على رغم ان فوز جورج دبليو بوش تحقق بفارق ضئيل جداً وكان مثيراً للجدل فإنه سيؤدي على الارجح الى تغيير كبير في جوهر السياسة الخارجية الاميركية واتجاهها. ويتوقع المراقبون المطلعون في واشنطن تحولاً ايديولوجياً في علاقات اميركا مع بقية العالم. فأميركا بوش ستكون، حسب قولهم، اكثر انانية واكثر انكفاءً على الذات واكثر انعزالية واقل اهتماماً بالشؤون العالمية، واكثر تشدداً مع الاصدقاء والاعداء على السواء، وستكون مهتمة قبل كل شيء بالحفاظ على التفوق العالمي لاميركا عبر دفاع ضيق الافق عن المصالح القومية للولايات المتحدة. ولو ان غور خرج منتصراً فإنه كان سيسعى بالتأكيد الى مواصلة جهود بيل كلينتون و "فريق السلام" التابع له لاعادة ترتيب الشرق الاوسط لمصلحة اسرائيل. لكن غور كان سيركز الاهتمام من دون شك على الامن الجماعي مع حلفاء اميركا، وعلى مشاكل بيئية مثل تغيرات المناخ، وعلى التنمية الاقتصادية للعالم الثالث، وعلى وباء "الايدز"، وعلى انهاء النزاعات الاتنية والحروب المحلية، وعلى عمليات حفظ السلام الدولية. هذه هي اهتمامات غور، لكن بوش لا يشاطره إياها. اولويات بوش الدفاعية يُتوقع، بدلاً من ذلك، ان يولي الرئيس بوش الدفاع الوطني للولايات المتحدة موقع الصدارة في اولوياته. فهو سينفق اموالاً اكبر بكثير على المؤسسة العسكرية، قد تصل الى 4 في المئة من اجمالي الدخل القومي، مركزاً على الاسلحة ذات التكنولوجيا المتطورة، مثل الدفاعات المضادة للصواريخ، بهدف ردع اعداء محتملين وتهيئة الولاياتالمتحدة لخوض حروب كبيرة. لكن الرئيس بوش، كما يؤكد مستشاروه - بشكل خاص كوندوليزا رايس، الاميركية من اصل افريقي التي عيّنت مستشارة لشؤون الامن القومي - سيبدي تردداً في زج القوى العسكرية للولايات المتحدة في نزاعات اقليمية لا يوجد فيها تهديد كبير على المصالح الاميركية. بمعنى آخر، يرجح ان تظهر ادارة بوش عدم اكتراث عام تجاه الساحة الدولية. ومعروف ان السياسة الخارجية لم تكن ابداً مجال الاهتمام الرئيسي لجورج دبليو بوش. وستحصل وزارة الدفاع على موازنة اكبر، بعكس وزارة الخارجية. وكان الكونغرس الذي يسيطر عليه الجمهوريون خفض خلال العقد الاخير الموارد المخصصة للشؤون الخارجية بنسبة 40 في المئة. ويمكن في ظل رئيس جمهوري ان يُخفض اكثر تمويل النشاط الديبلوماسي. وقد يكتشف حلفاء اميركا انها، انطلاقاً من وضع مصالحها القومية في المقدمة، ستكون مهتمة بالتخلص من الاعباء اكثر من اهتمامها بتقاسم الاعباء. هذا بمقدار ما يتعلق الامر بالوضع العام، لكن ماذا يمكن المرء ان يتوقع بمقدار اكبر من التفصيل بشأن سياسة بوش تجاه الشرق الاوسط واوروبا وروسيا وبقية العالم؟ سياسة بوش الشرق اوسطية في ما يتعلق بالسياسة الشرق اوسطية، تثبت مصادر في واشنطن قريبة من الرئيس الجديد التوقعات الآتية: 1- في الشرق الاوسط، سيكون النفط هو المحرك الاساسي لسياسة الرئيس بوش، بالاستناد الى توقع مستشاريه بأن التنافس بين القوى الصناعية على الوصول الى نفط الشرق الاوسط سيزداد شراسة في العقد المقبل. وتبعاً لذلك فإن الولاياتالمتحدة ستسعى الى الحفاظ على تفوقها السياسي والاستراتيجي في العالم العربي بما يكفل ترجيح كفتها على اليابان والصين واوروبا في التزاحم على النفط. 