نشرت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية يوم 25 كانون الثاني يناير الماضي، رسالة لضابط رفض ذكر اسمه قال فيها إن قيادة جيش الدفاع تعكف حالياً على مراجعة ملفات فرقة ال"اس اس" النازية، وذلك بقصد تطبيق أساليبها ضد فلسطينيي الضفة وغزة. وكان الضابط، الذي وصف نفسه بأنه أحد المتمردين من أفراد قوات الاحتياط، يقارن بين وسائل القمع الوحشية التي يتبعها الجيش الإسرائيلي وبين الارهاب النازي الذي روّع يهود أوروبا. يرجح المعلقون في إسرائيل أن يكون صاحب الرسالة هو اللواء احتياط ايغال شوحاط الذي دعا رفاقه الضباط إلى رفض الأوامر التي يعتبرونها غير قانونية وغير إنسانية مثل قصف مخيم رفح للاجئين. ولقد تجاوب مع دعوته خمسون ضابط احتياط قدموا عريضة احتجاج لرئاسة الأركان، أعربوا فيها عن رفضهم للخدمة في الضفة وغزة. وكانت هذه العريضة بمثابة إعلان تمرد على المؤسستين السياسية والعسكرية، الأمر الذي واجهته الحكومة بكثير من القلق والخوف. ومن المؤكد أن الخطاب المتلفز الذي ألقاه ارييل شارون مساء الخميس الماضي، كان يعكس حقيقة المأزق الداخلي في إسرائيل. صحيح أن حدوث التحول الجارف يحتاج إلى أكثر من عشرة آلاف متظاهر... ولكن الصحيح أيضاً أن حركة الأمهات بدأت بأربع نساء، ثم اتسعت لتصبح قوة ضاغطة أرغمت شارون على الانسحاب من بيروت والجبل. ومثل هذه الموجة الشعبية التي سُميت عام 1973 "حركة الاحتجاج" أجبرت غولدا مائير على مغادرة الحكم إثر اتهامها بالفشل. ولكي يمنع شارون تنامي التيار الداخلي المعارض، طالب الجميع بإظهار قدر أكبر من التماسك الشعبي والوحدة الوطنية لكي ينتصر في معركته ضد "الإرهاب الفلسطيني". الاحتجاج السلمي بدأ ضد سياسة الأمن الإسرائيلية التي أثبتت فشلها في تحطيم روح القتال لدى الفلسطينيين بعد مرور 17 شهراً من المواجهات الدموية. ولقد توصل المعارضون إلى استنتاج مفاده أن استخدام القوة أدى إلى تدهور الموقف، وإلى ازدياد الخسائر البشرية والمادية. والملاحظ أن موجة التصعيد اشتدت إثر اغتيال رائد كرمي في طولكرم، ومن ثم مقتل قائد وحدة "دفدفان" المقدم آييل فايس في حادثة ميدانية. وحصدت المصادمات اليومية أكثر من ثلاثين قتيلاً إسرائيلياً بينهم عشرة جنود و260 جريحاً. وسجلت المنظمات الفلسطينية بعض الانجازات العسكرية المهمة مثل تفجير دبابة "مركافا -3" قرب مفرق نتساريم، واستخدام صواريخ "القسام". في الرسالة التي نشرها ياسر عرفات في صحيفة "نيويورك تايمز" أشار إلى تفهمه للعامل الديموغرافي الذي يقلق زعماء إسرائيل. ويبدو أنه أراد تطمين المبعوث الأميركي انتوني زيني الذي أبلغه أكثر من مرة معارضة الرئيس بوش لحق عودة اللاجئين الفلسطينيين. ومع أن عرفات صاغ العبارات بكثير من التأني والحذر، إلا أن تصريح سري نسيبه حول مطالبة الفلسطينيين باسقاط حق العودة، أثار موجة من الاعتراض والتشكيك، خصوصاً أن وزير الإعلام ياسر عبدربه كان قد أعلن في واشنطن، أن قرار حق العودة الرقم 194 سينفذ مبدئياً، مع الأخذ في الاعتبار الطابع اليهودي لإسرائيل. ولكن جميع هذه الاعتبارات لم يطمئن غلاة اليهود الذين يتوقعون انفجار القنبلة الديموغرافية بعد عشرين أو ثلاثين سنة. أي عندما تتقلص الغالبية اليهودية في الدولة العبرية ويصبح من الصعب السيطرة على النسبة التي ترسم طابع إسرائيل، خصوصاً بعد نفاد مخزون الهجرة. وأمام هذه المعضلة المرتقبة عرضت جريدة "يديعوت أحرونوت" الأسبوع الماضي بعض الاقتراحات المقلقة، بينها: أولاً، تطبيق