خلال الاسبوع المقبل تحتفل فرنسا، والحياة الأدبية في العالم، بالذكرى المئوية الثانية لولادة فيكتور هوغو، الكاتب الفرنسي الكبير الذي يصفه القرّاء عموماً، في مكانة واحدة الى جانب شكسبير الانكليزي وغوته الألماني ودانت الإيطالي وغيرهم، بوصفه من اعظم الادباء الذين أنجبتهم البشرية في تاريخها. وفيكتور هوغو، كما نعرف، كان غزير الانتاج متنوعه: من الرواية الى المسرح، ومن الشعر الى البيانات السياسية. خاض الكتابة ودائماً في لغة بسيطة، وعبر مواضيع تقترب كثيراً من اذهان قرائه وأفكارهم، وهذا ما جعل له شعبية في العالم اجمع تجلت واضحة خلال الشهور الفائتة، إذ شارك كتّاب من انحاء العالم كافة في الاحتفال به، واستبعدت ذكراه، وعاد الحديث يدور على كتبه، ولا سيما رواياته. المخرج الفرنسي برنار تافرنييه، تحدث للمناسبة، مرات عدة في صحف بلاده عن حصة السينما من حياة هوغو وأدبه، مؤكداً ان رؤية الرجل كانت، على الأحرى، سينمائية بصرية. فقارئ رواياته، ولا سيما منها "أحدب نوتردام" و"البؤساء" لن يفوته أن يجد في وصف الشخصيات والأماكن والمواقف ارهاصاً ولادة ذلك الفن الذي سيعطي اللغة، طوال القرن العشرين، بعداً بصرياً ما كان يحلم به قبل ذلك إلا القلة من المتبصرين. وهوغو كان من تلك القلة. غير ان المفاجئ في "علاقة" أدب فيكتور هوغو بالفن السابع، هو ان اهتمام هذا الفن، بأدب هوغو، كاد يقتصر طوال القرن العشرين على رواية واحدة له هي "البؤساء"، حتى وإن كان فيلم "احدب نوتردام" الذي حقق في الخمسينات ومثله انطوني كوين وجينا لولو بريجيدا، يظل الأشهر والأكثر شعبية من بين الافلام المقتبسة من نص لهوغو. ومع هذا، ثمة اقتباسات عدة، غير معلنة غالباً، لأعمال من هوغو في السينما تافرنييه، مثلاً، يذكر ان "الجاسوسة الحسناء" للأميركي راؤول والش لا يمكن إلا ان يكون مقتبساً من "عمال البحر" لهوغو. لا نولد مجرمين وبالنسبة الى "البؤساء" لا بد من ان نذكر بأنه العمل الأدبي الذي اقتبس على الشاشة الكبيرة - ثم الصغيرة لاحقاً - اكثر من اي عمل ادبي آخر، في استثناء "غادة الكاميليا" لألكسندر دوما الابن، و"كارمن" بروسبير مريميه، و"الفرسان الثلاثة" لدوما الأب. بل ان السينما منذ عقدها الأول التفتت ناحية هذه الرواية، إذ نجد شركة ماركوني، في العام 1907، تقتبس الرواية، في شكل بدائي للغاية، تحت عنوان "عامل السكة الحديد". أما الاقتباس الحقيقي الأول فهو الذي حققه كابيلاني 1911 في الفيلم الصامت الذي حمل عنوان الرواية، وعرض في اربع حلقات زاد طولها على اربع ساعات. ولعل ميزة هذا الاقتباس الرئيسة انه استخدم "دامجاً" اياها في المشاهد التمثيلية، تلك الرسوم التي كانت وضعت للطبقة الشعبية الاولى التي صدرت للرواية وأشرف عليها هوغو بنفسه. ومنذ فيلم كابيلاني ذاك، وحتى نجمنا العربي فريد شوقي سنوات قليلة قبل رحيله، والمخرج الدنماركي بيل اوغست، الذي حقق أواخر التسعينات نسخة جديدة تلفزيونية لكنها عرضت سينمائياً لرواية هوغو الكبيرة، لم تكف السينما عن العودة الى ذلك النص الرؤيوي، من موقع جمالي، ولكن أيضاً من موقع سياسي - اجتماعي ينم عن مواقف هوغو التي كانت في زمنه، تقدمية تقف الى جانب المظلومين وتبرر لهم انحرافهم ان كان المجتمع هو المسؤول عنها. وفي هذا الاطار كان كمال سليم، أحد مؤسسي الواقعية في السينما المصرية، غير بعيد عن الوصول الى جوهر عمل هوغو حين أكد، لمناسبة اقتباسه ل"البؤساء"، بين 1943 و1944 "اننا لا نولد مجرمين ولكن المجتمع بنظمه وقوانينه هو الذي يجعل منا أفراداً صالحين أو