قد لا يكون الصدى الإعلامي والدعائي، والواسع نسبياً، الذي لقيه كتاب عالم الاجتماع الفرنسي المعروف بيار بورديو، والصادر قبل أشهر قليلة عن دار "سوي" في باريس بعنوان واضح وصريح وهو "السيطرة الذَكَرية" أو الذكورية، هذا الصدى قد لا يكون عائداً بالضرورة الى الكتاب نفسه. فالغالب أن الصدى المشار اليه يرجع الى صدور الكتاب في خضم سجال ومناظرة يدوران على شخصية بيار بورديو وعلى دعوته النظرية والعملية في آن، والى تجديد الانخراط المثقف في الصراعات الاجتماعية والى توظيف المعرفة السوسيولوجية في هذا الصراع. بدا للكثيرين أن بيار بورديو وأصدقاءه يطمحون الى استعادة صورة "المثقف الكلّي" التي جسدها في الستينات جان - بول سارتر، أو صورة "المثقف الخصوصي" كما جسّدها ميشال فوكو، وليس هنا مجال الخوض في دلالات الظاهرة التي بات يشكّلها بورديو وحلقته المتزايدة الاتساع والتي تثير ردود فعل صادرة عن أوساط مثقفة من مختلف المشارب والحسابات والمصالح. وهذا لا يمنعنا من الاعتقاد بأن دعوة بورديو ومشاركته في حركات اجتماعية بما في ذلك وقوفه العلني الى جانب العاملين في سكك الحديد والنقل المشترك خلال الاضراب الذي حصل في نهاية عام 1995 والذي شلّ الحركة في فرنسا مدّة شهر تقريباً، أن دعوته ومشاركته أمر شرعي ومحمود. ما يعنينا الآن، أي في معرض الحديث عن كتاب بيار بورديو الدائر على "السيطرة الذكرية" بفتح الذال والكاف، يتعلّق بالدرجة الأولى في طريقة تعهد عالم الاجتماع الفرنسي الذائع الصيت لموضوعه الحساس والشائك، وكذلك في طريقة تسجيله لهذا الاضطلاع المعرفي لسلطة الذكور على الإناث في منظار فكري يحسب له وثوق الصلة مع سياسات الاحتجاج والنضال والمقاومة ضد سائر أشكال السيطرة، على وجه العموم، وسياسات حركات المقاومة النسوية، على وجه الخصوص. وها هنا، نقع على مفارقة، بل مفارقات، تكاد تسم كتاب بورديو كلّه. ويمكن القول أن المفارقة الأساسية تكمن في حرص الباحث على التمييز بين الأنصبة والمستويات التي تتسجل فيها السيطرة الذكرية، بما في ذلك الطقوس والتعابير والتمثيلات الواعية واللاواعية أي الأناسية في الحالة الأخيرة باعتبارها كلها مدار عنف رمزي يجري تطبيعه وتجذيره وترسيخه في الأجساد والعقول، وهو عنف يتوخّى إثبات وإدامة السيطرة الذكرية على أن هذا الحرص الذي يفصح عنه بورديو مستعيناً بمفاهيم وأفكار ومعادلات نظرية شديدة التكثيف والذكاء والتجريد، لا يمنعه، على ما يبدو، من إرجاع هذه التمييزات والتدقيقات المعرفية الى مشروع كفاحي واحتجاجي. وفي الأمر شيء من الاختزال إذ أن هذا الإرجاع يحصل تقريباً من دون وسائط، بحيث يبدو كما لو أنه اضافة أو من قبيل لزوم ما لا يلزم، بعبارة أخرى، يبدو كتاب بورديو الدائر على تحليل سوسيولوجي - إناسي للسيطرة الذكرية متفاوتاً، إذ يتأرجح بين البحث المعرفي المستقل، وفيه تكثيف وضغط لجملة المفاهيم "الأفكار العزيزة على بورديو، وبين استعادة عبارات ومقولات وأفكار شائعة ومعروفة خصوصاً في أدبيات الحركات النسوية في الغرب. وهذا التأرجح الخفي بعض الشيء يجعل الكتاب حمّالاً لأوجه تفسير مختلفة، ويحتمل بالتالي قراءات متضاربة، بحيث يصبح اتفاق القارىء مع المؤلّف يشترط التعاطف وربما الولاء المسبقين. الى ذلك، وفي الإطار المعرفي المحض، ثمة ما يستدعي التساؤل عن مدى صلاحية التعيين البورديوي نسبة الى بورديو لمادّة موضوعه ومبحثه. فهذه الأخيرة تجمع بين نص أدبي روائي للكاتبة الأميركية فيرجينيا وولف التي تتناول السيطرة الذكرية في كتابها "نزهة الى المنارة" وبين تنظيم اجتماعي قائم على مبدأ "المركزية الذكرية" المتمدّد في ثنايا