الروائي الأردني غالب هلسا 1932 - 1989 عاش حياته متنقلاً من منفى الى آخر. أقام في عمانوبيروتوالقاهرة وعدن وبغدادودمشق. لكنه لم يكتب عن هذه المدن جميعاً. خصّ بغداد برواية تراوح بين الواقع والخيال: "ثلاثة وجوه لبغداد". واستعاد عمان وأيام الدراسة والشباب في روايته ما قبل الأخيرة: "سلطانة" كما في حفنة قصص قصيرة. لكنه لم يكتب عن بيروت. ولم يكتب عن دمشق. القاهرة، التي أمضى فيها القسم الأجمل من حياته، صنعت مسرح رواياته. من البدايات الضحك، الخماسين، السؤال، البكاء على الأطلال الى النهاية الروائيون. هنا رسالة الى صاحب هذه الروايات من الناقد الفلسطيني فيصل دراج ضمن سلسلة "رسائل كتاب وشعراء". ما الذي جعلك عاشقاً للقاهرة الى حدود الهوى؟ سؤال قديم لازمني منذ التقيتك في بيروت للمرة الاولى وتجولت معك في أحياء دمشق القديمة للمرة الأخيرة. كل منا كانت له اسبابه في محبة عاصمة مصر، مستولداً حبه من أطياف الأزهر و"جامعة فؤاد" وصوت ام كلثوم ومن كلمات صبي "الأيام" الأعمى المختلف الى حارات قديمة وأحلام من نور. كل منا كان يعلن حبه ويذكر السبب، الا انتَ، الذي احببت المدينة حباً فاق غيره، واكتفيت دائماً بكلمات مبهمة، محتفظاً بسر او متكتماً على حقيبة من اسرار. ما الذي جعلك، وأنت الذي وُلد في الاردن ودرس في بغداد، ترى في القاهرة حلماً. فتنطق بهلجتها وتبارك اهلها وترى في البعد عنها اغتراباً لا يُحتمل؟ حين سألتك، في بيروت، عن اعمالك الاخيرة، ذكرت لي: "البكاء على الأطلال" و"السؤال"، وكانت القاهرة مكاناً للروايتين. وحين حاورتك عن معنى الكتابة والنثر والرواية، جرت على لسانك اسماء مصرية، كما لو ان عشقاً غامضاً تلبسك، يضع أمام عينيك القاهرة ويطرد غيرها. هل ستكتب عن بيروت؟ سألتكَ. لا اعرف ان اكتب الا عن القاهرة، اجبت. وستقول لي بعد حين: لا اعرف عن دمشق شيئاً وروايتي عن بغداد هواجس وأحلام تتوسل الاسم ولا تحتاج المكان. وكانت روايتك الاخيرة عن "المدينة - الحلم" ايضاً. في مساء وديع اخير، ونسيم الخريف يتسلل الى المدينة، قلت لي بعينين استقر فيهما الرضا: سأعود شاباً بعد ثلاثة اشهر. كان في القول ما يثير الفضول ويأمر بابطاء الخطا ويوقظ اكثر من سؤال. حينها، وبعد البوح بالجملة الغامضة، خلعت "جاكيتا" ترتديه في الصيف والشتاء، وتوقفت امام مطعم صغير في حي الميدان الدمشقي. وقلت بفرح طفولي و"تنهيدة" كهل اقترب من الستين: سأعود الى القاهرة بعد ثلاثة اشهر، لم تضف الى هذه الكلمات القليلة شيئاً، نظرت الى السماء وعلى وجهك، الذي ظل طفولياً ابداً، ابتسامة هادئة، وارتديت "الجاكيت" من جديد، وقلت بلهجة حاسمة: "سترى". "سترى". لم أرَ الا ما رأيت، وما كان عليّ ان اراه. تسربت الشهور الثلاثة وغيرها وتبددت الكهولة التي ظلت ناقصة. لم أرَ الا ثبات المكان وتداعي الفضول، فالزمن حال بيننا. وترك فضولي القديم معلقاً في الهواء، انظر نثاره كلما اختلفت الى المكان القديم الذي كنا فيه معاً: ما الذي جعلك عاشقاً للقاهرة الى حدود الهوى؟ ولماذا سقطت الاعاقة المبكرة على السؤال القديم وبقي قاصراً؟ كان من المفترض ان يمحو النسيان، وله "فم جبل وبطن كالمحيط"، السؤال، لكنه ظل ثابتاً، جامعاً بين اصابعه الباردة فضولاً مهزوماً وملامح روائي وهيبة حي الميدان الشائخة. لم احببت مدينة هجاها نجيب سرور ولم يذكرها صنع الله ابراهيم في "اللجنة" بخير كثير وعاملها علاء الديب في "أيام وردية" بجفاء كبير؟ تقول لي ان فرقاً شاسعاً يفصل بين توبيخ الأم لابنها وزجر الآخرين له، وهذا صحيح، من دون ان تلغي صحته اسباب السؤال القديم. كان عليّ، بعد ان تركت "الجاكيت" الى جانب كتاب عن كافكا، ان اعثر على الجواب وحيداً، وان ألتمس آثاره في الرواية وفي عينين ناقصتي الابتسامة. والجواب الحكيم الذي لا حكمة فيه قائم في كلمتين عاديتين هما: التجوّل الطليق. لم اخترع الجواب ولا أميل الى الاختراع، لنا رائد ودود لا يعرف الكذب. لا يذكر قارئ روايتك "الضحك" الا لقاء بعد لقاء وتجوالاً إثر تجوال، بل انه لا يذكر الا زمناً هشّ القوام يوقظ الضجر، اذ الانسان مع ذاته وفي مكان آخر، واذ الانسان في مكان آخر وفي لا مكان. هشاشة مروعة تحوّم فوق الرؤوس ومعنى يبدو متجزئاً، ان حاول المرء ان يجمع اجزاءه أدمى اصابعه وسقط في الخيبة. وأمكنة لا قوام لها، متداعية او قريبة من التداعي، تأمر الانسان بالسير ولا تحدد له الاتجاه. ما زلت اذكر بطل روايتك "البكاء على الأطلال" وأظنه يدعى غالب، وهو يسير تائهاً على تخوم هزيمة حزيران يونيو، متذكراً اياماً قديمة رحلت، سريعة، وخلفت في القلب "لوعة"، كما تقول. ولعل تلك "اللوعة" التي استيقظت على ايقاع "مهباج" قديم، هي التي املت على بطل روايتك ان يبحث عن الوجه المفقود، وان يفتش عنه في شوارع القاهرة، كما لو كان البحث في ذاته ضالة المغترب ومؤئل الغريب. حر وغبار وروح قلقة تعاف الامكنة المغلقة، وتطمئن الى شوارع فسيحة وحوار لا نهاية لها، وتطمئن اكثر الى قدمين مأخوذتين بالسير الطويل، وبهوامش المدينة. لا شيء الا التجوّل، ولا شيء الا المتجول، الذي يهرب مما لا يعرف، ويهرب اكثر مما عرف. في "الخماسين" التي صدرت يطبعتين مختلفتين، احداهما اكثر طولاً من الاخرى، وهي اجمل ما كتبت على ما اظن، كان هناك "غالب" مرة اخرى، ينظر الى السجن ويرنو من كوة السجن الى ضوء القمر، ويصمت في روحه صراخاً متعدد الاتجاه. و"غالب" الذي يفتش عن الصراخ السجين في جيوبه، يمشي في الشوارع تائهاً، ويختلف ماشياً من مكان الى آخر، كما لو كانت السيارات سجوناً وفناجين القهوة وشاي ... انها الشوارع مرة اخرى. حيث الانسان يتلاشى في الزحام. فإن جاء الليل خلق شارعاً في غرفة مظلمة صامتة ومحكمة الستائر. وحملت معك عادة المشي، والمشي شكل عاقل من الهرب، الى بيروتودمشق، وان كان المكان غير المكان وحديث القمر له نبرة مختلفة. في زمن القصف، اثناء حصار بيروت الشهير، كنت تمشي في الشوارع الفارغة ظهراً، متمسكاً ب"الجاكيت" الأليف، وبابتسامة مطمئنة شاردة. قلت لك مرة: انك تستأنس الموت. قلت لي: "لا ولا حاجة"، بلهجة مصرية، فأنا ارتاح الى المشي وحيداً وأجمع مواد رواية". والرواية رواغتك في المدينة، التي "لم تعرفها" فاحتفظت بفضيلة التجوال وأجّلت الكتابة. وفي دمشق، وقد خلفّت وراءك بيروت واليمن، كنت ألتقي بك صدفة على اعتاب المساء، متبسطاً مرتاحاً مردداً جملتك المألوفة: "أنا أحب المشي أوي"!! وما كان مشيك أيها المغترب المتجدد الا اجابة منقوصة عن سؤال لم يكتمل ابداً. ما الذي جعلك مفتوناً بالقاهرة، ايها الغريب في كل مكان؟ لم نختلف على مراجعنا. وتتضمن يوسف إدريس وجمال حمدان وشكري سرحان وغيرهم. وان كان في اجابتك الممتنعة والمتمنعة اختلاف عن السؤال. ان المدن هي الشوارع الفسيحة المستقيمة الطرفين، والزحام الشديد الذي لا يلتقي فيه الانسان بجار او قريب. بل ان المدن جمع من البشر مختلف، متعدد الوجوه والنبرات والمشاغل، ومتعدد "المنابع الطبقية" بلغة ليست من هذا الزمان. ولعل الشوارع هي التي استهوتك والزحام الشديد هو الذي اغواك والبعد عن الحصار اليومي هو الذي اسعدك وأبهجك. فغالب ضائع في حشد هائل من الضائعين، حر هو وبعيد من الرقابة، سعيد ومبتهج بعد ان ذاب في بحر من البشر لا هوية له. المدينة الحقيقية ستر ولباس وتخفٍّ وقناع مجاني. ومدينتك الفاضلة هي التي تمنح التخفي وتزجر الاعلان. لم يكن غريباً اذن ان ترى الليل، في المدن الحقيقية او الزائفة، التعبير الأمثل عن المدينة المثالية. ذلك ان الليل لباس وحبر اسود يخفي وجوه السائرين. ولم يكن غريباً ان يعشق "غالب". بطل رواية الخماسين وغيرها، الليل، كما لو كان المساء بداية النهار الحقيقي ونهار الآخرين زمناً مرهقاً، قوامه الوشاية والغبار والكلمات الماسخة. لست ادري ان كنت تعشق القاهرة لأنها مدينة، او انك كنت تعشق في القاهرة - المدينة شيئاً آخر. فالمدينة عندك هي التجول والتخفي او التجوال المتخفي، حيث المتسكع يرى كل شيء ولا يراه احد. بدأ السؤال بالعشق والهوى والفتنة والقاهرة، وانتهى الى المشي والتجوال والتسكع والليل الذي يحمي السائرين. بدأ بمكان له تاريخ وانتهى الى فرد له زمن. وبين الطرفين علاقة مؤسية جوهرها الاغتراب والاستلاب وضيعة الانسان. فلا يبحث في الشوارع عن شيء اضاعه الا المغترب، ولا يفتش في الزحام عن امر لن يعثر عليه الا المستَلب، وضيعة الانسان مترامية موزعة على الليل والحواري والشوارع والستائر وهالة القمر الشاحب. وهكذا نبدأ بقاهرة ونصل الى اخرى، قاهرة تشرح احوال "غالب" من دون ان يشرح "غالب" من أمرها الكثير. شيء يذكر ب"عبث الاقدار"، رواية نجيب محفوظ الاولى. ذهب الروائي الى تاريخ مصر الذهبي القديم والتقى بفرعون يقتل طفلاً وبطفل يجرد الفرعون من سلاحه، فلا ذهب ولا فضة الا على طرف اللباس، ولا لباس من ذهب الا وعبث به القدر. في عشق غالب للقاهرة شيء من "عبث الاقدار"، ذلك ان المدينة الكبيرة امنت له مكاناً فسيحاً يمارس فيه اغترابه، من دون ان تمده بأسباب "الشفاء". كأن القاهرة حاصرت الاغتراب ووهبت المغترب سعادة مجزوءة تعده بشفاء محتمل. لذلك ظل "غالب" يمنّي النفس ب"عودة الشباب"، وينتظر ما يصد عنه اغتراباً كاسحاً وطدته السنون، ويستنجد بزمن مضى كان الاغتراب فيه اقل وطأة. "سأعود شاباً بعد ثلاثة اشهر". قال غالب وهو يقترب من السابعة والخمسين. كان يقصد بالشباب الموعود شيخوخة اقل واغتراباً انقص ومرضاً قابلاً للحصار. وما كانت احلام اليقظة الوردية، التي كان يقصها على سعدالله ونوس، الا مرآة للرحيل الوشيك: اذ تيار الأسى يقوض القارب المأمول. في كل هذا، ربما، ما يحيل على الانسان المتوحد في الزحام الكبير، وعلى الرواية، التي تسجل نثراً الخصام المتجدد بين المتسكع المتمرد وارادة الطريق القاهرة. ابتعد السؤال الاول يا "غالب" وأخذ صيغة منقوصة: ما الذي جعلك تعشق الشوارع الواسعة، وما الذي جعل الشوارع كلها فقيرة ومريضة الاجابة؟