سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
جون رولز ... فيلسوف "العدالة بما هي إنصاف" ووارث الليبرالية السياسية وتسامحها ودستوريتها 1921 - تشرين الثاني / نوفمبر 2002. إنشاء الدولة العادلة على الجمع بين حريات المحدثين والقدماء ... وتقييدها ب "خير" المجتمع المدني
خرج فيلسوف السياسة والحق الأميركي، جون رولز 1921 - 24 تشرين الثاني/ نوفمبر 2002، مرةً عن معهود سنّته في الاحتجاج والبرهان المجردين الى ما يشبه الإثبات والإيجاب الفظين. فكتب في احد آخر مقالاته 1995، اي غداة ربع قرن على عمله الكبير "نظرية العدالة"، 1971 يرد على يورغين هابرماز، فيلسوف السياسي والحق الألماني: "ليست السلطة الدالة السياسية لغزاً خفياً، وينبغي ألا تسبغ عليها القداسةَ رموزٌ وشعائر يعصى المواطنين فهمُها، ويمتنع عليهم الأداءُ عن فهمهم هذا بعبارات غاياتهم المشتركة وكلماتها". ويمضي شارحاً، ومعللاً توسله بالإثبات من غير تخفيف او تحفظ، فيقول: "... إن احكامنا ]السياسية[ الراجحة ]في ميزان الفهم والخلق[ تضطلع، من طريق مراسيها المستقرة، ]وهي[ إدانة مرافق الرق والقنانة، والاضطهاد الديني، وإخضاع الطبقات الكادحة، وقهر النساء، ومراكمة الثروات العظيمة الى لا غاية، وكذلك ]إدانة[ الفظاعة التي يمثل عليها التعذيب والتفنن فيه - بدور ضوابط جوهرية تظللها، فيظهر من غير لبس ان كل الأفكار ]والأحكام[ المفضية الى التسويغ، وإلى العدالة السياسية، والمزعومة محض اجرائية، انما هي ]الأفكار والأحكام[ وهم بوهم". يخلص جون رولز فيلسوف العدالة السياسية بما هي إنصاف أو "على وجه الإنصاف"، على ما تقول مقالته الأولى، في 1957، وهي رسم كتابه الكبير،و على ما كرر تكرار اللازمة، من إثبات مقدماته ومصادراته العامة والمشتركة الى ان نظريته في العدالة بما هي إنصاف وقسْط، "جوهرية"، ولا تماري في جوهريتها، اي في إضمارها أوتضمنها معاني وأحكاماً قيمية ومعيارية ترجع الى تقاليد ونَقْليات تاريخية واجتماعية. فهي، أي نظرية العدالة على وجه الإنصاف، لا تصدر عن قَبْليات او مسبقات عقلية ومجردة من الاختبار والأعيان. ولا تزعم لنفسها، تالياً، على رغم لغتها المجردة، وردها على الدوام الى ميزان الأحكام الراجحة، الصدورَ عن القبليات التي تستخرجها نظريات المناقشة والمداولة، وتنيط بها التفاهم والتواصل والإقناع من طريق احتجاج يُلزم بالحجة الراجحة من غير إكراه. والتراث، أو النقليات التاريخية والاجتماعية والثقافية، الذي يصدر جون رولز وفكره عنه هو تراث "الفكر الليبرالي" و"أمة ]او جامعة[ المجتمعات الديموقراطية الأوسع"، على قوله. فيقر بأن العدالة على وجه الإنصاف، اي نظرية "الليبرالية السياسية"، على قول آخر وغير مختلف له، لم تبلغ مرتبةً صُورية على مثال القول: منطق صوري او شكلي وكلّية، او جامعة عامة، حقيقية. وهي لن تبلغ مثل هذه المرتبة. وليس لها ان تطمع او ترغب في بلوغها، على خلاف نازع النظرية الإجرائية والحقوقية الهابرمازية، على زعم رولز. وانتهى فيلسوف الليبرالية السياسية الأميركي الى هذا الرأي، وعزف عن تجريد صورة النظر والعمل وقَبْلياتهما البنيانية - تمهيداً للاحتكام الى هذه وتلك في اثناء المداولة والاحتجاج الحرين والمتساويين، وقبل صوغ الأحكام المعقولة والمشروعة و"الأقوى" - جراء خلوصه، من وجه آخر، الى الإقرار باستحالة تخطي كثرة الفلسفات والمعتقدات "الميتافيزيقية"، المتنازعة، والمحيطة بعلل "الدنيا والآخرة"، وباستحالة جبِّها. فتخطي كثرة المعتقدات الفلسفية والدينية محال من غير طريقي حرب الكل الكلّ فتنطوي الجماعات المتحاربة كل جماعة منها على معتقدها، وينفخ المعتقد