مشروع رحبعام زئيفي المطالب بضرورة الترحيل الطوعي للفلسطينيين، أو الإبعاد الجماعي، كما يدعو بني ألون. ثانياً، محاصرة عرب فلسطين داخل مناطق صغيرة، مستقلة ظاهرياً ومحتلة عملياً، تماماً كما كانت الغالبية السوداء في دولة جنوب افريقيا قبل مانديلا. أي حكم عنصري كامل "أبارتيد". ثالثاً، معاملة الفلسطينيين كمقيمين بصورة موقتة على أن يمنحوا الجنسية الأردنية. رابعاً، الانفصال الطوعي، أي القبول بدولة فلسطينية حسب الخطة التي اعدت في محادثات طابا. خامساً، الانفصال بالإكراه على أن يتم الانسحاب إلى خطوط 1967 وإقامة جدار عازل شبيه بجدار برلين، ثم زرع الحقول بالألغام. في خطابه يوم الخميس الماضي كرر شارون فكرة إقامة جدار عازل يفصل بين الشعبين. ولكن تنفيذ هذا المشروع يبدو مستحيلاً بسبب وجود المستوطنات داخل الأراضي الفلسطينية من جهة، وبسبب وجود ثلاثة ملايين فلسطيني في مختلف المناطق والمدن من جهة ثانية. ومعنى هذا ان النقاء العرقي الذي يتحدث عنه اليمين الإسرائيلي كحل نهائي للجنس المختار، من المتعذر فرضه إلا إذا نجح الجيش في طرد ثلاثة ملايين شخص. ويستدل من عمليات الانتحار التي يتسابق الشبان على تنفيذها، أن فكرة الترحيل الجماعي ستكون ضرباً من المغامرة. المعارضون لقيام دولة فلسطينية مستقلة أخرجوا من أدراج "كامب ديفيد" المشروع الذي عرضه على مناحيم بيغن الرئيس أنور السادات صيف 1978. وخلاصة المشروع أن تتولى إدارة مصرية شؤون الحكم في غزة، وأن يقوم الأردن بضم الضفة الغربية. وبكلام آخر، ان القبول بحل المستوطنات وانسحاب إسرائيل من الضفة وغزة يجب أن يقابل بإلغاء فكرة الدولة الفلسطينية، بحجة أن قيادة عرفات ليست ناضجة لحكم دولة، ومثل هذا الطرح المُرتجل يعبّر عن قلق عميق لدى الشعب الإسرائيلي الذي يخاف من قيام دولة فلسطينية مستقلة ربما تشكل في نظره عائقاً لتحقيق الحلم الصهيوني، أو ربما يؤدي تأسيسها إلى استقطاب أكثر من ثلاثة ملايين فلسطيني يعيشون في الخارج. في رده على الجانب المتعلق بحق العودة كما صوره عرفات، كتب سلمان أبو ستة، مؤسس هيئة "أرض فلسطين"، يقول: إن هذا الحق غير قابل للتصرف أو التعديل، لأنه حق مكفول بالميثاق العالمي لحقوق الإنسان والمواثيق الاقليمية الأخرى. وهو تطبيق للقانون الدولي جرى تخصيصه للاجئين الفلسطينيين في قرار الأممالمتحدة الرقم 194 الذي تكرر تأكيده 135 مرة. وهو أيضاً نابع من حرمة الملكية الخاصة التي لا تنقضي بالزمن ولا بالاحتلال ولا بالسيادة على الأرض. وحيث أن هدف إسرائيل الثابت هو انكار حق العودة، لذلك لجأت خلال المفاوضات الأخيرة إلى قبول حق العودة رمزياً، الأمر الذي يترك لها تحديد من يعود ومتى يعود! يقول المراقبون إن هجمات الانتحاريين تشير إلى حدوث تسلل يومي يلغي تلقائياً فكرة "الترانسفير" والحصار واقفال المعابر وكل التدابير الوقائية التي يبتكرها رئيس هيئة الأركان شاؤول موفاز. إضافة إلى هذا، فإن منطقة التماس المحددة بالخط الأخضر، أصبحت مُستباحة بفضل عمليات التمويه التي تنفذها "حماس" و"الجهاد الإسلامي". ويلمح شارون في خطابه إلى التضحيات التي قام بها الشعب اليهودي عبر التاريخ في سبيل إقامة دولته، وعليه يطلب من الإسرائيليين ألا يتراجعوا أمام موجات الانتحاريين. ولقد فُسرت هذه الدعوة بأنها مغامرة جديدة أخطر من مغامرته في لبنان، الأمر الذي هيأ لظهور حملة انقاذ أعلنت عنها مجموعة مؤثرة من الجنرالات والقادة المتقاعدين. وهدف الحملة المطالبة بانسحاب إسرائيلي من طرف واحد من