تؤكد خطوات شارون الأخيرة في مواجهة الشعب الفلسطيني استمراره في نهج التصعيد الزاحف والتدريجي بشكل يطمس الحدود الفاصلة بين كل خطوة وسابقتها، حتى وجدنا أنفسنا امام وضع تدخل فيه الدبابات مدينة جنين وتخرج منها بشكل خاطف، يتلوه اعداد العدة لاقتحام بيت لحم وبيت جالا، الى ان تهدأ بؤر اطلاق النار على مستوطنة غيلو جنوب مدينة القدس. وخلال انشغالنا بكل خطوة جديدة تكرر اسرائيل الخطوات التي سبقتها كأنها عرف وعادة، ولم تعد الاغتيالات المستمرة تحتل عناوين كبيرة في نشرات الاخبار، ولم يعد يعني الكثيرين ان "منطقة H2" في الخليل المطعونة بمستوطنة هداسا والتي يقطن فيها ما يزيد على 30 ألف مواطن تعاني منع التجول الكامل منذ أكثر من شهر بانقطاعات لا يتجاوز مجموعها ثمانية أيام. كما لا يلفت نظر العالم المتنور ان مرضى فلسطينيين مصابين بالفشل الكلوي فارقوا الحياة لأنهم منعوا من الوصول الى المستشفى للقيام بغسل دم دياليزا، وان العرس الفلسطيني، الذي تحول الى فولكلور في الشتات، هو عملية معاناة لا تنتهي، فأهل العريس لا يستطيعون مرافقته عبر الحاجز الى قرية العروسة، وقد يضطر العروسان الى عبور الحاجز مشياً على الأقدام، وقد يعتقل المحتفون بهما على الحاجز. يقوم الاحتلال الاسرائيلي بقمع المجتمع الفلسطيني بمجمله، وعملية القمع غير الانتقائية باتت تنخر في حياة الانسان الفلسطيني اليومية وتعطل وظائفه من العمل وحتى الزواج، ولا يستثني القمع الاسرائيلي ما تستثنيه وتحترمه انماط استعمارية اخرى مثل الافراح والأتراح. ولأن شارون لا يطرح أي خيار سياسي، ليس أمام المجتمع الفلسطيني سوى الصمود أمام آلة القمع الاسرائيلية والنضال بالوسائل المتاحة، ولا يلوم الاحتلال الاسرائيلي الذي قسم الضفة الغربية وقطاع غزة إلى ثلاثة وستين كانتوناً مغلقاً باحكام، إلا نفسه اذا ما انتج الواقع البائس انماطاً يائسة من المقاومة تعطي معنى للموت بعد ان تفقد الحياة بهذه الظروف المذلة معناها. ولكن هذا الرجل لا يكتفي بسد آفاق السياسة، بل يحاول على رغم ذلك ان يثبت للشعب الفلسطيني، انه ما زال لديه ما يخسره. وان باستطاعته تسجيل نقاط سياسية ضده، وضد قيادته. وما دامت الانتفاضة كلها ضد الاحتلال ليعلم الشعب الفلسطيني ان اسرائيل لم تستنفد احتلالاتها وبالإمكان احتلال - المنطقة ب كما فعل باراك، وبالإمكان احتلال بيت الشرق مرحى لفاتح بيت الشرق!! وبالامكان اعادة احتلال بيت جالا... وهيهات يحاول شارون اقناع الشعب الفلسطيني انه ما زال لديه ما يخسره. لم نسمع عن قوة فلسطينية سياسية أو اجتماعية جدية واحدة اقتنعت بهذا المنطق الشاروني. ومقابل ذلك تتزايد الأصوات الاسرائيلية التي تدعي ان لدى اسرائيل ما تخسره اقتصادياً واجتماعياً. قد تكون اسرائيل قوة اقليمية عظمى بالمعنى التكنولوجي والعسكري، ولكن الاسرائيليين ليسوا مجموعة من العظام، بل هم بشر عاديون. وتثبت التجربة ان قدرتهم على الاحتمال تقل عن قدرة الفلسطينيين، وذلك لأسباب تتعلق بنمط الحياة والاعتياد على مستوى المعيشة المرتفع والحرية المفروغ منها بممارسة الحياة اليومية. ولكن قوة اسرائيل وتفوقها العسكري توفران عليهم التعرض لاختبارات جدية - ولذلك تلجأ غالبيتهم حالياً، كما تشير استطلاعات الرأي العام، الى التفوق العسكري كحكم بينهم وبين الشعب الفلسطيني، وإلى طلب الحرب كحل للمأزق. لقد انتخب الاسرائيليون شارون ليجلب لهم "الأمن" بعد ان انهارت أوهامهم حول امكان السلام مع الفلسطينيين