في حرب الجماعة على غيرها، ويمسكها من الانفراط والسلم والمهادنة، والطغيان الساحق. فلا ملاذ من هذا ومن تلك إلا بالإقرار بهذه الكثرة، اي بما يسمى "التعددية" المتفرعة على حرية الرأي والضمير وعلى اصل التسامح. وعليه، تقصر نظرية العدالة الرولزية نقدها المذاهب والمعتقدات المحيطة بالعلل الأولى والأخيرة أو "الشاملة"، على مثال ترجمة "الحل الشامل" في المصطلح السائر على جنوحها السياسي وخروجها عن شرائط التعاقد والأحكام الراجحة الصادرة عن هذه الشرائط. ويحتج رولز لتواضع نظريته الفلسفي بعلة اخرى ليست اقل رجحاناً من إحالة جب المذاهب والمعتقدات الميتافيزيقية في المجتمع السياسي الواحد من غير طريقي الحرب المزمنة والطغيان. فهو يحمل تعلق اهل المجتمعات السياسية بحرياتهم وعدالتهم وقوانينها، وبتماسكها وأمنها واستقلالها تالياً، على قوة معتقداتهم وفلسفاتهم الأولى، وقوة المعاني القَبْلية والنَقْلية التي يتوارثونها. وينسب التعلق والانتساب الى المعاني المتباينة والمختلفة، الثابتة على "أولويتها" وأصليتها او ابتدائيتها. التسامح... فوق "الميتافيزيقا" وينبه رولز، من وجه آخر متصل بهذا الوجه، الى ان المعتقدات هذه، أو اصول المعاني القبْلية والنقْلية، كانت الباعث على الحروب الأهلية الداخلية وبعض الحروب الإقليمية والخارجية، في اوروبا القرنين "الدينيين" السادس عشر والسابع عشر. وهو يقصر كلامه على المجتمعات الأوروبية الأميركية. والمعتقدات الجمعية، على انواعها، هي احد وجهي دخول السيطرة على السياسة وفيها ويلاحظ احد شارحي رولز، وأقرانه، ان الفكر السياسي الأوروبي قدّم تفكر السيطرة على العقد، والإكراه القانوني على الحقوق. فهي تغلق الجماعة على نفسها، وتحدها، وتلحق الأفراد بالجماعة إلحاقاً لا خيرة لهم فيه. والوجه الثاني هو التلازم بين القانون وبين الإنفاذ، ولو من طريق القوة. ولكن التسامح، اي اقرار الدولة والجماعات الأهلية المتحاربة بكثرة المعتقدات، وقبول الدولة والجماعات التعاهد على الجوار والأمن والسلم تجنباً للإفناء المتبادل و"المضمون" على قول النظريات العسكرية النووية، لم يكن المقدمة الضرورية لنشأة السياسة المحدثة، ودولتها المحايدة والإدارية، وحسب. فهو، اي التسامح، على ما يلاحظ رولز في بعض مقالاته المتأخرة "الليبرالية السياسية"، في 1993، جاء ليعلي من شأن علاقة التعاهد على علاقات الجوار والأمن والسلام، ويرفع مكانتها فوق مكانة المعتقدات والمذاهب. ولا يعقل تقييدُ التسامح نازعَ الجماعات المذهبية نسبة الى المذهب من غير تخصيص ديني الى إصلاء بعضها بعضاً الحرب والقتال، وتسليط الموت بعضها على بعض، إلا من طريق الترتيب السياسي الجديد هذا. فيُنزل رولز الترتيب السياسي المحدث منزلة عالية. فمن طريقه، وبواسطته، يسع البشر التمتع ب"خير المجتمع المدني"، وب"الخيرات الأولى"، أو الأصلية التي تتفرع عنه مثل الحرية والمساواة والعدالة والكرامة. وهي تُجمع في باب "حريات المحدثين"، نظير "حريات القدماء" - على حسب اصطلاح تواضع عليه بعض مفكري السياسة منذ بانجمان بنيامين كونستان الفرنسي في أوائل القرن التاسع عشر - ويقصد بها حريات المواطنين الأفراد. ولا يذهب رولز، على خلاف "القدماء" ومن يقول مقالتهم من المحدثين والمعاصرين، بناءً على منزلة التسامح والترتيب السياسي المترتب عليه، إلى تقديم أعمال السياسة وأفعالها على غيرها من الأعمال والأفعال الإنسانية. ولا إلى اعتبارها المعنى الأسمى الذي يسعى الناس، "أهل المدينة" على معنى يوناني وروماني أخذت به حنة آراندت فيمن أخذوا به ومكيافيلي من أوائلهم، في بلوغه. فيقضي الفيلسوف الأميركي الراحل بالخطأ في