على رغم أن الوضع الفلسطيني بلغ أسوأ حالاته، إلا أن الوضع الإسرائيلي - الأميركي لا يبدو أفضل حالاً. المقارنة صعبة، نظراً إلى الكم الهائل من التدمير الذي افتعلته إسرائيل في المناطق الفلسطينية، لكن عند البحث في حلول فإن المأزق يحتوي الجميع. وما لفتت إليه المواقف الأوروبية كان تنبيهاً إلى عدم وجود عمل جدي لمعالجة الأزمة بالوسائل الطبيعية، أي السياسية. بديهي أن المنهج الدموي الذي اتبعه ارييل شارون وصل إلى أقصاه، ولم يعد أمامه سوى خطوة واحدة: ازاحة الرئيس الفلسطيني بأي طريقة. وإذا كانت القدرة متوفرة طالما أن قوة الاحتلال وضعت الشعب الفلسطيني كله تحت رحمتها، فإن ما بعد عرفات هو ما لا يقنع أحداً بعد، على رغم الحديث عن وجود بديل جاهز. صحيح أنها حرب، وأن أي زعيم يمكن أن يقتل في الحرب، لكن "البديل" المبرمج لا يستطيع - أياً كان - اهداء قوة الاحتلال توقيعه على "اتفاق سلام" لا يوفر لشعبه أي نوع من السلام والأمن والكرامة. كان شارون معضلة لدى الإدارة الأميركية الحالية، فأصبح "مرشداً للثورة". ثورة على عملية السلام واتفاقاتها وموجباتها، وعلى "المكاسب" التي تحققت للفلسطينيين من نشوء علاقة بينهم وبين واشنطن، بل ثورة على التدخل الأميركي في شؤون تعتبرها إسرائيل "داخلية". واستطاع شارون أن يستدرج الديبلوماسية الأميركية إلى قبول كل المحرمات وأكثرها بشاعة ولا أخلاقية: من جرف المنازل إلى الاغتيالات، ومن اذلال الشعب الواقع تحت الاحتلال إلى ترسيخ هذا الاحتلال، ومن نهب المؤسسات الفلسطينية المدنية إلى انكار حق المقاومة، وأخيراً من إلغاء كل حل سياسي إلى الخيار الشاروني الوحيد، وهو التخلص من الرئيس الفلسطيني. أكثر من ذلك، قدمت واشنطن مساهمات لدعم المنهج الدموي، وكأن مجرم الحرب اعوزته الحيلة، فأصبحت لا ترى اخطاءه ولا تعترف بإفراطه في العنف، ولم تكتف بالشروط الشارونية في "خطة تينيت" فأضافت إليها "مطالب زيني"، حتى أن الأخير وصل إلى المنطقة بمواقف سلبية مسبقة ولم تسعفه عيناه واذناه وعقله وخبرته فضلاً عن التقارير والزيارات الميدانية في إدراك الحقيقة كما هي على الأرض. ذهب معجباً بالعسكر الإسرائيليين وغادر أكثر اعجاباً، ارسله كولن باول لتسهيل عملية تنفيذ "الرؤية" فعاد ناطقاً إسرائيلياً ينافس شارون وبن اليعيزر وموفاز في صلفهم وتشويههم للحقائق. يراد لياسر عرفات أن يدفع حياته ثمناً للثمن السياسي الذي يفترض أن يقدم للفلسطينيين كي يوقفوا الانتفاضة وينسوا "اتفاقات أوسلو"، ويقبلوا بما يمكن أن يقدم ل"البديل". والمسألة ليست في غياب عرفات عن الساحة أو في بقائه، المسألة تكمن في عدم وجود أي مشروع سياسي حقيقي للخروج من الأزمة. وطالما أن هناك في واشنطن، أو في بعض العواصم العربية، من يعتقد أن عرفات فوّت فرصة تاريخية في مفاوضات كامب ديفيد، فإن الحلول المطروحة لن تخرج عن نطاق الأفكار التي طرحها شارون على أساس إعادة 40 في المئة من الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1967، وهي نفسها ما طرح ورفض في كامب ديفيد. كانت القوالب والخدع مختلفة في تلك المفاوضات، إلا أن الجوهر واحد. ولو كانت "فرصة" كامب ديفيد جدية لما لزم تطويرها في مفاوضات طابا. كانت مفاوضات كامب ديفيد حفلة أكاذيب لتمرير الخدعة، وكانت نموذجاً للمنهج الخاطئ في التفاوض. لكنها اختصرت في استنتاج واحد خاطئ، مفاده أن الفلسطينيين ضيعوا "الفرصة"، وهذا ما اخترق رأس الرئيس الأميركي الحالي وأقنعه بأن رئيساً مثل عرفات يرفض تلك "الفرصة" لا يمكن التعامل معه. لم يبذل الجانب العربي أي جهد لتوضيح الحقائق، فاحتل التضليل الإسرائيلي الساحة لإعادة السياسة الأميركية إلى المربع الأول، أي إلى الانحياز الكامل للحليف الإسرائيلي. ويبقى الآن أن يشعل جورج الضوء الأخضر لشارون كي يتخلص من عرفات، ولدى بوش مبرر لذلك، فهو في حرب على الإرهاب، وكل شيء في الحرب مباح، بما في ذلك قتل قضية الشعب الفلسطيني مجدداً.