بإصداره الأوامر لاغتيال أبو علي مصطفى، الأمين العام للجبهة الشعبية، واقتحام بيت جالا، وقبل ذلك قصف مقر قيادة الشرطة الفلسطينية المركزي في الضفة، ودخول الدبابات والجرافات الاسرائيلية مدينة جنين، واحتلال قوات الشرطة وحرس الحدود "بيت الشرق" في القدس والمؤسسات الفلسطينية الأخرى في أبوديس وجوارها، طوّر رئيس الحكومة الاسرائيلية شارون مستوى عملياته الحربية ضد الفلسطينيين، أرضاً وشعباً وقيادة وشجراً وممتلكات، وضد السلام معهم، ونقل الصراع الفلسطيني - الاسرائيلي مرحلة نوعية جديدة أكثر عنفاً ودموية، لها سماتها الواضحة، ترسيم وفاة عملية السلام على المسار الفلسطيني - الاسرائيلي كما عرفناها في السنوات العشر السابقة، وانتهاك الاتفاقات الأساسية والفرعية التي انبثقت عنها، واغلاق طريق العودة الى طاولة المفاوضات، واطلاق العنان للعنف يحصد مزيداً من أرواح الفلسطينيين والاسرائيليين، وارتفاع درجة التوتر في عموم أنحاء منطقة الشرق الأوسط، وازدهار سوق التطرف والارهاب فيها. وتشير مواقف شارون وأركانه السياسيين والأمنيين الأخيرة الى انهم لم يستفيدوا من تجربة نصف قرن من الحروب، ولا يزالون يؤمنون بحل الصراع بقوة السلاح ويعملون بكل السبل على خلق الأجواء الملائمة لتطبيق ما يؤمنون به. بل انهم مصممون على متابعة خرق اتفاق أوسلو وملاحقه، وتكريس احتلال بيت الشرق والمؤسسات الفلسطينية الأخرى بقوة الأمر الواقع. ويجد شارون وأركانه في ردود الفعل الباهتة لدى القوى الاقليمية والدولية، خصوصاً الأميركية، على احتلال "بيت الشرق" والأعمال العدوانية الأخرى، تشجيعاً صريحاً للمضي قدماً في تنفيذ توجهاتهم العسكرية القديمة الجديدة، وتسريع خطاهم نحو تدمير فكرة السلام مع الفلسطينيين. إن مكافأة إدارة بوش لشارون، وصمتها على جرائمه المتواصلة ضد الفلسطينيين، ومساندتها مواقف اسرائيل في مجلس الأمن الدولي ومنظمات حقوق الانسان، واصرارها على عدم دعوة الرئيس الفلسطيني لزيارة البيت الأبيض، وتكرار اتهامه بالتقصير في محاربة العنف والارهاب... الخ من المواقف المنحازة والمتخاذلة في الدفاع عن حقوق الانسان وعن الاتفاقات التي رعتها، تدفع شارون ليس فقط الى الاستهتار بالموقف العربي وبالأمم المتحدة ومنظماتها، بل يزيد الليكوديين في الحكومة وخارجها تصميماً على عدم التراجع عن اجراءاتهم الأخيرة ويفتح شهيتهم على تكريس احتلال المؤسسات الفلسطينية، ومواصلة سياسة الاغتيالات، واختراق المناطق الخاضعة للسلطة الفلسطينية. وسيشجع عدم ظهور بوادر ردع اقليمية ودولية على القيام في الأيام المقبلة بأعمال سياسية وعسكرية أكبر من حيث الكم والنوع عن التي سبقتها يعتقد شارون أنها ضرورية لتحويل أنظار العالم عن أعماله الأخيرة ونسيان قصة اغتيال أبو علي مصطفى، واحتلال بيت الشرق ومؤسسات السلطة في أبوديس. ووضع الجميع أمام خيار واحد، التركيز على الأحداث الجديدة الطازجة والانشغال في بحث سبل حلها ومنع تدهور الوضع نحو الأسوأ. وأظن، وأغلب الظن بحكومة شارون وبإدارة الرئيس بوش ليس فيه إثم، ان ما قامت به القيادة الاسرائيلية في الشهر الأخير تم بعلم الادارة الأميركية، ورضاها حسب القاعدة القائلة "الصمت علامة رضا". وان ادانتها لسياسة الاغتيالات، جاءت