تقديم السياسة على المجتمع المدني، وفي تتويجها اليوناني والروماني، مَلِكة على الفعل الإنساني، فإتصال الحريات الفردية والشخصية، أو حريات قيام المرء الواحد استقلاله بنفسه، باستقلال الدولة ونصاب السياسة بالشأن العام والمشترك، لا يرسي الاتصال هذا الحريات الفردية والشخصية على علاقة الاتصال وحدها، على رغم قوتها. ومرد ذلك إلى ان حريات المحدثين تقوم، بحسب نظرية العدالة بما هي إنصاف، على ركن مستقل بنفسه هو المَلَكَة الخُلُقية الثانية في المصطلح الرولزي الكانطي الموكل بها إيجاب الخير على وجه التخصيص التاريخي والاجتماعي. وبموجب المَلَكة الخلقية الثانية هذه يرعى نظام الحريات الأساسية الأشخاصَ، ويحمي حرياتهم بما هم أعضاء يشاركون في حياة اجتماعية وثقافية وروحية. ويأتلف هذا الجزء من المجتمع من هيئات وجمعيات من الأنواع كلها: روابط ثقافية وجمعيات علمية، جامعات وكنائس، وسائط إعلام، وغيرها على شاكلتها. ولا ريب، على قول الليبرالي السياسي، في أن القيمة التي يقوّم بها المواطنون الأنشطة والأعمال هذه ركن ثمين وحيوي، يسوغ إرساء الحقوق الشخصية الحقوق الناجمة عن قيام المرء بتبعات نفسه عليها. الديموقراطية وثقافتها وهذا مسوغ نظري. والمسوغ العملي هو أن الديموقراطية السياسية إذا لم تتغذَّ على الدوام من ثقافة ليبرالية تحوطها وتسندها، لا تلبث أن تتعثر وتذوي. ولا يعقل أن تسند الثقافةُ الليبرالية الديموقراطيةَ السياسية، وتعضدها، إذا لم يشهد المواطنون "العاقلون" أهل الأحكام الراجحة والمعتدلة للهيئات الديموقراطية برعايتها أشكالاً مناسبة ومعينة عن خير تخصصه مذاهبهم الشاملة والمختلفة، وترضاه العدالة السياسية. ويحمل رولز شكلَيْ القيام بالنفس، السياسي والفردي الشخصي، ورابطتهما الداخلية، على فكرة المجتمع بما هو كلّ أو جميع ينظم التعاون الاجتماعي نظماً منصفاً ومقسطاً. وهي الفكرة التعاقدية التي يصدر عنها الفكر الليبرالي والحريات المحدثة. ومر للتو أن المفكر الأميركي يوسِّط مَلَكتين خلقيتين هما ملكة تعرُّف العدالة، وملكة تصور الخير. وترجع الأولى إلى المعقول والمقبول عقلاً، أي إلى القدرة على الاقتراح والعمل على مقتضى شرائط التعاون الاجتماعي المنصفة وافتراض عمل الغير مقتضر الشرائط نفسها. ومناط المَلَكة الثانية أي ملكة تصور الخير، هو القدرة على تصور الخير تصوراً عقلانياً ومتماسكاً، على ألا يُسعى فيه إلا إذا تحققت شروط الإنصاف والقسط. وعلى هذا، ينبغي السعي في تحقيق جميع متماسك من كلا النوعين من الحريات. ويتبع هذا السعي ست مراحل على مثال مجرد يشبه القَصَص أو الحكايات في الأدبين الفلسفي الخلقي والشعبي: 1 إبلاغ المواطنين بالشرائط الاجتماعية التي ترتب نمواً مناسباً وإعمالاً مدركاً للملكتين الخلقيتين في حالي الحريات. 2 إثبات الحقوق والحريات الكفيلة حماية أداء المَلَكتين في حال أولى تتعلق بتطبيق أصول العدالة على بنيان المجتمع الأساسي وسياساته العامة، ويفترض هذا صدارة الحرية السياسية وحرية القول والفكر السياسيين" وتتعلق في حال ثانية بتطبيق العقل التداولي على توجيه نهجنا طوال حياتنا، ويفترض هذا صدارة حرية الضمير والمعتقد جنباً إلى جنب مع حرية الاجتماع أو الجمعية. 3 تخصيص حقل العمل بهذه الحريات، وينبغي الإقرار بمنازعها المتباينة الآيلة إلى المصادمة، والنهج القمين بمصالحتها في اطار هيئات متحققة تستجيب أصلي العدالة. 4 إحصاء الحريات الأساسية، من طريق عدِّها في دساتير الدول الديموقراطية، وتقويم أدوارها واضطلاعها بها على وجه مقبول، والاستدلال إلى الحريات الضرورية بواسطة النظر في المَلَكتين الخلقيتين وشرائط إعمالهما. 