أغلب الأراضي الفلسطينيةالمحتلة. ويقود الدعوة إلى تنفيذ هذه الفكرة رئيس الوزراء السابق ايهود باراك. وهي تطالب بانسحاب عشرين ألف مستوطن من أربعين مستوطنة، مع ترسيم يقضي بابقاء الفلسطينيين خارج حدود إسرائيل. وهي تتحدث عن انشاء دولتين مستقلتين. ونظراً لعدم وجود شريك فلسطيني يتولى إبرام هذا الاتفاق، فإن هذه المجموعة المؤلفة من ألف جنرال وضابط احتياط وأعضاء سابقين في شين بيت والموساد، قررت الدعوة لانسحاب من جانب واحد. أي الانسحاب من دون الوصول إلى اتفاق سلام، على أن يتم الاعتراف بدولة فلسطينية تتولى لاحقاً عملية مفاوضات السلام. وهذا دليل على سرعة الانهيار الأمني والحاجة الملحة إلى ترميم ما دمره شارون. يقول باراك إن السلطة الفلسطينية لم تكن مؤسسة حكومية بالمعنى المتعارف عليه بسبب عدم وجود دولة. وإنما كانت تمثل استمرار البناء الائتلافي لمنظمة التحرير في المهجر، كما تمثل الانسجام مع ظروف الواقع في الضفة وغزة. ولقد شكل هذا الاجماع السياسي السلاح الأغلى للسلطة الفلسطينية التي تعمد شارون تدميرها. وهكذا ظهرت التيارات الفلسطينية المعارضة كبدائل من السلطة، وراحت تنتقم من إسرائيل بسلاح الكراهية والنقمة والغضب. ويرى باراك أن الوسيلة الوحيدة لإنهاء العنف يمكن اختصارها بتقديم عرض سياسي مغرٍ يستطيع عرفات استخدامه لبلورة اجماع سياسي مبعثر، وإعادة صوغ نموذج كلاسيكي للسلطة المغيّبة والمحاصرة. في معرض تطمينه للشعب الإسرائيلي القلق، وعد شارون باستئناف اللقاءات مع العناصر الفلسطينية المعتدلة، وكان بالطبع يعني لقاءاته مع أبو علاء وأبو مازن. وهذا ما أكده رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني الذي وقعّ في السابق مجموعة مسودات مع شمعون بيريز وبن عامي ويوسي سريد. ولكنها بقيت حبراً على ورق، لأن رئيس السلطة رفض تبنيها. علماً بأنه محاصر في مبنى الرئاسة في رام الله منذ 82 يوماً. ولقد أصدر شارون قراراً بمنعه من مغادرة المدينة، سواء إلى قطاع غزة أو إلى الخارج. ثم ارسل الدبابات لتطوق المكان وتراقب تحركاته. ويبدو أن الحصار أزعجه خلال الشهر الأول، خصوصاً عندما شعر بأن الإدارة الأميركية تساهم في معاقبته. ولكنه سرعان ما تغلب على الاحباط واليأس والقلق باستقبال الوفود الشعبية المتضامنة معه. ولقد نظمت له الأجهزة الأمنية تظاهرات يومية حاشدة كانت تهتف بحياته مرددة: تحاصرنا في بيروتْ ما بينفع معنا الحصار لأجل الأقصى بدنا نموت لعيونك أبو عمار. يؤكد حراس ياسر عرفات أن الوفود الشعبية كانت بمثابة العلاج النفسي الناجع الذي شفاه من مرض الاحباط والحصار، وأنساه حب السفر المتواصل. لذلك قربته العزلة من الناس، وأصبح أكثر اهتماماً بأحوالهم، وأكثر معرفة بأوضاعهم الاجتماعية. وكان من الطبيعي أن ينعكس المزاج المريح على سلوكه بحيث أصبح أقل توتراً وانفعالاً. ومع أن سنوات النضال أنسته فن استساغة النكتة الظريفة، إلا أن وضعه الحالي أنعش في ذاكرته حب النكتة المصرية. وكثيراً ما يفاجئ ضيوفه القادمين من خارج رام الله بالسؤال عما إذا كانت "المحاسيم" منتشرة بكثرة في الضفة. و"المحاسيم" معناها بالعبرية "الحواجز". وهو يطرح السؤال بسخرية لأن ارييل شارون أمر بتكثيف الحواجز خشية تسلل الرئيس الفلسطيني إلى الخارج. وهو عمل يرفض أبو عمار القيام به، إلا إذا كانت عودته مكفولة من قبل الرئيس جورج بوش. وهو يتوقع أن تصدر هذه الكفالة قبل مؤتمر القمة العربية التي ستعقد في بيروت نهاية الشهر المقبل! * كاتب وصحافي لبناني.