يعتبر تدعيم النفوذ الأميركي في آسيا الشرقية، في مطلع القرن الواحد والعشرين، من الأولويات الأساسية للقيادة العسكرية - السياسية العليا في الولاياتالمتحدة. والظروف التي تواجه واشنطن في نشاطها بالمنطقة تعقدت كثيراً مقارنة بفترة الحرب الباردة، فقد نما نفوذ الصين وهيبتها، وكذلك نشاط روسيا، ما جعل المنافسة تتفاقم حدتها مع الولاياتالمتحدة على المواقع في المنطقة. ويقود البيت الأبيض المعركة تحت شعار الحرص على دعم الاستقرار والأمن الإقليميين، لذلك فإن السياسة الخارجية الأميركية في المنطقة تستخدم كل الوسائل الممكنة، بما فيها وسائل القوة. وهذه تضمن لها تفوقاً عسكرياً ذاتياً، وتساعد على تعزيز التحالفات العسكرية التي تشكلت في فترة الحرب الباردة، مع اليابان، وكوريا الجنوبية وتايوان. أما الوسائل الأخرى فترمي إلى محاولات تكوين مؤسسات دولية جديدة، من اجل تسلم القيادة، حيث تبدو أميركا جاهزة للقتال في سبيل ذلك حتى النهاية. وأهم اتجاهات سلوك أميركا في آسيا الشرقية يتلخص بكبح الصين وتهدئتها، بعدما ازداد ثقلها في المجالات الاقتصادية والسياسية – العسكرية. وسيزداد اعتماد الولاياتالمتحدة على التعاون العسكري- السياسي مع اليابان، مع أن هذه بدورها، تبحث لنفسها عن دور اكثر استقلالاً، في إطار مكانها السياسي والعسكري الخاص بها المتلائم مع مصالحها، وستكون واشنطن مرغمة على الأخذ بالاعتبار مصالح روسيا المتنامية في منطقة آسيا، والتي أصبحت اكثر وضوحاً وقوة. يتركز اهتمام أميركا أيضاً على جذب بلدان آسيا الوسطى ومنغوليا وفيتنام إلى مجال نفوذها، ودق إسفين في العلاقات الروسية – الصينية ومنع تدعيم منظمة شنغهاي للتعاون التي تشترك فيها روسيا والصين مع بلدان آسيا الوسطى، وستبذل أميركا جهودها لإعاقة الاتجاه نحو توحيد الكوريتين، لمنع قيام مركز قوة جديد معاد لها، وأخيراً تتابع واشنطن استخدام « العامل التايواني» لكبح الصين كمزاحم استراتيجي وسياسي لها في آسيا الشرقية. أصبحت الصين القوة الاقتصادية العالمية الثانية بعد الولاياتالمتحدة، وتستمر بتحقيق معدلات نمو مرتفعة، على رغم الأزمة المالية – الاقتصادية العالمية التي لم تؤثر فيها، وفي عام 2010. ازداد معدل نموها عن 8 في المئة. وفي حين بلغت قيمة الناتج المحلي الإجمالي لديها 5.88 تريليون دولار، بلغت لدى اليابان 5.47 تريليون دولار. كل ذلك يسمح بتطويرها في مختلف المجالات، وتحقيق طموحاتها بالوصول إلى المرتبة الأولى في العالم اقتصادياً وعسكرياً، مع ما يتبع ذلك من نتائج سياسية. وتقوم استراتيجية الصين على تعزيز قدراتها العسكرية بما يتلاءم مع قوتها الاقتصادية المتنامية «وحماية مصالحها الوطنية وأراضيها»، مع «عدم توجيه ذلك ضد أي بلد»، على ما تزعم قياداتها. لكن ذلك يثير قلق أميركا وبلدان منطقة آسيا الشرقية بالدرجة الأولى. والخوف ازداد جراء عدم شفافية الموازنة العسكرية الصينية التي ارتفعت هذا العام بنسبة 12.7 في المئة وبلغت 91.5 بليون دولار. مع أن الأميركيين يقدرونها في حدود 150 بليون دولار، بينما موازنة الولاياتالمتحدة الأميركية تصل إلى 700 بليون دولار، 20 في المئة منها تذهب نفقات على حرب العراق وأفغانستان. وفي الصين تبقى المعلومات سرية عن القوى الصاروخية الاستراتيجية. والمعروف أنها تملك 90 صاروخاً باليستياً عابراً للقارات من أنواع مختلفة، و180 رأساً نووياً تحملها صواريخ جاهزة للقتال، ومجموع الرؤوس النووية يصل الى240، ولديها حاملة للطائرات «فارياغ» مستوردة من أوكرانيا في العهد السوفياتي، تم إصلاحها وإعادة تجهيزها. ويكتفي الصينيون ببناء أسطول لحاملات الطائرات، وفاجأوا العالم بإطلاق «الطائرة الشبح» ( ج-20) المحتمل أن تكون من الجيل 4 + بالاعتماد على تقنية ستلس المضادة للرادارات، وهم يعملون على بناء صواريخ بالستية جديدة. وأكثر ما يخشاه الأميركيون هو الصاروخ المضاد للسفن الذي يطلقون عليه اسم «قاتل حاملات الطائرات». وتركيز الصين حالياً على تطوير القوة العسكرية الجوية والبحرية، يعود إلى أن ثلثي الطائرات والسفن الحربية لا تتلاءم مع المطالب المعاصرة، ولا يمكنها منافسة الأعداء وهي تسعى أيضاً في تطوير قواها الاستراتيجية، ومن ضمنها أسطول من الغواصات النووية، وقاذفة للقنابل. وخلال 10 سنوات قد تظهر لدى الصين مقاتلات حقيقية من الجيل الخامس، على غرار طائرة – 35 الأميركية وت -50 الروسية الأكثر تطوراً في العالم. وبدأت الصين العمل على تكوين وإنتاج احدث الصواريخ الباليستية القادرة على إصابة أي نقطة على الكرة الأرضية. وهذا سوف يساعدها على التخفيف من أي خطر عسكري قد يأتي من أميركا. وفي الوقت الراهن، فإن صواريخها الباليستية قادرة على إصابة 60 في المئة من الأراضي الأميركية فحسب، بينما صواريخها الجديدة قد تحول المدن الأميركية الأساسية إلى أطلال تغمرها الإشعاعات النووية. ويعترف الأميركيون بأن الصين تستطيع تدمير 5 من 6 قواعد عسكرية أميركية موجودة في منطقة آسيا. وتتميز الصين بأنها أصبحت تعتمد بصورة أساسية على صناعتها الداخلية للسلاح، ولم تعد متخلفة تكنولوجياً كما في السابق. وهي في ذلك تمزج نماذج الأسلحة الغربية والروسية بذكاء ومهارة، لإنتاج أسلحتها الخاصة بها ومن كل الأنواع، وهي لم تعد تعتمد على الكمية، بل تركز على الصفات النوعية للأسلحة ورفع مستوى فعاليتها. ومن أسباب تحديث تسلح الصين هو انه في ظل استمرار ارتفاع معدلات نموها، تزداد حاجتها لأسواق المواد الأولية التي يوجد معظمها لدى الولاياتالمتحدة والبلدان الغربية الأخرى وهذا يفضي إلى ازدياد المنافسة عليها وعلى أسواق تصريف السلع، وربما إلى نشوء نزاعات خطيرة. وعلى رغم أن الجيش الأميركي في منطقة آسيا الشرقية هو الأقوى إلا أن واشنطن تسعى أيضاً في تعزيز قدرات حلفائها العسكرية في مواجهة «الخطر الصيني» الزاحف. وهي تجد نفسها مرغمة على تطوير وتدعيم تسلحها، والإسراع ببناء وصناعة قاذفة تحمل سلاحاً نووياً ومخصصة للمسافات البعيدة، والطائرات المقاتلة ف – 35 والوسائل المضادة لأنظمة إطلاق الصواريخ الموجهة ضد السفن الحربية. والصين تعتبر أميركا والهند عدويها الأساسيين، بينما تخشاها فيتنام كثيراً، والخطر الصيني الكامن يؤدي إلى سباق محموم للتسلح وغير معهود من قبل. فاليابان تنوي بين 2011 و2015 إنفاق 484 بليون دولار من اجل تحديث وتعزيز قواها الدفاعية، وأستراليا رصدت 279 بليون دولار لتنفيذ برامج خلال 20 سنة لتعزيز قدراتها العسكرية، وبناء سفن حربية مقاتلة. وانفاق كوريا الجنوبية على إعادة تسلحها خلال 15 سنة، والذي بدأ منذ عام 2006، يقدر في حدود 550 بليون دولار. إلى ذلك فإن الدولة العظمى الهند، تبلغ موازنتها العسكرية 32 بليون دولار، وهي تنمو سنوياً بنسبة تزيد على 8 في المئة. وبرنامجها العسكري موجه بصورة أساسية ضد الصين، اكثر مما هو ضد عدوتها التقليدية باكستان. ووضع تايوان يقلق الولاياتالمتحدة، في ظل استمرار عزم الصين ضمها سلماً أو حرباً. والبرودة الظاهرة في العلاقات الأميركية – التايوانية سببها الأساسي، انتقال تايبيه من المجابهة الحادة مع بكين في فترة 2003 – 2008 إلى إقامة صلات وثيقة متعددة الأوجه، بعد انتخاب ممثل حزب غوميدان ما انتسزيو رئيساً للبلاد، بدلاً من الرئيس السابق تشين شويبيانيا ممثل الحزب الديموقراطي التقدمي، المؤيد لاستقلال الجزيرة. ورغم