تمثيلات وطقوس وعوائد راسخة في مجتمع منطقة القبائل الجزائرية، وهو مجتمع يعرفه بورديو جيداً إذ سبق له أن تناوله عن قرب وخصّص له عدّة دراسات، ويشفع بورديو هذا التوليف لمادة بحثه بملاحظات مأخوذة من واقع المرأة الحديثة في المجتمع الغربي في أيامنا هذه، على أن هذه الملاحظات ملتقطة في صورة انتقائية بحيث تبدو أقرب الى الانطباعات منها الى التوصيف العلمي الدقيق، وان كنّا لا نشك في نزاهة ونبل مقصد بورديو. والحق أن ما يثير التساؤل لا يكمن بالضرورة في الطبيعة المركبة والتوليفية لمادة تتوزّع عناصرها على مدارات ومستويات مختلفة، إذ يحق للباحث أن يبني موضوعه كما يريد، خصوصاً عندما يكون هاجسه هو دراسة مشكلة أو مشكلات، كما كانت حال ميشال فوكو عندما درس تاريخ الجنون والجنسية والسجن وأثار آنذاك احتجاج وحفيظة المؤرّخين. ما يثير التساؤل، في حالة بورديو، يكمن في إحالته شبه القسرية لمدارات موضوعه الى أصل وجوهر يخترقان سائر المجتمعات والثقافات من دون التفات الى الفوارق الهائلة في الشروط التاريخية والثقافية لاشتغال هذا المحسوب أصلاً وجوهراً، أي السيطرة الذكرية. على أن بورديو يكافىء هذا بنقد نظري للمذهب "الجوهراني" وبإصرار نظري أيضاً على فكرة التاريخية، وفي الأمر، ها هنا أيضاً مفارقة. يمكننا الآن أن نعرض الأفكار الرئيسة للكتاب. الفكرة الأولى تقول بأن التمييز بين الذكور والإناث، وما يترتب على هذا التمييز والفصل من نتائج وتبعات عملية، لا يعود الى فعل الطبيعة والتكوين الإحيائي البيولوجي، بل الى عملية إنشاء وبناء يتولاها المجتمع ومنطق السلطة الذي يحكمه. فالجسد من حيث هو واقع "مجنسن" أي محمول على قوام ومبدأ جنسي محدد ليس سوى ثمرة ونتاج اجتماعيين، وهو واقع تتعهده مؤسسات اجتماعية وثقافية فاعلة ولو بتفاوت، وفي مقدّمها العائلة والكنيسة والدولة. ويعتبر بورديو أن القوة التي تتمتع بها على وجه الخصوص "المركزية الاجتماعية الذكرية"، إنما تتأتى وتتحصّل من واقعة أن هذه المركزية تراكم وتكثّف عمليتين "فهي تشرعن علاقة سيطرة من خلال تسجيلها في طبيعة إحيائية بيولوجية هي نفسها عملية بناء اجتماعية جرى تطبيعها"، أي إحلالها وتمثلها في صورة الأمر الطبيعي. وفي هذا السياق تتبدى دلالة المواصفات التي يجري إطلاقها وتعميمها على "حقيقة" المرأة وكينونتها. الفكرة الثانية مفادها أن النساء يشاركن كما الرجال في ترسيخ وإدامة السيطرة الذكرية. وهنّ لا يفعلن ذلك بسبب ميلهن الى حبّ العذاب، بل وفقاً لمنطق يحكم علاقة المظلومين والمقهورين والمسيطر عليهم بالحاكمين والمسيطرين، على وجه العموم. وهذه الفكرة ماثلة على الدوام في سائر أعمال بورديو، وتعتبر أن الرازحين تحت عبء السيطرة يتعقلون ويتمثلون علاقتهم بأهل السيطرة والرئاسة والسؤدد وفقاً لمقولات وأفكار وعبارات هؤلاء الأخيرين. وهنا يتجلى ثقل ووزن "العنف الرمزي". ولئن كان مفهوم "العنف الرمزي" أحد المفاهيم المركزية البارزة والراسخة في فكر بورديو، فإن هذا الأخير يفتح أقواساً لإزالة وجوه اللبس وسوء الفهم التي طاولت هذه المفاهيم. فقد رأى البعض، بحسب بورديو، أن صفة "الرمزي" محمولة على المعنى المتعارف عليه، فافترض أن التشديد على هذا المعنى يهدف الى التقليل من شأن العنف الجسدي وإلى تناسي أن ثمة نساء يتعرضن للضرب والاغتصاب والاستغلال، أو الى إعفاء الرجال من مسؤوليتهم عن هذا النوع من العنف، كذلك الأمر حين تفهم صفة الرمزي بالتقابل مع صفة الواقعي والفعلي، فإنه يجري افتراض أن العنف الرمزي يقصد به العنف "الروحي" المحض وهو من دون نتائج حقيقية. وليس هذا بالطبع مقصود بورديو. فهو يعتبر