مجرمين عتاة". وهنز، لمناسبة الحديث عن كمال سليم، قد يكون من المفيد الاشارة الى ان الناقد الفرنسي جورج سادول، يعتبر اقتباس سليم المصري ل"البؤساء" واحداً "من أفضل الاقتباسات التي حظيت بها هذه الرواية في تاريخ السينما"، وذلك على رغم النهاية التجارية التي جعلها كمال سليم لها، وعلى رغم تطعيم الأحداث، ومن دون مبرر واضح، بأغنيات ورقص قطعت سيرورة النص الروائي الأصلي. قيمة الإنسان وكرامة المرأة ترى ما الذي رآه كمال سليم، بعد سنوات قليلة من تحقيقه فيلم "العزيمة" في رواية "البؤساء" حتى يقتبسها؟ على هذا السؤال يجيب المخرج والباحث جلال الشرقاوي في دراسته التي لا تزال فريدة من نوعها حتى اليوم "رسالة في تاريخ السينما العربية" 1962: "ان المقدمة التي صدر بها فيكتور هوغو روايته كانت وكأنها موجهة الى مصر وشعبها مع فارق بسيط هو ان هوغو كتبها في عام 1862، ونحن، للأسف، في العام 1944". والمقدمة التي يعنيها الشرقاوي هنا هي تلك التي يقول فيها هوغو: "ما دام ثمة، بسبب القوانين والأعراف، سحق اجتماعي يخلف ضروباً من الجحيم على الأرض، في شكل مصطنع وعلى مرأى ومسمع من الحضارة، ويعقد قدراً انسانياً، كان في جذوره الالهية محتوم المصير. وما دامت مشكلات العصر الثلاث الحط من قيمة الإنسان بالبؤس، وتحطيم كرامة المرأة بالجوع، وتشريد الطفولة بالجهل لم تحل بعد. وما دام الاختناق الاجتماعي ما يزال ممكناً في بعض البقاع ... ما دام على ظهر هذه الأرض جهل وبؤس، فإن كتباً مثل هذا الكتاب لا يمكن الاستغناء عنها...". وهنا لا بد من أن نذكر ان كمال سليم، على عكس السينمائيين الأوروبيين والأميركيين الذين اقتبسوا "البؤساء" وابقوا احداثها في باريس أواسط القرن التاسع عشر، عمد الى تمصير الأحداث والشخصيات بنقل الحدث الى القاهرة المعاصرة له. صحيح انه ابقى تسلسل الأحداث على حاله مسقطاً الجانب السياسي من العمل، بحسب ما يروي جلال الشرقاوي، لكن جان فالجان صار لديه مصرياً يدعى "الشرقاوي" والأسقف شارل فرانسوا صار "الشيخ عبدالله" وكوزيت صارت سعاد وفانتين "درية"، وجافير "فهيم" وماريوس "فتحي" الى آخره... ديكور معلم حقيقي والحال ان كمال سليم وفق تماماً في هذا النقل وبرهن، ليس فقط عن قدراته الفنية المتميزة، وتوغله أيضاً في عالم الحارة المصرية، بل أيضاً على "عالمية" نص هوغو، تلك العالمية التي لم تلغ خصوصية أدب الرجل وانتمائه الى مكانه وزمنه. ولعل السمة الأساسية لأدب هوغو الكبير تكمن هنا. والمدهش في هذا الاطار ان يكون مخرجون من بلدان العالم الثالث، قد تمكنوا، أكثر من الغربيين الذين تعاطوا مع نص هوغو، من التعبير عن تلك العالمية، إذ نجد الهندي التاميلي ك.رامنوث يحول "البؤساء" الى عالم البؤس في الهند تحت عنوان "ايزاي بادوم بادي" 1953، وكذلك الحال مع الياباني دايزوكي ايتو، الذي قدم من خلال "بؤسائه" عملاً يابانياً خالصاً مثلته الرائعة سوسوي هاياكاوا 1952. وفي عودة الى فرنسا، تشير الى ان الاقتباس الأفضل ل"البؤساء"، لا يزال، حتى اليوم يعتبر ذلك الصامت الذي حققه هنري فسكور في العام 1925، والذي صُوّر، بحسب سادول، وسط "ديكور زرعته يد معلم حقيقي"، ومن مخرج عرف كيف يخلق توليفة حقيقية. وبعد فيلم فسكور كان هناك فيلم ريمون برنار، الناطق، في العام 1934، ولم يقل طوله عن ست ساعات. ويقول مؤرخو السينما الفرنسية ان هذا العمل جاء يومها، في زمنه تماماً، إذ تواكب عرضه مع أحداث دموية طبقية عاشتها باريس 1934 وكانت وراء مجيء "الجبهة الشعبية" الى الحكم بعد ذلك بعامين. وإلى الفرنسيين