يمّم الكتّاب الغربيون الأوروبيون شرقاً، فاستشرقوا أو شرَّقوا وجابوا "الشرق" وأقوامه وبلدانه، بأبدانهم وعقولهم ومخيلاتهم، جواباً عن أسئلة سياسية في المرتبة الأولى. ووضعت المجتمعاتُ الأوروبية هذه الأسئلة، أو معظمها، على شرائط الخروج من الحروب الأهلية الدينية، وتمييز الاجتماع السياسي ولحمته من الآصرة الدينية والاعتقادية، على قدر ما وضعتها على الموازنة بين قوة السلطة وبين حرية الأفراد المواطنين، وعلى دور العرف ودور الرأي والاستنباط في إرساء الاجتماع السياسي على ركن معين من غير تحجر. وخلصت هذه المجتمعات في أثر: الإصلاح البروتستانتي، وتعاظم دور المدن وعوامها، وتدويل العلاقات التجارية، وغلبة الملاحة الأطلسية على الملاحة المتوسطية، وفشو المنازعات الدينية، وانتشارالمطبوعات، وضعف المراتب الاجتماعية الموروثة والثابتة - خلصت من هذا كله ومن غيره مثله، إلى فك السلطان من المباني غير السياسية، وجمعه في الدولة لقاء تقييده بحقوق الأفراد المواطنين الخاصة في سلامة حياتهم وأبدانهم وبيوتهم وأملاكهم ومواريثهم وضمائرهم وعقودهم. وبعث تخليص السلطان من العوامل غير السي اسية فيه الى تقصي أصوله ومصادره في المجتمعات "الطبيعية". ووُصفت ب"الطبيعية" المجتمعات، أوالمباني الاجتماعية غير السياسية وغير المدنية، وهي تلك التي لم تُخرج قوةَ الدولة من ملابسة مباني القرابة والتقليد والاعتقاد، ولم تخص قوةَ الدولة هذه بمبنى، أو مبانٍ وقفتها عليها وحدها. وتناول البحث الأوروبي المباني الإجتماعية، وليس المجتمعات وحدها. والفرق كبير بين الأمرين. فالمباني الاجتماعية "الطبيعية" تتشارك فيها المجتمعات الأوروبية، السياسية، والمجتمعات غير الأوروبية، الأميركية الهندية، والافريقية السوداء، والأوسترالية، والآسيوية الماليزية والاندونيسية... وعلى هذا فالمجتمعات الأوروبية تستبطن مباني اجتماعية، قرابية بطرقية ودينية كهانية، شأن المجتمعات "الشرقية". وعلى هذا، كذلك، تناولت المجتمعات الأوروبية، مجتمعات ودولاً وعلوماً وأفكاراً، "الشرق" الذي تنطوي عليه، ويثوي في داخلها، على نحو ما تناولت المجتمعات "الشرقية"، الغريبة والماثلة خارجها. فالمجتمعات الأوروبية تستشرق في كل مرة توجه نظرها إلى خلافها الذي تبطنه، ولم تطوه، ولم تنسخه وتبدله في نفسها. وهي تستشرق، أي تلتمس في "شرقها" الذي يكني عن إبطانِها خلافَها عن علة ما لا يتماثل في أفعالها وفي تصوراتها عن نفسها ووقائعها، حين تسعى في معرفةٍ عامة تلم بوجوه الإنسية كلها، وبأطوار التأنس المختلفة، المتعاقبة والمتزامنة. أي أن الاستشراق، أو التشريق، ملازم للمسألة السياسية الأوروبية إبان صوغها وبلورتها، من وجه أول، وهو ملازم للعلم على معنى المعرفة العقلية حين يوضع العلم على الجامع العام، بحسب عبارة وضعها ابن المقفع لمعنى الكلية المنطقية، من وجه آخر. والجامع العام أونيفرسيل أو يونيفرسل هو، في هذا المعرض، إنسي أو إنساني. فليس الاستشراق، والحال هذه، واحداً. فهو قد يكون علماً بالمسألة الشرقية السياسية، العثمانية والإسلامية، وهو