ذلك لا يوجد حتى الآن أي تقدم في المجال السياسي. وبكين لا تنفي إمكانية ضم تايوان إليها باستخدام القوة العسكرية. والرئيس انتسزيو يؤكد دائماً تمسكه بمبادئه التي أعلنها في خطاب القسم وهي: «لا للوحدة، لا للاستقلال، لا لاستخدام القوة العسكرية». وحتى كانون الأول (ديسمبر) 2009 نصب في الصين 1150 صاروخاً باليستيا تقريباً، قصيرة المدى ومتطورة. ويبقى التعاون العسكري بين أميركا وتايوان هو الأساسي في تعاونهما، وباعتها أميركا أسلحة متطورة بقيمة 6.5 بليون دولار، مع وعود بعقد صفقات جديدة بقيمة 10.4 بليون دولار. وكان الرد الصيني على ذلك قاسياً وحازماً ما اضر بالعلاقات الصينية – الأميركية، مع أنها تعتبر من اكبر المقرضين والشركاء التجاريين للولايات المتحدة التي تصر على تخفيض قيمة عملتها الوطنية (اليوان) لتعديل الميزان التجاري بين البلدين الذي يميل بنسبة مرتفعة لمصلحة الصين، والإجراء هذا يتعارض مع مصالح الصين ببلايين الدولارات. وعلى ما يرى أ. فويتينكو ويا.ليكسيونينا، فإن استمرار اتجاهات التقارب في العلاقات الصينية – التايوانية سوف يرغم واشنطن على البحث عن مكان لها في العمليات الجارية. وانتهاج استراتيجية جديدة لتطوير التعاون مع الأخذ بالاعتبار المناخ السياسي المتغير في المضيق التايواني. ومع الأخذ باعتبار أن الصين لم تتخل عن احتمال استخدام القوة العسكرية ضد تايوان، وقدراتها العسكرية المتنامية، فعلى الولاياتالمتحدة أن تتصرف بحذر في سلوكها تجاه الجزيرة كي لا تتخطى «الخط الأحمر». والقيود على سياسة البيت الأبيض تجاه تايوان يفضي إلى نشوء تحفظ لدى السلطات التايوانية في بعض أوجه التعاون المتبادل. ونشاط الولاياتالمتحدة تجاه تايوان على خلفية الحوار الصيني – التايواني يمكن أن تنظر إليه الأسرة الدولية كمعيق لعملية إعادة التوحيد السلمي لجزءي الصين اللذين ضمتهما سابقاً دولة واحدة. ويندهش بعض المراقبين الروس من موقف موسكو اللامبالي تجاه تسريع الصين عملية تحديث قدراتها العسكرية وتعزيزها. وهي تؤكد أن العلاقات الروسية – الصينية العسكرية جيدة، وأنها لا تخشى من «طائرة الشبح « الجديدة لأنها ما زالت بعيدة عن مستوى تطور طائرة – 50 الروسية، من الجيل الخامس. ويرى الكسندر خرامتشينكين أن الموقف هذا « محير» و «مذهل». وفي رأيه أن هدف الصينيين الأساسي هو احتلال الأراضي الروسية وهم ما زالوا يؤمنون بأن العهد القيصري أرغمهم على عقد «اتفاقات غير عادلة» تخلوا بموجبها عن مليون كيلومتر مربع من أراضيهم إلى روسيا. وامتلاك روسيا للسلاح النووي لا يخيف الصين لأنها أيضاً تملك مثله. إلى ذلك فإن الصين سوف تصبح دولة منافسة أساسية لروسيا في سوق الأسلحة العالمي، نظراً لانخفاض أسعار أسلحتها مقارنة بأسعار الأسلحة الروسية من النوعية نفسها. وحتى الآن يبقى لغزاً تحليق إحدى المقاتلات الروسية الحديثة في منطقة مناورات عسكرية أميركية – يابانية جرت في بحر الصين الشرقي منذ اشهر عدة تحت اسم «السيف الحاد»، واعتبرت بكين المناورات هذه موجهة ضدها وضد حليفتها كوريا الشمالية، وعلى روسيا الأخذ بالاعتبار تسلح اليابان لوجود مشكلة وخلافات معها حول ملكية جزر الكوريل التي احتلتها في عام 1945 وترفض التنازل عنها لليابان. لذلك فإن أميركا تحرض اليابان على الاستعداد للقتال ضد الروس لاسترجاعها بالقوة. وهذا يدفع الروس إلى تعزيز قدراتهم الصاروخية في المنطقة هذه، ونظراً للمخاطر الكبيرة الناجمة عن سباق التسلح الضخم والمحموم في آسيا الشرقية، على الولاياتالمتحدة إقناع الصين باعتماد الحوار البناء لحل المشاكل القائمة، بدلاً من توسل القوة العسكرية المدمرة. * كاتب لبناني