعنى، على الفكرة، على القصيدة كما على قبضة السيف. كان صعباً على منصور الرحباني ان يجسّد المتنبي من دون كل تلك الأبهة المسرحية التي صنعها له. ولم يكن ليقتنع أحد بأن أبا الطيب قادر على المجيء الى الخشبة بغير مستلزمات البطولة والفروسية والشعر ومعها النص المسرحي المختلف المشحون بحقائق المتنبي انساناً اولاً، ورمزاً ناصعاً ورائعاً وساطعاً في الشعر العربي ترسّخ حضوره في أجيال كانت تتوالى فيثبت لديها صوته مجلجلاً في الذاكرة وفي مئات الدراسات التي كتبت على اسمه على مدى سنوات طويلة. لم تكن كتابة المسرحية نزهة. فالشخصية التي تعالجها لها وجود شبه كامل في الخيال، ويبدو مستحيلاً الانصياع الى كل ما عرف عن تلك الشخصية والاكتفاء به لأنه سيحول العمل الفني الى تكرار لما في الخيال، كما كان يبدو مستحيلاً الانصياع الى رغبة الكاتب المسرحي الذي يريد ان يكوّن الناس في نصه على طريقته وربما في شكل مغاير لما هم في ذلك الخيال. غير ان منصور الرحباني، وهو يدرس شخصية المتنبي وقع على مفاصل اساسية في حياته وفي شعره رسمت طريقاً امامه لكي يوازن بين حقيقة ذلك الرجل، والحقيقة التي رآها منصور فيه، لا سيما وان المتنبي من الشخصيات التي تضاربت فيها الآراء وحتى الوقائع بل وحتى النسب. ولهذا بدا واضحاً ان منصور الرحباني وافق على محطات معينة من حياة المتنبي لكنه ألبسها الرداء الذي اعتقد انه المناسب او الأرجح، فامتزج الواقعي بالخيالي وولدت للمتنبي في المسرحية اجنحة جديدة للتحليق مجدداً في المسرح العربي، بعدما حلّق طويلاً وما زال في القصيدة العربية ذات الرفعة والعلّو. ولا بد من الاشارة الى انتاج المسرحية اولاً، فلو ان ثمة انتاجاً بخيلاً خلفها لما استطاع الرحباني ان يفعل شيئاً، ولكانت المسرحية عبارة عن مواقف رمزية عابرة، رأينا على خشبة المسرح العربي كثيراً منها. الانتاج "المرتاح" هو الذي جعل الديكور متغيراً في كل مشهد، وهو الذي جلب الخيل الى الخشبة، وهو الذي وزع مجاميع الممثلين والراقصين والكومبارس على مساحات واسعة أحيت الصورة الاساس المكونة في الذهن بنبض ودفق يحاكي زمناً يفترض انه يحضن أحداث المسرحية، وهو الذي حقق التسجيلات الضخمة موسيقياً وادائياً، وهو الذي وفّر تلك الاضاءة الاوركسترالية التي كأنها نغم لا يهدأ. الانتاج في النهاية، هو الذي كوكب مجموعة من الخبرات والامكانات والطاقات الفنية والهندسية الابداعية لوضع عمل مسرحي كبير ذي صدى هادر. ومن ناحية اختيار المواقف والاماكن التي عاش فيها المتنبي، غَرَفَ منصور الرحباني، بتأن منها غير هيّاب في قول رأي. تتطلب المسألة جرأة لكي يقول المسرحي شيئاً فوق ما يقول الشخص الذي تستعيده المسرحية. جرأة ومقدرة على الاقناع. كأن منصور الرحباني وقد كوّن مجموعة من الافكار عن المتنبي ضخها في مسرحيته لا لكي يكبر المتنبي اكثر مما هو كبير، وانما لكي تنكشف مناطق مقفلة في الابعاد التي عُرفت لشعر المتنبي وحياته معاً. ولعل فكرة الوحدة العربية التي استخرجها الرحباني من القصائد ومن مواقف عاشها الشاعر هي الأبرز، الى درجة انه صور المتنبي يطلب الدولة او الامارة بغية جعلها نموذجاً لدولة عربية واحدة، او منطلقاً لفكرة التوحد بين العرب، وحين انكسر هذا الحلم في وعيه وفي خياله معاً، تبين ان الدولة العربية الواحدة التي كانت اشتهاء في الماضي لم تزل اشتهاء في الحاضر، والعرب الذين اراد المتنبي توحيدهم لم يتوحدوا "بالسيف ولا بالقصيدة" كما يقول الرحباني، انها التداعيات القاتلة التي ترفع القناع عن حقيقة الضياع العربي كسمة بارزة لا تزال تضج. وثمة في سبك المواقف وبناء الشخصيات المسرحية تصاعد اشعل الخشبة بلهب خفي وواضح في وقت واحد. المتنبي ذلك الشاعر الذي كسر الطوق، وسيف الدولة الأمير الذي هزّ زمانه، وخولة الأميرة التي احبّت وماتت من الحب والكبرياء، وفاتك الأسدي طالب الثأر الذي كان خيط الحقد المستمر كما دائماً في تاريخ العرب، وكافور الأخشيدي لعنة الحكام وغيرهم... شخصيات تكثفت في المشهد المسرحي الى درجة الصفاء والعمق، وربط بينها منصور الرحباني رباطاً وثيقاً لم يخالطه وهن او تعب او تحلل. ومع ان خطورة الانتقال من بلد الى بلد كما في حياة المتنبي المعروفة كان يمكن ان تبلبل المناخ المسرحي لو انها ضعيفة البناء، او هشّة التواصل، او ركيكة الاندماج، فإن الرحباني حوّل ذلك الانتقال الى متعة تضاف الى ما قبلها في سلاسة، وكان الوصول من بلد الى بلد، انتظاراً لغامضٍ، وحركة في خيال المشاهد لم تهدأ قط بناء على عرف من حياة المتنبي وبناء على ما استجد في رأس منصور الرحباني من التعبير. ويمكن القول ان هذا الذي استجد في رأس الرحباني كان مضيئاً، سواء في اللحظات الخالدة الكبرى التي كانت تضيف الى رواية الحياة رواية اخرى من التوقع او السر او العتمة الساحرة، او في اللحظات البسيطة التي تجلت مشاهد في السوق او في المقهى او في أي مكان عادي. وقد ركب الرحباني في هذه المشاهد مركب العفوية في الاغنية الشعبية الراقصة التي تتطلبها مسرحية جدية كهذه، نبيلة كهذه، درامية وتراجيدية كهذه. اغنيات سهّلت عملية المعرفة الانسانية، وعملية الاحتكاك من تحت، اي عند العامة، في وقت كانت المسرحية تجري من فوق، وعند الخاصة الخاصة. ان من يتابع الخط التصاعدي في تجربة المخرج مروان الرحباني لا يلزمه وقت كثير ليرى سلسلة متعددة الحلقات اخراجياً. ففي "سقراط" لعب مروان لعبة المجاميع البشرية وشغل العين ببهرجة مدهشة، ثم في "وقام في اليوم الثالث"، وها هو في "المتنبي" يواظب على الميزة. كأن مروان مغرم تماماً بهذا النوع من الاخراج الذي يتجاوز التركيز على مكان واحد او على نقطة واحدة او حتى على ممثل واحد. غير انه عندما يلعب على الواحد يحترق جمالياً كما جرى مراراً في اداء كارول سماحة المنفرد غناء شهياً وتمثيلاً او مع غسان صليبا في الغناء المشرق والتمثيل، او في اداء جمال سليمان او فاتك الأسدي، وغيرهم. وثمة في تلك المجاميع سيطرة يمارسها مروان من دون تسلط حيث تأتي مغمّسة بشيء من الطبيعة اذ ان هناك مخرجين يلعبون هذه اللعبة ديكتاتورياً، فيبدو الحشد كالجنود المتأهبين حتى ولو كانوا راقصين، وهناك فارق بين الراقصين او الكومبارس او الجنود كما تقتضي حيوية العمل المسرحي وظروفه وطبيعته ونماذجه البشرية، واذا انكسر هذا الفارق اوضاع ضاعت معه اساسيات الممثلين، وتقنيات الاداء. ولم يكن منصور الرحباني وحيداً في الموسيقى. كان الياس الرحباني المتميز باسلوب هو بين الرشاقة والكلاسيكية، بين الخفة والثقل، بين الرقص والدعابة والرصانة. نادراً ما استطاع موسيقي ان يكون كل هذه الصفات معاً. من اول نغمة في اغنية ما او في قصيدة ما تقول هذا هو الياس الراقي الشعبي المتحرك على جدارة وبراعة وتحد. وكان غدي الرحباني واسامة الرحباني. ففي غدي هبوب عاصفة النوتات الموسيقية الذاهبة الى الحرب، والطنين الموزع بأناقة عزّ نظيرها على جمل موسيقية يخترع غدي مواصفاتها بموهبة تجيء باستمرار من مفاجأة. وفي اسامة الرحباني، هذا المجنون الرافض، تتمايل حيوية شباب يظل غير راضٍ عن شيء في ما يفعل، لكنه حين يرضى يكون قد فعل الأجمل. وهذا شيء من قدر الرحباني الاّ يُعجب بما كان، ترقباً لما سيكون، وهناك الحياة. في "أبو الطيب المتنبي" المسرحية انقطاع الى الماضي كرسالة، ثم عودة الى الحاضر كرسالة ايضاً. الرسالة الاولى تؤدي دورها، لكن الرسالة الثانية تستفيق على اوجاع وعلى خيبات وعلى تقطع اوصال، فلا المتنبي يعود سعيداً ولا منصور الرحباني يعيش حلمه الا على الخشبة. دائماً كانت الخشبة خلاصاً...