قد يكون علماً بالأقوام الأميركية التي كانت تملأ "الهند الغربية"، على ما حسب الملاحون الأوروبيون حين توجهوا شطر الهند فوقعوا على "أميركا"، وهو علم بالغرابة الدينية الصينية قياساً على فكرة الخالق المقسومة سواءً في المعتقدات الإغريقية والإبراهيمية التوحيدية" وهو علم بالمراتب الاجتماعية الهندية المجافية المساواة الآدمية، الخ. ولما استقرت الاجتماعيات علم الاجتماع على مناهج متماسكة بعض التماسك، في أواخر القرن التاسع عشر، أدرجت البحث في "التضامن الآلي دوركهايم، القرابي الأسري والجزائي، جزءاً من تناول المجتمعات التاريخية المركبة. وكان هذا التناول، وعلى هذا الوجه، استتماماً للنظر في الفروق بين المجتمعات الأوروبية وبين المجتمعات غير الأوروبية المعاصرة. وهذا النظر هو نظر في الفروق والمنازعات التي تبطنها المجتمعات الأوروبية نفسها، وقام تاريخها على محاولة معالجتها. ولعل تلازم وجهي النظر هذا هو العلة في توسل نقد الغرب، علماً وعملاً، بالغرب نفسه، أي بعلومه وأحكام عمله ومعاييره. وقد يعود هذا "التناقض" إلى موقع "الشرق" المزدوج من معرفة الغربيين الأوروبيين وعلومهم ومقالاتهم. ف"الشرق" هذا هو أصل قويم وسوي أدى الانحراف عنه الى استشراء الفساد وإصابة المجتمعات المنحرفة بالانحطاط: فقدمت الصنع على الطبع، والشّبه على الحقيقة، والتفاوت على المساواة، والمِلك على المشاع، والتبادل على الاستعمال. أما من وجه ثان ف"الشرق"، الماثل منذ القرنين السادس عشر والسابع عشر في السلطنة العثمانية وفتوحاتها، هو صنو الاستبداد المطلق، والتقليد الضيق والخانق، وهو القرينة على ما تخلفه غلبة الاعتقاد الديني على المجتمع من تسليم وانقياد وضمور إنساني خِلْقي وفكري. والحق أن أياً من المذهبين هذين لم يحز الإجماع، ولم يغلب ولو على مقالات رجل واحد. فاستشرق بعض الأوروبيين طمعاً في الاحتجاج للطبع على الصنع، وللآدمية التوراتية والملكية على البرلمانية العامية والمحدثة. واستشرق آخرون رداً على الاستبداد الديني والسياسي ونقضاً عليه. وكان تشريق فريق ثالث سعياً في عرض الإجتماع الأوروبي المعروف على خلافه من ضروب الاجتماع وعلى أضداده ربما. وأراد فريق رابع العلم برسوم"الشعوب" الأخرى وسننها طريقاً الى التمكن منها والغلبة عليها على نحو ما كان علم يوليوس قيصر بالغوليين ذريعة الى حربهم والاستيلاء عليهم. وإذا اقتصر الفحص على الآثار العلمية للعلوم "الشرقية" أو للعلم بصفة "الشرقيين" وأحوالهم - في "علم" الغربيين ومعارفهم وفي تدبرهم صفتهم وأحوالهم، وهذا على سبيل الاختصار المتعسف - لجاز ربما القول إن "الشرق" الأوروبي قام مقام ما يُقرُّ نفيُه الهويةَ على نفسها وهويتها. فهو الغيرُ القائم في نفس النفس أو في عين النفس. ولا تستوي النفس على هويتها، وعلى علمها بنفسها، إلا من طريق حجزها على غيرها الثاوي فيها ومتابعها كظلها. وكل هذا المثال يجوز التقريب بين إرساء ديكارت اليقين على قاع يمتزج فيه الجنون بالحلم والاختبار الحسي "المغلوط"، وبين تخليص هوبس السلطان من أهواء الجماعات