بصيغة عامة وخجولة خلت من أي اجراء رادع يضع حداً لارهاب الدولة الذي تمارسه اسرائيل. والشيء ذاته ينطبق على مطالبتها اسرائيل بسحب قواتها من بيت جالا. وبصرف النظر عن نيات شمعون بيريز الحقيقية، ورأي الادارة الأميركية في حديثه عن حوار مباشر سري يجريه مع القيادة الفلسطينية، فإن تصوير حصوله من شارون على ضوء أخضر لاجراء الحوار على أنه انتصار للعقل على الغرائز، وبداية صحيحة لتهدئة الوضع والعودة الى طاولة المفاوضات... الخ يندرج، في نظر الفلسطينيين سلطة ومعارضة، في اطار الدور الانتهازي القذر الذي لعبه بيريز منذ دخوله حكومة ليكود، وانحياز ادارة بوش لاسرائيل ومساندتها شارون. ويرون فيها محاولة بائسة لتسويق سياسة شارون الدموية، وتغطية جرائمه المتواصلة بحق الشعب الفلسطيني. ويستذكر الفلسطينيون رفض شمعون بيريز علناً أطروحة باراك في قمة كامب ديفيد بشأن حل قضية القدس، واعتباره موافقة باراك على منح الفلسطينيين سيادة كاملة على الجزء الشرقي من المدينة باستثناء جيوب صغيرة، كرماً زائداً وتنازلاً لا ضرورة لتقديمه. واستذكر أركان السلطة مواقف بيريز القديمة الخادعة ورأوا في مواقفه الأخيرة خدعة جديدة، ومناورة ذكية خبيثة هدفها حرف أنظار القوى الاقليمية المعنية باستقرار أوضاع المنطقة، عن التصعيد وخرق الاتفاقات التي ترتكبها اسرائيل يومياً بحق الشعب الفلسطيني. وانه بدلاً من الاستقالة من حكومة ليكود بسبب تمزيق شارون تعهداً خطياً وقعه بقلمه في أوسلو وحديقة البيت الأبيض بشأن عدم المس ببيت الشرق والمؤسسات الفلسطينية في القدس، واصل بيريز دوره الديماغوجي التضليلي الذي لعبه داخل اسرائيل وخارجها منذ استلامه وزارة الخارجية. وشرع في تقزيم خرق حكومة شارون الفظ لاتفاق أوسلو وملاحقه. ويحاول بيريز في اتصالاته الدولية والاقليمية ومع بعض الفلسطينيين تصغير وتبسيط الضربة الاستراتيجية التي وجهها شارون لعملية السلام في القدس، وتصوير احتلال القوات الاسرائيلية بيت الشرق والمؤسسات الفلسطينية الأخرى على أنها اجراء أمني موقت، قابل للتغيير يمكن التراجع عنه. ويشيع بيريز ان شارون أقدم على هذا الاجراء في اطار مساومة القيادة الفلسطينية حول وقف "العنف والارهاب"، والمزايدة على خصمه نتانياهو وأنصاره، على أبواب مؤتمر ليكود المقرر عقده بعد شهرين تقريباً، ومنافسته على زعامة الحزب. الى ذلك، يعتبر ناس الانتفاضة حديث بيريز أخيراً عن انسحاب الجيش الاسرائيلي من قطاع غزة بالكامل أولا، واقامة دولة فلسطينية ذات سيادة هناك، بمثابة قنبلة دخانية أطلقها في سماء المنطقة للتغطية على أفعال شارون الأخيرة وتسويقها اقليمياً ودولياً. ويقرون بأن شمعون بيريز ديبلوماسي بارع ويعترفون له بأنه صهيوني أصيل عريق، يضع مصالح دولة اسرائيل وتوجهات الصهيونية العالمية فوق الاعتبارات الحزبية الضيقة وكل اعتبار آخر، خصوصاً في الأوقات الحرجة التي تمر بها اسرائيل. ويتمنى الناس في الضفة وقطاع غزة ان تستفيد القوى والشخصيات الوطنية والاسلامية الفلسطينية من تجربة شمعون بيريز، خصوصاً حرصه وقت الأزمات العصيبة والظروف الصعبة القاسية على وحدة الصف الداخلي واظهار أصالته كزعيم صهيوني عريق. وبغض النظر عن رأي الفلسطينيين في شمعون بيريز