والمصري كمال سليم الذي سيسير فريد شوقي على خطواته في فيلم ملون ينتمي الى نهاية سنوات السبعين، وفيه حقق شوقي حلماً قديماً لطالما راوده، الى هؤلاء، كان هناك الأميركيون الذين بدورهم فتنتهم رواية فيكتور هوغو. وهكذا لم يخل عقد من فيلم مقتبس، اميركياً، عن "البؤساء" ولكن من دون تحليل عميق للبعدين الاجتماعي والسياسي، ومن دون تبديل لمكان الأحداث وزمانها. وهنا يمكن التوقف بخاصة عند فيلم فرانك لويد 1918، صامت، ثم عند فيلم ريتشارد بولزلافسكي الناطق، 1935، ثم فيلم لويس مايلستون 1952، بين افلام اخرى... في وقت نجد فيه السوفيات يخوضون بدورهم مغامرة "البؤساء" عبر ت. لوكاتيفيتش، الذي لم يكن من الصدفة ان يختار لاقتباسه، التركيز على شخصية غافروش، التي حُمِّل الاقتباس اسمها 1937. أما الإيطالي ريكاردو فريدا، فكان بدوره اميناً لأسلوبه في سينما المغامرات حين جعل التركيز في اقتباسه ل"البؤساء" يحمل موضوع "الهارب من السجن". وماذا بعد اليوم؟ وإذا كانت رواية "البؤساء" حازت القدر الأكبر من اهتمامات السينمائيين بين اعمال فيكتور هوغو، يمكننا ان نعثر على ما لا يقل عن اربعة اقتباسات ل"أحدب نوتردام"، بين العام 1923 والعام 1996. وثلاثة من هذه الاقتباسات اميركية، اما المرة الوحيدة غير الأميركية فكانت في الفيلم الإيطالي/ الفرنسي المشترك الذي حققه جان ديلانوا في العام 1956، وهو الأشهر بالطبع والوحيد الذي قد يرد الى الذهن فور الحديث عن علاقة السينما بأدب فيكتور هوغو. وكثيرون، بالطبع، من ابناء جيل الخمسينات والستينات لا يزالون يذكرون اداء انطوني كوين في دور كازيمودو، ولكن بخاصة جينا لولو بريجيدا في دور ازميرالدا، الذي اوصلها الى أن تصبح بين ليلة وضحاها نجمة عالمية. ومع هذا لا يمكن القول ان فيلم ديلاتوا هذا هو الأفضل، ولا ان أداء انطوني كوين يمكن ان يكون متفوقاً على الأداء الاستثنائي الذي قدمه، في الدور نفسه، تشارلز لوتون، في "أحدب نوتردام" للأميركي ويليام ديتريل 1939 في مواجهة مورين اوهارا ازميرالدا. اما الأخير، في سلسلة الأفلام الأميركية المقتبسة عن رواية هوغو هذه، فهو فيلم الرسوم المتحركة الذي حققه غاري تراوسديل في العام 1996، ونال إقبالاً ونجاحاً كبيرين. صحيح انه كان الأبعد عن روح عمل هوغو والأقل أمانة لجوهر الرواية، لكنه يظل حتى اليوم الأكثر نجاحاً ورواجاً بين كل ما اقتبس عن هوغو، ولا يمكن بالطبع ان يعزى هذا الى وجود صوت ديمي مور في الفيلم في دور ازميرالدا، حتى ولو كان لها جمهورها، ذلك ان جمهور هذه الفاتنة يحبها عارية، وهي هنا لم تتعر بالطبع. ومن الواضح، اليوم، ان معدل مئوية ولادة هوغو الثانية، سيكون مناسبة لإعادة العمل، سينمائياً على بعض اعماله، واكتشاف امكانات بصرية في روايات ونصوص اخرى له، هو الذي يقول برنار نارفرنييه عنه، وعن زميله الكسندر دوما، انهما كانا اكثر كاتبين استبقا اختراع السينما عبر احتفال كتابتهما، هندسياً وسردياً، بالنص السينمائي الذي يقوم على ايجاد معادلة بين هندسة المكان والزمان، ودواخل الشخصيات وهي المعادلة نفسها التي لطالما تحدث عنها فرانسوا تروفو، مخرج الموجة الفرنسية الجديدة، الذي كان يؤمن بإمكان الأدب الشعبي وفي قمته دوما وهوغو التحول الى سينما. ولعل هذا ما كان يشغله، هو، حين اختار يوماً. شخصية اديل هوغو، ابنة الكاتب الكبير، ليمول حكاية حياتها ومعاناتها، وعلاقتها الضمنية بأبيها، موضوعاً لواحد من افضل افلامه "حكاية اديل ه."، بل الى واحد من افضل الأدوار التي لعبتها ايزابيل ادجاني حتى اليوم.