واقتتالها المتمادي أو حمل إتيين لا بُوويسي السلطان المفارق المجتمع إرادة طوعية تنشئ للمجتمع" فوقاً "وتحتاً" ثم تغفل عن إنشائها. فالحداثة الأوروبية، وهو صاحب ة التوجه "شرقاً"، افترضت على الدوام انقطاع مباني التجريد والاشتراك العقلانية والحقوقية من مبانٍ أساس تسبق الأولى، وتقوم مقام الشريط والنقيض. ونشأت عن الانقطاع والشرطة أو التشريط، وعن جمعهما معاً، علاقة إضافة أو تضايف: فالعقل، ونوره ومصباحه، إنما هو بإزاء "آلهة الليل" وعتمة ثماراتها وترديدها الوقت الواحد" والمدينة السياسية إنما هي بإزاء "كبير الملوك" وأقياله وعبيده. ولكن العقل يقر الأهواء العاصفة على محلها الثاني والتابع والسفلي، وعلى ايجابها الجدلي الأمر وخلافه. ولا تنقطع المدينة من العصب والأسرة، حيث "كبير" الأسرة وبطريقها "مستبد" و"شرقي". ولم يشذ "الشرق"، في مرآة علم الغربيين به، عن السُّنّة والمثال هذين. ولكن المشارق الفعلية والحقيقية، أي البلاد والمجتمعات التي وقعت عليها أفعال الأوروبيين، علماً وتجارة وحرباً واستيلاء، لم تكن "مادة" حرث تؤتى كيفما شاء الحراث وأنى شاء، على مثال روّجته نظرية الإمبرالية المتحدرة من داروينية تاريخية واجتماعية مرسلة ولا رقيب تاريخياً عليها. فنهض نقد الاستشراق، في سياقة التأريخ لمنظومات المعارف أو لمُتعارَف المجتمعات في وقت من الأوقات، على خُلْفٍ فادحٍ في تناول التوجه الأوروبي صوب "الشرق"، على معاني التوجه والشرق المتفرقة والمختلفة. ومصدر الخلف هذا، على ما أزعم، هو حمل المشارق على مادة طيعة يُعمل فيها غرب واحد قوته وتسلطه التامّين والناجزين، فلا تحور المشارق جواباً، ولا ينتهي إلى سمع الغرب، وإلى علمه، تالياً، من جواب المشارق شيء أو معنى. والحق أن هذا الخُلف خلفان. ويقع الأول على تعريف العلم بالموضوعات التي يوضع عليها علم "أوروبي". فهذا العلم لا يلم بمطلبه وموضوعه، أكان المطلب والموضوع المعتلَّين والمجانين والأولاد والنساء أو كان المتوحشين والبرابرة ورعايا الاستبداد والحثالة من الناس المحليين، إلا ويقضي فيهما بقضاء مزدوج: فهم، من وجه، ينزلون منزلة دنيا في الكون والمعنى والقدرة، ولكنهم، من وجه آخر، مصدر دلالة وأصحاب عبارة، وهم يتشاركون في العبارة والدلالة مع "الأسوياء" والأقوياء وأهل القوة والعلم "الأوروبيين". وإذا كانت منزلتهم الدنيا، ومرتبتهم المتأخرة، شرطاً لوضع علمٍ يصادر كلامهم ومقالاتهم عليهم "أسمّي صمتاً مقالك وغياباً وجهك" - يقول "علم النفس"، بحسب ميشال فوكو في "تاريخ الجنون"، للمدخول حبيس المحجر الطبي، ويخرجهم من التاريخ، فإنشاء مقالات علمية، أي عقلانية، في الاعتلال والاضطراب والقلة والضعف، لا ينفك من افتراض عقل، أو معنى، لم يأفل من هذه، أي من الاعتلال والقلة... فإلى افتراض مراتب اجتماعية وخلقية وسياسية متفاوتة يعتليها أفضل الناس وخيرهم، تفترض "الغرابة الديموقراطية" على قول جاك رانسيير أو "الثورة الديموقراطية" على قول غلاديس سواين ومارسيل غوشيه الأسوة أو المساواة الجامعة والعامة بين الناس وفيهم، على