2- يتوقع ان تجد هذه السياسة تعبيرها المباشر في اتجاهين. ستسعى ادارة بوش الى اقامة علاقات أوثق حتى مما هي عليه حالياً مع المملكة العربية السعودية، لكنها ستحاول بتصميم ايضاً ان تستبدل حكومة صدام حسين بنظام موالٍ لاميركا. واذا أخذ في الاعتبار ان احتياطيات النفط السعودي والعراقي هي الاكبر في العالم وكلفة استخراجها هي الاقل، فإن طموح اميركا هو ان تؤمن موقعاً ذا امتياز في الرياض وبغداد على السواء. ويدرك "الصقور" في معسكر بوش، الذين يضغطون للقيام بتحرك حازم ضد صدام حسين، ان هذا يمكن ان يعبىء الرأي العام ضد الولاياتالمتحدة في العالم العربي، وفي بلدان اوروبية عدة، وحتى في بريطانيا، البلد الاوروبي الوحيد الذي أيد حتى الآن باخلاص حرب اميركا ضد العراق. لكنهم يجادلون بأن ثمار النجاح - اي اطاحة صدام حسين والاستيلاء على السوق العراقية - ستفوق بكثير هذه المخاطر. لكن اصواتاً اخرى ترى انه سيكون من الاجدى بكثير للولايات المتحدة ان توافق على رفع للعقوبات المفروضة على العراق، التي تنهار على أية حال، وتسعى الى تطبيع علاقاتها مع العراق. لكن هذه ما تزال وجهات نظر اقلية داخل معسكر بوش. 3- للتعويض عن الاستمرار في اتباع سياسة قاسية تجاه عراق صدام حسين، يرجح ان تسعى الولاياتالمتحدة الى تحسين العلاقات مع ايران وليبيا. ومن المقرر ان ينتهي مفعول "قانون العقوبات ضد ايران وليبيا" في 2001. وستضغط شركات الطاقة الاميركية، التي تحرص الاّ تتقدم عليها منافساتها الاوروبيات، على انهاء العمل بهذا القانون. وستسعى الادارة الجديدة بشكل خاص الى تحقيق اختراق في العلاقات مع ايران بأمل ان تنجح حيث فشل بيل كلينتون. 4- ستراجع ادارة بوش بشكل عاجل استراتيجيتها الامنية في الخليج بهدف الحد من المعارضة المحلية للوجود العسكري الاميركي. *** ستُنشر القوات الاميركية على نحو متزايد على متن السفن "ما وراء الافق" وبعيداً عن الانظار، كما كانت الحال في عهد ما قبل حرب الخليج. وستقوم السفن الحربية الاميركية بزيارات أقل بكثير الى مرافىء الشرق الاوسط كي تحد من احتمال وقوع هجوم مثل ما تعرضت اليه المدمرة "يو. إس. إس. كول" في مرفأ عدن في تشرين الاول اكتوبر الماضي. *** يحل في 2001 موعد اعادة التفاوض بشأن المعاهدات الدفاعية التي ابرمتها الولاياتالمتحدة مع الكويت ودول خليجية اخرى قبل عشر سنوات. وقد تسعى الولاياتالمتحدة الى خفض، او على الاقل إعادة تحديد، التزاماتها بموجب هذه المعاهدات. 5- يدرك بوش ومستشاروه جيداً ان اسرائيل ومؤيديها الاميركيين كانوا يفضلون انتصار غور. ومع ذلك، سيحافظ بوش على "التحالف الاستراتيجي" للولايات المتحدة مع اسرائيل، الى جانب المستويات الحالية من الدعم المالي والعسكري. لكن، على المستوى السياسي، يرجح ان تصبح العلاقة مع اسرائيل اقل حميمية. في الوقت نفسه، سيكون بوش اكثر تجاوباً الى حد ما مع المصالح العربية، لكن فقط اذا قام العرب انفسهم بطرح قضيتهم بقوة في واشنطن وعواصم غربية اخرى. 6- بخلاف كلينتون، لا يبدي بوش اهتماماً يذكر بتعقيدات النزاع العربي - الاسرائيلي. وهو بالتأكيد لن يكرس لها الكثير من وقته. *** سيكون اكثر ميلاً لأن يدع الطرفين يسويان