تميّز رئيس الوزراء البريطاني الراحل ونستون تشرشل بحسه الاستراتيجي، وببعد نظره. فهو ارتاح عندما هاجمت اليابانالولاياتالمتحدة في بيرل هاربر. وقال: "... في هذه اللحظة، عرفت ان اميركا دخلت الحرب الى جانبنا، وبأننا ربحنا هذه الحرب. فمصير كل من هتلر وموسوليني اصبحا معروفين. سذج هم الذين يخطئون في تقدير قدرة الولاياتالمتحدة. البعض يقول عنها انها طرية العود. لكنني درست تاريخ الحرب الأهلية الأميركية، وتذكرت ما قاله لي ادوارد غراي عن اميركا: "انها كقدر غلي الماء العملاق، ما ان تشعل النار تحته، حتى يبدأ بتوليد طاقة لا حدود لها". ودخلت الولاياتالمتحدة الحرب الى جانب الحلفاء، وحددت بذلك نتيجة الحرب. بعد الحرب العالمية الثانية، تحوّل الحلفاء الى اعداء، ليعيش العالم حرباً باردة دامت تقريباً نصف قرن. كان لهذه الحرب استراتيجيتها ووسائلها، وتحولت الحروب الى محدودة بعد ان كانت شاملة، فكانت الحرب الكورية، الفيتنامية... الخ، كل ذلك خوفاً من التدمير الشامل المتبادل بين العملاقين. سقط الدب الروسي وخلا المسرح العالمي للنسر الأميركي. وعرّف بعضهم في هذا الإطار وبطريقة تهكمية الشيوعية بأنها "أطول طريق بين الرأسمالية والرأسمالية". استمرار دولة عظمى على سدة السيادة العالمية، يتعلق مباشرة في قدرتها على تأمين وسائل السيطرة على مقدرات العالم، وفي قدرتها على توفير ثمن هذه الوسائل. لذلك يقول المفكر الأميركي بول كينيدي في كتابه "صعود القوى الكبرى وسقوطها": "الدولة الكبرى بحاجة الى المال والقوة. المال كي تستمر القوة، والقوة كي تحمي هذا المال. لكن عملية التآكل المتبادلة بين الاثنين تؤدي في نهاية المطاف الى السقوط بسبب الوهن". سعت اميركا خلال صراعها مع الشيوعية الى السيطرة، فخلقت الوسائل الضرورية لذلك. وتمثلت هذه الوسائل في كل الأبعاد. الديبلوماسية منها، والاقتصادية وبالتأكيد العسكرية. فكان على سبيل المثال لا الحصر، صندوق النقد الدولي، ونظام بروتون وودز، وكانت الأممالمتحدة، وأنشئ حلف الناتو. اما على الصعيد الإقليمي، سعت الولاياتالمتحدة الى اقامة انظمة امنية، وانتشرت عسكرياً في الكثير من الأماكن المهمة استراتيجياً. حتى انها نظّمت جيشها وعقيدته العسكرية الاستراتيجية للتوافق بشكل تام مع اهداف السيطرة. فأنشأت مثلاً القيادات الإقليمية الأميركية العسكرية في كل مسارح الحرب المحتملة، أوروبا، آسيا، اميركا اللاتينية... الخ. لو قدّر لتشرشل ان يعيش اكثر، لكان عايش تفرد بطله المفضل بمصير العالم. ولكان تأكد شخصياً من تحقق توقعاته. ولكان راقب خلفه توني بلير وهو يدور العالم كوزير خارجية اميركي بالوكالة، مهمته تسهيل قيام التحالف العالمي في الحرب الأميركية على الإرهاب. لكن وضع اميركا الآن يختلف عما كانت عليه ايام تشرشل. فهي كانت دولة كبرى واحدة من ضمن نظام متعدد الأقطاب. اما الآن، فهي الدولة العظمى الوحيدة، في ظل وجود دول كبرى متعددة تبدو عاجزة او غير راغبة في المجابهة، او حتى في المعاندة، ما الذي يميّز اميركا الآن عن غيرها؟ تتميز الآن في قدرتها الاقتصادية الضخمة، وفي قدرتها على التدخل عسكرياً في اي مكان من الكرة الأرضية. وازدادت هذه القدرات في ظل عجز الأفرقاء الباقين. والدليل على ذلك هو رفضها الكثير من الاتفاقات الدولية والمعاهدات، وتفرّدها في القرارات المصيرية. إذاً الهدف الأميركي هو استمرار السيطرة، لكن كيف؟ في الاستراتيجية الكبرى: اولاً، شكلت مبادرة الدفاع الاستراتيجية، والتي أطلقها الرئيس رونالد ريغان اول خرق استراتيجي لموازين القوى التي كانت قائمة في حينه بين الجبارين. فهي من حيث المفهوم تجعل النووي الروسي العابر للقارات من دون جدوى. وهي تفرض من جهة اخرى على السوفيات ضرورة الاستثمار في هذا المجال، الأمر الذي يضع اعباء جمة على اقتصاد ساقط اصلاً. واستمرت هذه المبادرة حية بعد اعلان الرئيس بوش عن نيته في الاستمرار ببناء الدرع الصاروخي، وعن قراره في إلغاء معاهدة ال اي بي ام كان الهدف من هذا القرار تثبيت هذا الخلل الاستراتيجي مع كل القوى الكبرى القائمة حالياً. وانتقد كل من الحلفاء والخصوم هذه القرارات، معتبرين انها سوف تؤدي الى فوضى عالمية، وإلى سباق تسلح قد لا يعرف احد الى أين سيؤدي. ثانياً، صدم البيت الأبيض حديثاً المفاوضين الروس عن موضوع تدمير الرؤوس النووية، التي كان يفترض التخلص منها بناء لاتفاقات سابقة، وعددها 4000، وذلك عندما اعلن انه سوف يخزّنها بدل تدميرها. ماذا تعني هذه الخطوة؟ في الشق الروسي، تعني المزيد من الأعباء الاقتصادية في حال قرر الرئيس فلاديمير بوتين عدم تدمير صواريخه. فروسيا لا تستطيع الاحتفاظ برؤوسها النووية في ظل موازنة عسكرية خجولة جداً 9 بلايين دولار، في مقابل موازنة عسكرية اميركية تتجاوز ال379 بليون دولار. انها رسالة من بوش لبوتين تقول له: "الأمر لي". فإذا ما قررت المواجهة، هناك ثمن باهظ، اما التعاون يعني تسلمنا زمام الأمور. اما في الشق الصيني، فهو يعني انهاء سباق التسلح قبل بدئه. فالصين لا تملك اكثر من 25 صاروخاً نووياً عابراً للقارات، وهي بعيدة جداً من العدد 4000. وهي اذا ما قررت تحديث ترسانتها، فما عليها إلا الاتعاظ من الدرس الروسي. ثالثاً، بعد 11 ايلول سبتمبر احتل شعار "الحرب على الإرهاب" صدارة الاهتمامات الأميركية. فهو سوف يحدد ويرسم صورة السياسة الخارجية وشكلها، على الأقل في المدى المنظور عقد من الزمن. وهو سيحدد ويرسم صورة النظام العالمي الآتي. فمنه ستنطلق الهواجس الأمنية، وأخطارها على الاستقرار العالمي في ابعاده المتعددة. ومنه واستناداً إليه سوف تؤمن اميركا الوسائل الناجعة والضرورية لمزيد من السيطرة والهيمنة. ومنه سوف ترسم اميركا التحالفات الدولية والإقليمية التي تؤمن لها مصالحها الحيوية. ماذا تعني هذه الأمور؟ إذا ما أضفنا قرار بناء الدرع الصاروخي، الى قرار تخزين الصواريخ النووية الأميركية بدل تدميرها، الى الغاء معاهدة اي بي ام، وذلك في ظل سقوط الاتحاد السوفياتي، وعدم تقدم احدهم للمقارعة فإننا نستنتج الآتي: تفرد وهيمنة اميركية من دون رادع أو منازع. قدرة اميركا على ضرب من تريد من دون الخوف من تدخل احد. وليس على غرار ما حصل خلال الحرب الفيتنامية عندما ترددت اميركا في ضرب هانوي خوفاً من الرد السوفياتي. فهل لا يزال هذا الأمر قائماً الآن؟ عدم وجود خيارات سياسية امام الدول من الدرجة الثانية، او الثالثة، فهي اما مع اميركا او ضدها، اما عدم الانحياز فهو مفهوم عفا عليه الزمن. في الاستراتيجية الإقليمية: على رغم كونها القوة الأعظم، لا تستطيع اميركا ان تتدخل في اي زمان ومكان ولفترات طويلة. فلقدراتها العسكرية والاقتصادية حدود لا بد من التوقف عندها. لذلك سوف تتشارك مع الحلفاء في الثمن المدفوع، وفي التنفيذ العملاني. لكنها بالتأكيد ستكون الرأس المدبّر. منها ستنطلق النواة لأي تحالف سياسي، ولأية عملية عسكرية مستقبلية. لذلك تسعى الى رسم التحالفات الإقليمية على سطح الكرة الأرضية. وهي حتماً تسعى لتعديل عقائدها العسكرية الإقليمية خصوصاً بعد الدروس المستقاة من الحرب الأفغانية. فقد نشهد مثلاً موت او تعديل "مفهوم خوض حربين اقليميتين في الوقت نفسه" لصالح عقيدة جديدة تتناسب والمتغيرات. كيف تبدو الصورة الإقليمية التي تسعى إليها اميركا؟ تسعى الولاياتالمتحدة حالياً الى تشجيع الدول الصديقة على اعتماد استراتيجيات جديدة تتناسب مع الأهداف الأميركية. في الوقت نفسه تحاول الضغط على كل دولة ممانعة بطرق مختلفة. فهي مستعدة للمساعدة العسكرية والاقتصادية لكل من يرغب في دخول لعبتها. لذلك تدخل الفيليبين من خلال بعض القوات الخاصة، وتساعد اليمن مادياً لأنها قررت ضرب بعض جيوب تنظيم "القاعدة". كذلك تضيف الى المساعدات الإسرائيلية السنوية مبلغ 25 مليون دولار لشراء آلات كاشفة للمتفجرات. من جهة اخرى تسمح لشارون بقتل الانتفاضة وإنهاء العملية السلمية المتمثلة باتفاق اوسلو. وتضغط على كل من لبنان وسورية لضبط حزب الله. ماذا يجري في المسارح الإقليمية؟ الشرق الأقصى: تحاول الولاياتالمتحدة نسج خيوط تعاون بين الأصدقاء، او لمن يرغب لتكوين نظام تعاون إقليمي في كل الأبعاد. يستند هذا النظام من الناحية العسكرية الى نواة اميركية تعتبرها كنخبة في الميدان القتالي، على أن يضاف إليها عسكر من قبل الحلفاء. ففي الفيليبين مثلاً، يمنع الدستور اي جيش غريب من القيام بعمليات عسكرية داخل البلاد. لكن هذا الأمر مسموح في ظل التعاون في مجال التدريب والمساعدة الفنية. اميركا ايضاً ستؤمن كل ما يلزم في المجال الاستخباراتي والمعلومات. وقد ينشأ لهذا الأمر غرف عمليات مشتركة او اي جهاز معين مشترك. ونعرف ايضاً ان الرئيس بوش وعد تايوان بعتاد عسكري متطور، كما انه عاد وتعهد بالدفاع عنها. كذلك