السمة الواضحة التي باتت تميز السياسة الاميركية الحالية ازاء التصاعد غير المسبوق في الصراع الفلسطيني - الاسرائيلي في الأيام الأخيرة هي الصمت المطبق، بعدما كانت واشنطن الى عهد قريب تصدر تأنيباً ما أو تدعو الى ضبط النفس وتذكّر، مثلاً، بضرورة شروع الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي في تنفيذ تفاهمات تينيت وتوصيات تقرير ميتشل. ترى ما الذي أحدث هذا التغيير؟ بعد أحداث 11 أيلول سبتمبر والرد الأميركي عليها بضرب نظام "طالبان" في افغانستان وضرب تنظيم "القاعدة" أحست إدارة الرئيس جورج بوش بنشوة "النصر" والقدرة على عرض القوة العسكرية الاميركية على بعد آلاف الأميال من اليابسة الأميركية، وادركت ربما أكثر من أي وقت سابق انها تستطيع فرض هيمنتها الكاملة على العالم، أو معظمه، لمصلحتها بالدرجة الأولى ولمصلحة أقرب حلفائها اليها، وفي مقدمهم اسرائيل. وعندما زار رئيس الوزراء الاسرائيلي ارييل شارون البيت الأبيض أخيراً وعرض طلباته، ومن بينها ان تغلق الولاياتالمتحدة مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن وتضع على لائحة الارهاب الحرس الرئاسي الفلسطيني "القوة 17" وحركة "فتح" وأن تؤيد سعي الحكومة الاسرائيلية الى ايجاد قيادة بديلة لقيادة الرئيس ياسر عرفات، قوبلت هذه الطلبات كلها بالرفض. وقيل لشارون في المقابل ان في وسعه شن عمليات عسكرية ضد الفلسطينيين من دون أن يبقى في مناطق سيادتهم مدة طويلة، وأنه يستطيع المضي في سياسة اغتيال النشطاء الفلسطينيين. لكن الأمر الأهم الذي قيل له هو ضرورة أن لا يفعل ما من شأنه أن يثير حرباً شاملة مع الفلسطينيين أو على الصعيد الاقليمي وأن يبقي تصرفاته في الحدود التي أوضحت له لأن اميركا تعد بنشاط لضرب العراق. ولعل هذا هو ما يفسر "الخطوط الحمر" التي ذكرت صحيفة "معاريف" العبرية ان شارون وضعها لنفسه وهي عدم المس بالرئيس الفلسطيني جسدياً، وعدم تقويض السلطة الفلسطينية تماماً وعدم إعادة احتلال المناطق الفلسطينية المصنفة أ. وشارون اذ يفرض على نفسه تلك "الخطوط الحمر" لا يفعل ذلك طبعاً من منطلق أي خلق فاضل لديه، وإنما انتظار لمرحلة ما بعد ضرب العراق والتي يرى أنه سيسهل عليه فيها التعامل مع عرفات والسلطة الفلسطينية كما يحلو له. في غضون ذلك، من الواضح ان الرئيس جورج بوش وأركان ادارته يتعامون عمداً عن الأسباب الحقيقية الكامنة وراء ما يسود الشرق الأوسط من غليان وصراع دموي متفاقم وكراهية عارمة لسياسات الادارة الاميركية ومؤيديها، ونعني بتلك الأسباب سياسات شارون الدموية ورفضه الالتفات الى أي امكانات للدخول في مفاوضات سياسية ذات معنى مع الفلسطينيين. وبدلاً من أن تلتفت واشنطن الى مصدر الشر الحقيقي في المنطقة، وهو هذه السياسات الاسرائيلية الرافضة للانسحاب من الأراضي العربية وفقاً لقرارات مجلس الأمن، فإن بوش يتحدث عن "محور الشر" مدرجاً كوريا الشمالية وايران والعراق في ذلك المحور رغم ان لا علاقة لها من قريب أو بعيد بأحداث 11 أيلول. ان هذا التعامي عن الحقيقة يفسر، من دون أن يبرر، اختيار الناطق باسم وزارة الخارجية الاميركية ريتشارد باوتشر الثلثاء الماضي القول، عندما سئل عن تصريحات الأمير عبدالله بن عبدالعزيز ولي العهد السعودي لصحيفة "نيويورك تايمز"، انه اذا كانت المملكة العربية السعودية تفكر في تطبيع العلاقات مع اسرائيل فإن واشنطن ترحب بذلك. ولما سئل عن الشرط الواضح الوارد في تصريحات الأمير عبدالله، وهو انسحاب اسرائيل من الأراضي العربية المحتلة الى حدود 4 حزيران وقيام دولة فلسطينية عاصمتها القدس رد بأن أي مسائل محددة يجب أن تخضع للمفاوضات! وإذا كانت هذه حقيقة الموقف الاميركي، فإن من الصعب اضفاء أي صدقية على اعلان الرئيس بوش ووزير خارجيته عن الرؤية الاميركية المتعلقة بقيام دولة فلسطين الى جانب اسرائيل، خصوصاً وان التجارب الماضية تدل على اطلاق اميركا وعوداً كاذبة لآجال محدودة ولغايات واضحة مثل تشكيل "تحالف دولي" لضرب هذا البلد أو ذاك.