وادعاءاته، فهو يعرف أكثر من سواه طبيعة المرحلة ونوعية الأزمة التي عبرها النزاع الفلسطيني - الاسرائيلي بعد سقوط باراك وفوز شارون برئاسة الوزراء. ويدرك تماماً ان لا أفق للعودة الى طاولة المفاوضات في عهد شارون، ليس لأن الفلسطينيين تخلوا عن المفاوضات سبيلا لتحقيق أهدافهم الوطنية، وهم في أية حال لم يتخلوا، بل لأن شارون نسف مسبقاً مقومات استئناف الحوار الفلسطيني - الاسرائيلي. ويعرف بيريز تمام المعرفة ان الائتلاف الحكومي اليميني المتطرف الذي يشارك فيه يعارض اجراء أي حوار جدي ومنتج مع "سلطة عرفات الارهابية"... وأن أركان هذا الائتلاف، وهم غالبية، يعتمدون القوة العسكرية لحل النزاع مع الفلسطينيين. وانهم وافقوا له على اجراء الحوار لأغراض تكتيكية بحتة، في مقدمها تحميل القيادة الفلسطينية مسؤولية تجميد عملية السلام، وإظهارها أمام الرأي العام العالمي والاسرائيلي بمظهر الرافض للحوار وللبحث عن حل سياسي للأزمة الطاحنة القائمة بين الطرفين. اعتقد ان المصالح الوطنية العليا للشعب الفلسطيني تفرض على القوى الوطنية والاسلامية تحاشي تقديم الذريعة لشارون، وتفرض على قيادتهم خوض الصراع على كل الجبهات، وعدم التصادم مباشرة مع توجهات القوى الدولية والاقليمية الكبرى، التي قد ترى في أطروحة بيريز بارقة أمل، وتعتبر لقاء الفلسطينيين به فرصة للبحث عن مخرج من المأزق لا يجوز تفويتها... الخ فاللقاء من حيث المبدأ مع بيريز يجب أن لا يكون موضوع خلاف داخلي في مرحلة الانتفاضة. واذا كان اللقاء شراً في نظر بعض الفلسطينيين، فهو شر لا بد منه ويجب أن يتم بقرار من الهيئات القيادية المعنية، وان يكون لقاء علنياً، وان يتم اولا مع رئيس السلطة الفلسطينية. ولا داعي للقول إن لا أحد من الفلسطينيين قيادة وشعباً يراهن على اللقاء مع بيريز، وان جميع اللقاءات التي قد تجري معه لن تسفر عن نتيجة تذكر في عهد شارون، سوى فضح مناورته أمام العالم، وأمام قواعد حزب العمل وجمهور السلام في اسرائيل، وكشف موقعه في اطار حكومة اليمين المتطرف. في كل الأحوال ستشهد الأيام والأسابيع القادمة تصعيداً "شارونياً" عسكرياً وسياسياً، خصوصاً على أبواب مؤتمر حزب ليكود المقرر عقده بعد شهرين، هدفه مواصلة تقويض بنية السلطة الفلسطينية وتدمير مرتكزاتها العسكرية والأمنية ومنشآتها المدنية. ويعتقد شارون ان مثل هذا التصعيد يعزز مكانته الحزبية الداخلية في مواجهة خصمه نتانياهو، ويمنحه تأييد كوادر وقواعد حزب ليكود وكسب أصوات جميع الذين ينتشون للأعمال الحربية ضد الفلسطينيين، خصوصاً اذا أوقعت خسائر ومست مرتكزات "سلطة عرفات الارهابية". وإذا كانت الادارة الأميركية ودول الاتحاد الأوروبي تعتبر تدمير السلطة الفلسطينية خطاً أحمر، وهذا الاعتبار يعرقل تحقيق شارون حلمه بالضربة القاضية، فتكتيكه، كما تدل عليه عملياته الحربية الأخيرة، يعتمد تحقيقه بالتدريج وبالنقاط. ويتصور شارون وأركانه أن التدرج المتصاعد في إضعاف السلطة واغتيال كوادرها الأمنية ونشطاء الانتفاضة، كفيل بانهيارها من الداخل. وينسون ان حروبهم الكبيرة والصغيرة التي شنوها ضد منظمة التحرير الفلسطينية من العام 1965 وحتى العام 1991 عززت مكانتها في صفوف شعبها ووحدته تحت رايتها. * كاتب فلسطيني.