بشروطهم - ولكنه لم يجلب الأمن، وهو لا يستطيع الاستجابة الى هتافات الحرب، لأن الحرب الاقليمية غير واردة لأسباب لا تتعلق كلها باسرائيل، ويبدو ان احتلال أجزاء من المنطقة ب ثم من المنطقة أ لا يؤدي الى الحرب. ولكن شارون يبقي المدن الفلسطينية المحاصرة محاصرة، أي محتلة تتحكم بها اسرائيل من كل ناحية، من دون اخضاع السكان مباشرة للحكم العسكري المباشر - لأن هذا يعني العودة الى حال ما قبل عام 1987، التي أدت الى انتفاضة جماهيرية حازت على تعاطف العالم أجمع وحققت تضامناً عالمياً أوسع وأعمق من التضامن الحالي. لا يتوافر لدى شارون سيناريو لما بعد احتلال المدن الفلسطينية من جديد، ولو توافر فإنه لا يمكن ان يتجاوز محاولات فشلت في الماضي لاختراع قيادات فلسطينية محلية مستعدة للتساوق مع مخططاته السياسية. وهذه مغامرة محكوم عليها بالفشل. لا يتوافر في جعبة شارون استراتيجية سلام أو خيار سياسي يقدمه للفلسطينيين، حتى لو وجد من يتفق معه على ان العقبة هي "وقف العنف" - فهو انه لم ينبس ببنت شفة حول ما يبيته سياسياً بعد "وقف العنف"، أي المقاومة. وهو يطلب ان يتم ذلك من دون قيد أو شرط، ويعد بمفاوضات غير مشروطة ولا محددة السقف حول مرحلة انتقالية طويلة المدى لا يعرف سرها أو كنهها سواه. كما لا يتوافر في جعبته خيار الحرب الشاملة، لأنه ليس صاحب قرار بشأنها. فالقرار في اميركا. ومع ذلك ينتظر منه الاسرائيليون توفير الأمن، ولذلك فإن خياره الوحيد هو التصعيد لرفع معنويات الاسرائيليين وايهامهم بأنه لم يستنفد الوسائل بعد - وهذا هو مصدر "الابداع" الشاروني في ردود الفعل على العمليات الفلسطينية. ولا شك انه يأمل في ان يؤدي القمع الى الفت من عضد المجتمع الفلسطيني والقيادة الفلسطينية. ليس شارون خالياً من الايديولوجيا، كما انه رجل تكتيك، ولكن لا توجد استراتيجية بينهما، ويستمد شارون ايديولوجيته من انتمائه الى جيل الجنرالات الذين حاربوا في النكبة حرب الاستقلال كما يسمونها ولم يتابعوا طريقهم السياسي في حركة العمل بعد عام 1967، بل تابعوا حياتهم السياسية كأن "حرب الاستقلال" الصهيونية لم تنته، ويبدو انها لن تنتهي بالنسبة لهم. هؤلاء الجنرالات امثال زئيفي ورفائيل ايتان وشارون نفسه، هم علمانيون قوميون متطرفون وعنصريون، ويعتبرون العرب عدواً أبدياً، لن يسلم بوجود اسرائيل وهم لا يفرقون بين وجود اليهود ووجود اسرائيل الا مرغماً، اي بالقوة. وهذا يعني عدم التمييز جدياً بين اتفاقات الهدنة واتفاقات السلام، ولذلك لا يمكن ان تتوافر لديهم استراتيجية سلام من أي نوع. ولكن شارون يختلف عن بقية الجنرالات من جيله انه رجل تكتيك في الحرب والسياسة ولا شك بتملكه للتكتيك منذ ان نظّر لاقامة الليكود ثم حافظ على ذاته زعيماً مهماً داخل هذا الحزب في مرحلة شامير متجاوزاً مرحلة الهزيمة، بعد سقوط نتانياهو. وعاد إلى السياسة، بمعنى تولي الوزارات الجدية بصبر وأناة بعد اقصائه عنها اثر تقرير لجنة كاهان حول حرب لبنان وتورطه بجرائم فيها. وأثبتت التجربة وتصريحات بن غوريون وغولدا مئير عنه كجنرال انه يعتبر الكذب تكتيكاً مشروعاً. نحن أمام سياسي، رجل تكتيك، ايديولوجي التعامل مع الصراع ولا يملك استراتيجيات. وهو بالتالي يقوم بعملية ادارة ازمات محاولاً من خلالها تسجيل نقاط سياسية وعدم تمكين الفلسطينيين من تسجيل اية نقاط لمصلحتهم، لكي يثبت عدم نجاعة المقاومة. ومنذ ان "ابدع" مقولة وقف اطلاق النار الكاذبة كتعبير كاذب عن