5 تحقيق أصول العدالة في أحوال اجتماعية عادية من طريق الخيرات الأولى الحريات الأساسية والاحتمالات المنصفة وتوزيعها من غير تمييز توزيعاً سوياً. ويضطلع بالتحقيق والتوزيع هيئات سياسية واجتماعية متماسكة، تتولى حماية "الحقل المركزي" للحريات، أو عقدة تطبيق الحريات كلها، قديمها ومحدثها. 6 البرهان على أن هذه الأصول يرجح اختيارها عند وكلاء المواطنين ومفوضيهم في "الوضع الأصلي". وَيكْثي به رولز، على مثاله القصصي وعلى خلاف مثال الغاب عند هوبس، عن التعاقد التأسيسي الذي يصوغ في مداولاته مفوضو المواطنين دستوراً، أي مجتمعاً مستقلاً، ويُسدَل على المفوضين المندوبين ما يسميه "حجاب الجهل"، وهي من كناياته المشهورة. ويريد به أن أصحاب الدستور يتجردون، على سبيل التمثيل، من العلم بملابسات أحوالهم وأهوائهم، وهم يصوغون شرعة التعاقد وميثاقه، ليأتي مبنى الدستور على العدالة والمساواة. ولا يتأتى ذلك إلا إذا كان المتعاقدون متساوين، ابتداءً، في "الوضع الأصلي"، تحت "حجاب الجهل" الذي يحميهم من الطمع في خيرات غير متكافئة، فيميلون مع ومصالحهم، ويحاولون ترجمتها حقوقاً. "إبريز" السياسة والحق أن المراحل الست هذه إنما تصف، على سبيل التجريد والتمثيل، تخليص السياسة، و"إبريزها" أو ذهبها، من ملا بساتها وأثقالها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية. فإذا تركت السياسة نهباً للملابسات والأثقال هذه، على مذهب هوبس حين تناوله نشأة الدولة المطلقة، ذهب التعاقد هباءً، ودامت منازعات الغاب والمَسْبعة، وأقامت الجماعات على حال من انتفاء الحق، أو من تَقَنُّع المصالح وموازين القوة به على مذاهب شتى يجتمع على مقالات منها مناهضو الحق الطبيعي والذرائعيون وماركسيون ومريدو ميشال فوكو وأعداء "العولمة الامبريالية".... فلا يعقل ولا يفهم، من هذه الطريق، قيام دولة حق وقانون غداة الحرب الأهلية، ولا الاستقرار الدستوري والسياسي الذي يسود المجتمعات الديموقراطية عموماً والليبرالية الديموقراطية خصوصاً، ولا الفرق بين دولة الحق والقانون وبين "دولة" التغلب والاستيلاء، ولا يعقل تاريخ السياسة في القرون الأربعة الأخيرة... ويوكل جون رولز إلى السياسة وقايةَ مجتمع الأفراد من نفسه، ومن شياطينه "الميتافيزيقية"، ومنازعه الطبيعية، وبواعثه المدمرة. وتقتضي الوقاية هذه أن تقصر السياسة، ولو أفلحت في بلوغ أسمى مراتب العدالة والرجاحة والتوسل ب"العقل العام والمشترك"، على حيز ومجال، فلا تتعداهما إلى دوائر المجتمع المدني، ولا تنتهك "الخيرات الأولى"، ولا عدالة توزيع هذه الخيرات، ومنها، إلى تلك التي تقدم عدها، "احترام النفس". وليست المراحل الست، إلى المراحل الأربع وهي تصف الانتقال من اصطفاء أصول العدالة، إلى التئام الهيئة التأسيسية وصوغ مبادئ الدستور، إلى التشريع وسن القوانين بحسب الدستور هذا، فإلى نصب القضاة، فقهاء الدستور ومجتهدي فقهه ومستنبطي فروعه - على المثال الأميركي المعروف إلا أبواب وآلات هذه الوقاية. ولعل المنطق الحقوقي، وهو ينسب رولز إلى مدرسة "الدستوريين" ويميزه من "الجمهوريين المدنيين"، من هذه الآلات. فهو يوكل إلى هذا المنطق حماية المواطنين، والفكر السياسي، من نصب الكثرة معياراً شرعياً للحق، ومن الاستظهار بالشرعية ذريعة إلى حمل السياسات والقرارات على الحق. ومن طريقه كذلك ينكر على الكثرة إجماعها، ولو شرعياً وقانونياً، على تقديم مصالحها على مصالح الجماعات الضعيفة وأفرادها. فالعدالة السياسية، وهي وحدها مطلب الليبرالية السياسية ونظرية العدالة على وجه الانصاف، لا تقوم إلا إذا أقرت أولاً حقوق الضعفاء. وهذا الفرق هو شرط الإنصاف. كاتب لبناني