الأمر، هناك محاولات لإحياء دور الجيش الياباني الأمني وتعديل المادة 9 من الدستور الياباني. ويبدو ان هذا التعاون بدأ يمتد الى الهند مروراً بسنغافورة وماليزيا. فصحيفة "دايلي نيوز" تايوان ذكرت بتاريخ 2 كانون الثاني يناير 2002، ان تعاوناً عسكرياً بدأت ملامحه بالظهور بين تايوانوالهند. وتساءل البعض عن موقف الصين من كل هذا. الجواب يتمثل بصورة واضحة في الرد الصيني الخجول جداً على حادث زرع آلات تنصت في الطائرة الرئاسية الصينية التي عدلت في الولاياتالمتحدة. ويتمثل ايضاً في ما آل إليه مؤتمر شانغهاي - 6، من تهميش. فهو هدف الى بناء ارضية تعاون امني بين الأعضاء الستة خصوصاً في مجال مكافحة الإرهاب. لكن وبعد العملية الأميركية في افغانستان، يبدو ان مصير آسيا الوسطى هو في يد كل من روسياوالولاياتالمتحدة. من هنا نرى إلحاح بكين وعند الخوض في اي امر دولي، رغبتها في العودة الى الأممالمتحدة. من آسيا الوسطى الى الشرق الأوسط: يخطئ من يعتقد ان اميركا ستغادر افغانستان بعد انتهاء العمليات العسكرية. فمرحلة استغلال النجاح تلي عادة مرحلة النصر على ارض المعركة. لذلك هي عقدت مع الدول المحيطة ضمناً باكستان اتفاقات على السماح لجيشها بالبقاء في المنطقة. وهذا الجيش سيكون على غرار ما ذكرناه النواة الأساسية لأي تحرك عسكري في المستقبل، حتى انها فتحت باب التعاون العسكري المتقدم على مصراعيه بين الهند وإسرائيل. يضاف الى هذا وجودها الفعلي في الخليج وتركيا، وهي قد فتحت النار الديبلوماسية على الدول العاصية في المنطقة ابتداء من ايران، العراق وصولاً الى سورية. وهي تبدو قلقة من خطر تشكل المثلث الإيراني الفلسطيني مع حزب الله. إذاً من خلال هذه الصورة المختصرة لما أنتج بعد 11 ايلول، يبدو ان توقع الرئيس الأميركي ت. روزفلت تحقق. فهو الذي آمن بأن القرن العشرين هو قرن الرجل الأبيض الناطق باللغة الإنكليزية. وبهدف تثبيت هذا التفوق الأميركي في القرن 21، يقول بعض المحللين ان اميركا سوف تسعى الى رفع مستوى الجاهزية العسكرية للحلفاء الدائمين الذين يتّكل عليهم عند اشتداد الأزمات. لكنها في الوقت نفسه تخاف كما الأصدقاء من خطر اسلحة الدمار الشامل والتي بدأت بالانتشار السريع. في ظل هذا الوضع، ستلجأ اميركا الى ربط التحالفات الإقليمية بشبكة الدرع الصاروخي التي تسعى هي الى بنائه، على ان تكون القواعد الرئيسة في البلدان الحليفة من الصف الأول، كإسرائيل، الهند، وتايوان. فلا عجب مثلاً ان ترحب الهند وحدها بمبادرة الدرع الصاروخي التي أطلقها الرئيس بوش، من بين كل الدول الكبرى. ولا عجب ايضاً ان تزودها إسرائيل بطائرات الإنذار المبكر، التي قد تكون مستقبلاً جزءاً مهماً من الشبكة المنوي اقامتها. ولا عجب ايضاً أن تسعى الولاياتالمتحدة بكل ما تملك للضغط على كل من روسياوالصين، لمنعهما من تصدير التكنولوجيا المتقدمة لإيران. * كاتب لبناني، عميد ركن متقاعد.