مشاكلهما بمفردهما، طالما لم تتسع رقعة النزاع وتهدد المصالح النفطية والاستراتيجية للولايات المتحدة في الخليج. *** قد يوافق ايضاً على السماح للامم المتحدة والاتحاد الاوروبي بأن يلعبا دوراً اكبر في عملية السلام العربية الاسرائيلية. *** بشكل عام، تقوم وجهة النظر التي يتبناها معسكر بوش على ان المصالح الحيوية للولايات المتحدة في الشرق الاوسط، وبشكل خاص امكان الوصول على المدى البعيد الى النفط الرخيص، ستؤمن على افضل نحو عبر قدر من الابتعاد عن النزاعات الاقليمية. وتدرك واشنطن تماماً ان عدم شعبية الولاياتالمتحدة حالياً في العالمين العربي والاسلامي، والتهديد المباشر الذي يمثله متطرفون على المصالح الاميركية، هي نتيجة لتورط مفرط في شؤون المنطقة، وتوافق اوثق كثيراً مما يجب مع المصالح الاسرائيلية. وفي الوقت الذي ستستمر فيه ادارة بوش بالنظر الى اسرائيل كحليف من الارجح ان تصبح اقل انحيازاً. التحدي من اوروبا الارجح ان تكون احدى اكبر المشكلات بالنسبة الى ادارة بوش هي علاقاتها مع اوروبا. فعلى رغم ان قمة الاتحاد الاوروبي الاخيرة في نيس كانت اقل نجاحاً مما كان كثيرون يأملون، لا يوجد شك في احراز تقدم في اتجاه توسيع الاتحاد الاوروبي والتكامل الاوروبي. وخلال عام من الآن سيحل اليورو محل العملات الوطنية في 11 من الدول الاعضاء في الاتحاد. وبعد اربع سنوات من الآن يتوقع ان ينضم ستة اعضاء الى الاتحاد المؤلف من 15 دولة. في غضون ذلك، اُحرز الكثير من التقدم على جبهة الدفاع والامن. وفي قمة نيس اُتخذ قرار بالمضي قدماً في تشكيل قوة الرد السريع الاوروبية بحلول 2003 التي ستضم في قوامها 60 الف جندي. والهدف هو ان تتمكن هذه القوة، التي اُثارت الكثير من النقاش، من التأهب والاستعداد للتحرك خلال 60 يوماً وتنفيذ عمليات مستقلة تستمر سنة او اكثر. وبدأت ملامح هيئة اركانها العسكرية الموقتة تتكامل منذ اذار مارس الماضي تحت قيادة ضابط بريطاني، الجنرال غراهام مسيرفي ويتينغ. ومن بين كل الدول الاعضاء في الاتحاد الاوروبي تمثل فرنسا التحدي الايديولوجي الاكبر للولايات المتحدة. وكان وزير الخارجية الفرنسي هوبير فيدرين هو الذي عبّر بقوة اكبر عن هذا التحدي. فقد انتقد بحدة في مقالات ومقابلات نشرت اخيراً وجهة النظر الاميركية التي ترى بأن "الهدف الوحيد للسياسة الخارجية هو تحويل العالم كله الى ديموقراطية غربية"، وهي وجهة نظر يرفضها باعتبارها "نرجسية ومطنبة ومتعالية اخلاقياً". ويرى فيدرين ان الديموقراطية يجب ان يُنظر اليها باعتبارها الناتج النهائي لعملية اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية مديدة، كما جرى في اوروبا، وليس كنتيجة لتحول فوري. ويقول ان الديموقراطية ليست مثل قهوة فورية! ومن بين الاهداف الاخرى لهجوم فيدرين الشركات المتعددة الجنسيات النافذة الاميركية اساساً، وقوى السوق المنفلتة، والعولمة التي تقودها الولاياتالمتحدة. وهو يؤكد في المقابل على الدور الاساسي للدول في النظام العالمي والاهمية المستمرة للسيادة الوطنية، حتى اذا "مورست بصورة مشتركة" كما هو الحال ضمن الاتحاد الاوروبي. ويقول فيدرين ان السياسة الخارجية الفرنسية يجب ان تناصر في المقام الاول المصالح