التزام كاذب بتقرير لجنة ميتشل، لم يتوقف شارون عن نهج التصعيد من دون اهمال جانب "العلاقات العامة" في الغرب، مكرراً ان الفلسطينيين رفضوا افكار باراك، أي رفضوا السلام وليس لديهم ما ينتطرونه من حكومته. يختلف شمعون بيريز في التكتيك مع شارون. لقد خسر بيريز الاستراتيجية في كامب ديفيد، وتحول ايضاً الى رجل ادارة ازمات، فهو لا يملك استراتيجية سياسية بديلة لطروحات باراك السياسية ولسياسة شارون الحالية لطرحها على الشارع الاسرائيلي، ولذلك يختار بيريز البقاء في الحكومة في محاولة للتأثير على التكتيك الاسرائيلي باتجاه عدم قطع الصلة السياسية مع القيادة الفلسطينية. فهو يعتقد ان التأثير عليها لا يمكن الا ان يمر عبر تكتيك مركب يتضمن القمع والحوار في آن معاً. وحدد شارون أخيراً لشمعون بيريز مع من يتم الحوار وحول ماذا؟ وهذا جديد. كان بيريز يلتقي في الماضي مع عرفات ومع مسؤولين فلسطينيين آخرين، ولكن بعدما تحول لقاء المسؤولين الآخرين شرطاً يقاطع بموجبه عرفات، أصبحت هذه اللقاءات عملياً تحدياً لعرفات في محاولة شارونية مفضوحة لإضعافه سياسياً. اذاً حتى في مسألة التكتيك شارون هو المهيمن في الحكومة، وليس بيريز كما يبدو احياناً. ولا يمكن تحويل قوة شارون الى ضعف ولا يمكن تحويل انعدام الاستراتيجية وذوبانها في التصعيد المنهجي الزاحف الى مأزق اسرائيلي، إلا اذا توافرت استراتيجية عربية - فلسطينية متفق عليها للسلام وللمواجهة. ولا يمكن ان تتوافر استراتيجية جدية للسلام العادل الا اذا توافرت استراتيجية مواجهة جدية تشمل دعماً منهجياً وثابتاً للمقاومة الفلسطينية التي تحولت أخيراً الى حال صمود امام التصعيد الاسرائيلي. ويجب ان ترافق هذه الاستراتيجية - الغائبة حالياً - سياسة اعلامية واضحة تتكلم اللغة نفسها بكل اللغات، فلكي يعرف العالم ماذا نريد، يجب ان تعرف الشعوب العربية ايضاً ماذا نريد. وهي ارادة واحدة لا تتغير حسب اللغة والموقع. من دون ذلك سنبقى نواجه التصعيد الشاروني بتكتيكات متغيرة باستمرار وخطاب اعلامي تصعيدي أجوف بالعربية لا تغطية استراتيجية مواجهة، وخطاب اعلامي مرتبك بالانكليزية يكتفي بوصف معاناة الشعب الفلسطيني، وحتى هذه بشكل غير كاف وغير فاعل. يقف العالم العربي أمام جنرال اسرائيلي مخضرم وسياسي مخضرم يعتقد ان خطوط هدنة 1949 كانت غير عادلة ولكنها خرقت عربياً عام 1967، وان حرب 6719 توقفت قبل أوانها، وان حرب 7319 توقفت قبل أوانها، وان حرب 8219 كانت ستنجز أهدافها لو سنح له المجال اسرائيلياً، وانه كان بالإمكان القضاء على انتفاضة عام 1987 بالقوة، كما يدعي انه نجح بقمع المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة في السبعينات. تتعامل السياسة العربية مع وجوده إما كأزمة عابرة أو كمأزق ينتهي بخروج شمعون بيريز من الحكومة، وإما كأنه لا يختلف بتاتاً عن سابقيه، والحقيقة أننا أمام رجل مصمم وايديولوجي يتقن التكتيك - وهذا مركب خطير لا يمكن مواجهته جدياً من دون استراتيجية. وعندما تتم ترجمة التصميم الشعبي العربي والفلسطيني الى إرادة سياسية فاعلة والى استراتيجية في المواجهة الاعلامية والديبلوماسية والميدانية على الأرض سيكتشف الاسرائيليون ان لديهم جنرالاً عجوزاً عديم الأفق والخيارات السياسية لا يحمل مشروعاً الا استمرار "حرب الاستقلال"، وهذا كلام لا يباع لأحد لا في اسرائيل ولا في العالم. لقد طالت عطلة العرب الصيفية. * أكاديمي فلسطيني، عضو الكنيست الاسرائيلية.