اختلاف أحوالهم وأجناسهم وأعمارهم وبلادهم. ولولا هذه لما تماسكت مقالات تنجم عنها "تربية" وطبابة. أما الخُلف الثاني فيقع على حال الموضوعات المزعومة. فنقد الإستشراف يزعم، على خطى "تاريخ الجنون" و"المراقبة والقصاص"، كتابي فوكو اللذين يتحدر منهما نقد الاستشراق ويتعقب طريقتهما المفترضة واحدة، أن المقالات "الشرقية" وسعها إنشاء موضوعها، وهو "الشرق"، على مقدمات معرفية محض. فلم تفعل المعارف "الشرقية" غير استنتاج المقدمات هذه نتائجها المحتومة والضرورية، وإلباسها لباس العلم والعقل ومناهجهما. ويقود هذا الى نفي احتكام المعارف "الشرقية" الى خارج ولو احتكاماً جزئياً. وهو يقود كذلك إلى جواز تناول هذه المعارف على وجه تماسكها الداخلي والمتخيل وحده. فكأن المقالات الأوروبية في "المشارق"، بلاداً وأهلاً وتواريخ، لا خارج لها، ولم يحملها هذا الخارج، وهو "المشارق"، على اعتباره، ولم يُقتحم عليها ما اضطرها الى الصدوع به، والبناء عليه. ويُبطل هذا الرأي جِدّة المعارف التي تناولت وجوه الغير واستحدثت المقالات في هذه وجوه الأغيار الكثيرة، من الجنون الى أقوام البدائيين، ومن أهل السجون إلى "الطبقات الإجتماعية الداهمة". وجدة هذه المعارف قياساً على تلك التي سبقتها، في القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر الأوروبيين، إنما ركنها التنبه إلى جواز الفهم عن لغات الأغيار الغربية والمختلفة، وجواز مخاطبة أهل هذه اللغات، وبعض الأهل هؤلاء هم "الشرقيون". ولا يُعقل إفضاء هذا الكشف إلى نقد المعارف الأوروبية، ونقد المقالات الأوروبية "الاستشراقية" في ضروب الانحراف عن السوية المعيارية العقلية والإجتماعية والخلقية والتاريخية والمدنية...، عن يد نقاد هذه المقالات - من نيتشه وفرويد وكاندينسكي وشونبيرغ الى دعاة خلافة الحداثة - ، لا يعقل هذا الإفضاء إلا في ضوء الجدّة التي مر الكلام عليها. فلا إرساء السياسة على الانقسام الإجتماعي والمنازعة، ولا حمل التاريخ على صنيع بشري حادث وبنياني معاً، ولا إلزام العلاج الإصاخة إلى مقال المريض وصوغه من العلاقة الناجمة عن الاصاخة والتأويل، وغيرها مثلها، إلا من ثمرات مقالات الحداثة واستبطانها القيد النقدي على إيجاب مثال معياري متعسف. واستبطان القيد النقدي على المثال المعياري، ولو مقلوباً ومعكوساً، ليس من شيم المقالات النقدية الخالصة ومنها نقد الإستشراق، والنقض على الطب النفسي والعصبي، ومقالات التحرر... ولا من صفتها. فهي في معظمها، تنزع إلى التخفف من أعباء المقدمات المتنازعة والمركبة التي نشأت الحداثة عنها. ويُسلمها تخففها هذا إلى إحياء عصبيات ضيقة، وإلى نصب معياريات متصلبة على أنقاض عالم مشترك كان على الدوام غاية أولى من غايات الحداثة "التقليدية". فلا عجب إذا تصدرت المقالات النقدية الخالصة، في ترجمتها العربية، الجهالة الغالبة والسائدة، وحُمل أصحابها على الكهان، ومنطوقاتها على الكهانة. فهي دعوة إلى بعث أرواح الجماعات، وإلى حمايتها من اختبار المنازعة والفعل وعرض نفسها على العالم. * كاتب لبناني.