تحتج الديبلوماسية الأوروبية وترفع صوتها بنقد شديد لاذع للسياسة الأميركية. والمسألة لا تتعلق بتناقض الأفكار والخيارات والوسائل وانما أيضاً بممارسات أميركية باتت تعامل دول أوروبا معاملتها ل"الدول المارقة" أو الأقل "مروقاً". لكن الجميع يعلم ان الولاياتالمتحدة ستفرض رأيها في النهاية وسيكون لها ما تريد، سواء بالتفاهم مع الأوروبيين أو باستمرار الاختلاف معهم. قليلاً ما أثر الاختلاف في خطط واشنطن، وكثيراً ما اضطرت أوروبا الى التكيف شيئاً فشيئاً مع الأخطاء الأميركية بل الى الدفاع عنها. والسبب الأساس في ذلك ان أوروبا ليست كتلة متراصة على صعيد السياسة الدولية، وان كانت دولها تلتقي على قواسم مشتركة مبدئية. أي انها مخترقة بشكل كبير ولا تجد دائماً الوسائل الكفيلة بمواجهة الغلو الأميركي. فحتى القارة القديمة تعاني أيضاً، مثلها مثل الدول الأخرى، من انعدام "الديموقراطية الدولية" سواء في صنع القرارات أو في آليات تنفيذها. أوروبا لا ترى ضرورات ملحة لحرب أو حروب جديدة، خصوصاً في اطار الحرب الأميركية على الارهاب. وأوروبا لا ترى موجباً لهذا التجاهل للأمم المتحدة وصلاحياتها وهيئاتها، كما لا تتقبل ان تتبع الدولة العظمى ولو الوحيدة سياسة تهدد المناخ الدولي العام وتفسد الاستقرار الضروري لحسن الأداء الاقتصادي، خصوصاً في البلدان التي تعيش على القروض والمساعدات الدولية. طبعاً، تقبلت أوروبا على مضض الصدمة التي أحدثها اعلان واشنطن انها لا تحتاج الى حلفاء في أي حرب جديدة تنوي شنها في أي مكان، لكنها لم تتقبل بعد سياسة "محور الشر" ولا تؤيد حرباً عشوائية ضد العراق وايران، كما انها لا تعرف لماذا تتعاطى واشنطن مع التوتر في الشرق الأوسط بخفة واستخفاف ولامسؤولية. كان الاستياء الأوروبي برز بقوة عندما طلبت الادارة الأميركية ان يمتنع الوزراء أو الديبلوماسيون الأوروبيون عن زيارة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، داعمة قرار حكومة اسرائيل احتجازه في مقره في رام الله ووضعه "خارج اللعبة". وتجاهل بعض الأوروبيين هذه الرغبة الأميركية بل تحدوها ثم سايروها اعتقاداً منهم أن لدى واشنطن سياسة جديدة تعمل على تطبيقها. وعندما تبين لهم ان ليس عند إدارة جورج بوش شيئاً آخر غير مساندة خطط شارون، وان الأخير ليس لديه سوى خيارات عسكرية غبية، عادوا الى الاتصال بالسلطة الفلسطينية ورئيسها كالمعتاد مع يقينهم ان أي حل للأزمة الراهنة لا بد أن يأتي من واشنطن. لكن الاتجاه المتشدد دولياً في اميركا لفت الأوروبيين الى أن إدارة بوش وضعت سياستها الدولية في خدمة سياساتها الداخلية. لذلك تعددت الانتقادات، وتعددت ايضاً الأساليب. فما صرح به وزير الخارجية الفرنسي لا يختلف عما يقوله زملاؤه الأوروبيون سراً، وحتى "الحليف الأول" البريطاني لديه من المآخذ على واشنطن ما يفوق مآخذ الآخرين، إلا أنه يتعامل معها بهدوء وخبث ليحافظ على مكانته المتقدمة عند الأميركيين. وإذ تبادل هوبير فيدرين وكولن باول اللذعات فإن واشنطن لم تجد ما يمنعها من استدعاء السفير الفرنسي "للاستيضاح"، كما تفعل عادة مع الدول الصغيرة التي يصدر عنها فجأة ما يمكن اعتباره تنطحاً وتطاولاً على ولي النعمة. الأهم من ذلك ان الادارة الأميركية عمدت الى أسلوب لم تعهده أوروبا سابقاً، أقله بشكله ومضمونه، إذ استبقت الاجتماع الأخير لوزراء خارجية الاتحاد الأوروبي برسائل تطلب عدم اتخاذ قرارات ومواقف تتعارض مع السياسة الأميركية. مثل هذه الرسائل يعرفها العرب عشية كل اجتماع لهم، وغالباً ما يمتثلون لإملاءاتها، لكن الأوروبيين غير مضطرين لقبول الأمر كأنه طبيعي. من الواضح أن العالم مدعو لمزيد من الانتظار حتى تعود واشنطن الى رشدها... بعد إعادة انتخاب بوش لولاية ثانية!