بأن هذا التمييز الساذج الصادر خصوصاً عن نزعة مادية بدائية، هو ما تسعى الى تقويضه "النظرية المادية حول اقتصاد البضائع أو السلع الرمزية"، وهي النظرية التي عمل بورديو منذ سنوات طويلة على بنائها ساعياً الى إعطاء المجال لما يسميه ب"موضوعية التجربة الذاتية لعلاقات السيطرة". ثمة سوء فهم آخر يحاول بورديو تبديده، وهو يتعلق باستخدامه لعلم الإناسة وإثبات وظائفها في الكشف المعرفي، وهذا ما اشتبه البعض في كونه وسيلة، ذات مظاهر خارجية علمية، لترميم أسطورة "الأنثوي الأبدي" أو الذكوري الأبدي، بل حتى لترميم ما هو أخطر من ذلك، أي تأبيد وتخليد بنية السيطرة الذكرية من خلال تقديمها كشيء ثابت وأبدي. والحال أن بورديو لم يسع الى الجزم بأن بنى السيطرة الذكرية لهي غير تاريخية، بل حاول ويحاول البرهنة على أن هذه البنى إنما هي حصيلة عمل دائم أي تاريخي قائم على اعادة الإنتاج، وهذا العمل يساهم فيه فاعلون مفردون من بينهم الرجال المزوّدون بأسلحة مثل العنف الجسدي والرمزي ومؤسسات مثل العائلة والكنيسة والمدرسة والدولة. وحول هذه النقطة بالذات، أي مسألة العلاقة بين البنية والتاريخ والتي كانت مدار مناظرة في الستينات أيام ازدهار "البنيوية"، يبدو بورديو بنيوياً من دون أن يتخلى "نظرياً" عن أهمية النظرة التاريخية. فهو يتحدث عن "العمل التاريخي الساعي الى نزع صفة التاريخية"، ويرى أن الأبدي والخالد، في مجال التاريخ، لا يمكنه أن يكون سوى حصيلة عمل تاريخي يهدف الى التأبيد والتخليد. ويعني هذا، بحسب بورديو، بأن التخلّص والتفلّت من النزعة أو المذهب "الجوهراني" لا يكون بنفي وجود الثوابت والتواصلات التي تشكّل جزءاً من الواقع التاريخي، بل ينبغي القيام بإعادة صياغة وبناء تاريخ العمل التاريخي الهادف الى نزع الصفة التاريخية. بعبارة أخرى، يتعلّق الأمر بإعادة كتابة تاريخ البناء المتصل للبنى الموضوعية والذاتية للسيطرة الذكرية. ولهذا، فإن ما يسمّى "بتاريخ النساء" ينبغي عليه، إذا شاء أن يحسب حساب نتائجه وتبعاته، أن يفسح المجال أمام تاريخ الهيئات الفاعلة والمؤسسات التي تتضافر على الدوام من أجل حماية وتكريس الاستدامات، وهذه المؤسسات الكنيسة، الدولة، المدرسة، الأسرة يمكنها أن تكون مختلفة ومتباينة في مراحل مختلفة، من حيث الوظيفة والوزن النسبي. تحليل بيار بورديو، الذكي والشيق في معظم الأحيان، والمتحذلق والمتكلّف في بعض الأحيان، يكشف لنا إذاً عن وجود بنية وثوابت للسيطرة الذكرية تعصى على التاريخ، كما يكشف لنا أن منطق اشتغال هذه البنية راسخ وعريق ومحكم بحيث يساهم فيه فاعلوه ومتلقو فعله في آن، ثم نراه بعد ذلك، أي بعد إقفال الدائرة، يقترح "تحوّلاً جذرياً" لا نعلم مجاله ومادته وغرضه في صورة واضحة. وقد يكون مستغرباً بعض الشيء حديث بورديو عن الحبّ باعتباره تعليقاً وتعطيلاً للسيطرة، إذ يبدو الباحث، على شرعية وشهامة تثمينه للحب، رومنطيقياً الى حدّ ما. وهو، من ناحية ثانية، يأخذ على طريقته أفكاراً من علماء كبار، مثل كلود ليفي - ستروس، ثم ينتقد ما يسميه بالمنظار السيميائي السيميولوجي لهذا الأخير، وهو انتقاد يبدو لنا غير مقنع. وهو يحذر الحركات النسائية وغيرها من الوقوع في فئوية أو قطاعوية ضيقة تحرمها من الاتصال والانخراط في حركات اجتماعية عامة لمقاومة سائر أشكال السيطرة. أي أن التحليل النقدي للسيطرة الذكرية قد لا يجلب لبورديو عبارات التعاطف والتأييد من حركات الاحتجاج النسوي وغيره، بل من المتوقع أن يلقى خصوماً ورافضين. وعلى القارىء أن يغربل كتاب بورديو، فهذا الأخير يريد أن يكون دعاوياً فيما هو لا يحسن الدعاوة. وهذه مفارقة أخرى.