الفرنسية والاوروبية. حلف الاطلسي مقابل قوة الرد السريع الاوروبية تجلى التوتر بين اوروبا والولاياتالمتحدة بشكل عملي في النزاع بشأن العلاقة بين حلف الاطلسي وقوة الرد السريع الاوروبية. فحلف الاطلسي، تحت القيادة العسكرية للولايات المتحدة، هو مفتاح النفوذ الاميركي في اوروبا: انه يمنح الولاياتالمتحدة قواعد في اوروبا واشرافاً على معظم القوات المسلحة لاوروبا. لذا، كما يمكن للمرء ان يتوقع، تريد واشنطن ان توضع قوة الرد السريع الاوروبية تحت سيطرة حلف الاطلسي - وبالتالي تحت سيطرة واشنطن في النهاية. ويريد الفرنسيون، في المقابل، ان تكون قوة الرد السريع الاوروبية مستقلة، وان تملك هيئة اركان وجهاز تخطيط ودعماً لوجستياً خاصاً بها. ولا شك انه سيجري التوصل الى حل وسط، لكن غريزة بوش التي تميل للتحرك الاحادي الجانب لن تجعل ذلك اكثر سهولة. كما ان الرئيس المنتخب اعلن رغبته في المضي قدماً بانشاء "نظام الدفاع الصاروخي الوطني" المثير للجدل، وهو نظام يمكن عند انجازه ان يعترض ويدمر عملياً الصواريخ البالستية التي تستهدف الولاياتالمتحدة. واُنفقت بالفعل بلايين كثيرة على هذا النظام، لكن من دون التغلب على المشاكل التكنولوجية. ويعتقد خبراء عدة في مجال الصواريخ ان الهدف موضع شك. واثار برنامج "الدفاع الصاروخي الوطني" الاميركي معارضة من جانب روسيا لاسباب سياسية واستراتيجية، فهو اذ يمنح الولاياتالمتحدة تفوقاً سيهدد بتدمير توازن القوى الذي ابقى على السلام بين القوتين العظميين خلال الحرب الباردة. كما انه يلقى معارضة الاوروبيين الذين يخشون ان يؤدي الى "فك ارتباط" امن اوروبا عن امن الولاياتالمتحدة. وسيكون القرار بشأن المضي قدماً بتنفيذ هذا البرنامج، الذي تبلغ كلفته حوالي 60 بليون دولار ويهدد باغضاب موسكو والاتحاد الاوروبي على السواء، واحداً من اصعب الخيارات التي سيتعين على الرئيس بوش حسمها. في غضون ذلك، يزداد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ثقة. فهو يجدد الصلات مع حلفاء الاتحاد السوفياتي السابقين، مثل العراق وليبيا وكوبا. كما يسعى الى ان تستعيد روسيا مكانتها كقوة عظمى. وعلى رغم ان روسيا ما تزال تحتاج الى مساعدة الغرب، فان بوتين لن يريد ان يُعامل بازدراء من قبل جورج دبليو بوش. وشهد الاقتصاد الروسي اخيراً بوادر انتعاش بعد الدمار الذي لحق به في العقد المنصرم، من دون ان يثير ذلك انتباه العالم الخارجي. فقد ارتفع الانتاج الصناعي بنسبة 10 في المئة في 2000، وارتفعت التجارة الخارجية بنسبة 33 في المئة. وتوجد شفافية اكبر في القطاع التجاري. لكن النظام المصرفي ما يزال هشاً، ومعدلات الجريمة مرتفعة، ولم تلح بعد معالم الديمقراطية الحقيقية. والارجح ان الرئيس بوش سيكتشف انه، في الشرق الاوسط كما في الاتحاد الاوروبي وروسيا والصين، لن يقبل الزعماء والشعوب بسهولة الهيمنة الاميركية، خصوصاً اذا جرى التعبير عنها بنبرات صارخة. وبالفعل، كلما تزايد ميل بوش الى السعي وراء المصالح الضيقة لاميركا، كلما تزايد احتمال ان يجد ان اصدقاء الولاياتالمتحدة وخصومها سيميلون الى التمرد على نظام عالمي يخضع لهيمنة اميركا. * كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الاوسط.