يتوالى الاحتفال في القاهرة بالذكرى العشرين لغياب الشاعر الرائد صلاح عبدالصبور. وتصدر حيناً تلو آخر كتب تتناول عالمه الشعري والمسرحيّ، علاوة على بعض الندوات التي تعقد في أكثر من نادٍ أو مؤسسة. هنا مقاربة للحداثة كما تجلّت في نتاج عبدالصبور. تنبهت فجأة منذ مدة قريبة، إلى أنني لم استخدم في كتابتي النقدية مصطلح الحداثة في شكل مباشر، سوى مرة واحدة تناولت فيها إبداع الأدب والنقد، مع طول استغراقي في عوالم المناهج المحدثة ومحاولة تكييفها وإعادة صوغها في مركب عربي مهجن وجديد. غير أنني لم ألبث أن شعرت بوطأة سحب الدخان المعادي لهذه التوجهات العلمية الطبيعية في سماء الفكر الإنساني الزرقاء الممتدة إلى افقنا من دون حدود. تصور أن هذه السحب مجرد أوهام طائرة ينفثها الجهل ومصيرها الاضمحلال، لكن اشتعال حرائق المعارك الاصولية وضيق أفق بعض المشتغلين بالترويج الثقافي يجعلان الدخان كثيفاً وخانقاً، وعلينا أن نرتفع فوقه حتى نستجلي وجه الحق في فضائنا الفكري. وعندما نعود اليوم لقراءة بعض ملامح الحداثة في شعر صلاح عبدالصبور، بمناسبة مرور عشرين عاماً على رحيله الموجع، تتراءى لنا الطبيعة المزدوجة لخطابه. فقد كان - مثل غيره من كبار صناع الشعرية العربية - مأخوذاً بخطاب الحداثة الفكرية والإبداعية العامة، لا يخرج عن عالمها المشبع بالتوتر والدهشة من ناحية، كما كان يجسدها بطرائقه التعبيرية وأسلوبه الخاص من ناحية أخرى، لأن خطاب الحداثة لديه مرهون بحداثة شعريته، غير أن التمييز الموقت بين هذين الوجهين للعملة الواحدة أدى إلى تبيان قوامها ومظاهرها وطبيعة سبيكتها، مع ضرورة الاقتصار بالطبع على الخطوط الكبرى البارزة في كل من الصورة والكتابة معاً. ولأن إحدى مشكلات الحداثة التي جعلتني اتفادى الاتكاء عليها أنها زئبقية، فليست مصطلحاً قارَّا في وعينا العربي المعاصر، بل يكاد يتمتع بمفهوم مستقل لدى كل واحد منا، يتعين عليّ أن أجازف بتحديد ثلاثة ملامح رئيسة تتشكل منها حداثتنا العربية في تقديري على الأقل، وهي: أولاً: عدم القطيعة الحادة في حركة النمو الفكري والإبداعي، مع التراث في جملته كما فعلت الحداثات الأخرى، بل استصفاء العناصر العقلانية الخلاقة، الملائمة لمقتضيات التطور العصري والتركيز عليها، من دون قفز مفاجئ إلى مراحل أخرى مما بعد الحداثة لم تتهيأ لها حياتنا في مستوياتها المختلفة. حسبنا الآن تأكيد انتصار العقل على النقل السلفي الذي ما زال يفتن الكثيرين منا. حسبنا تحديث أبنية الفكر والإبداع، وتهميش الجوانب الغيبية والسحرية وتفسيرها في شكل منطقي. لا بد لنا في هذا التواصل الإيجابي مع التراث العقلي من إشباع الحاجات الروحية الأصيلة لدى الإنسان العربي، وتكييفها كي تتناغم مع الأفق الرحب للثقافة الإنسانية من دون عزلة ولا ذوبان. لعل هذا يكون مرتكز الهوية العربية الناضجة المتجددة المستوعبة لجدليات التحولات العصرية المتسارعة الإيقاع. فإذا التفتنا إلى كتابة عبدالصبور الشعرية وجدناها ترجمة إبداعية لهذه الصورة المتوازنة في علاقة الأزمان ومقتضيات التحديث. لقد أعطى أولوية واضحة للتجريب الإبداعي في الأبنية الموسيقية والتعبيرية. اختار منذ بدايته الرهان على مغامرة قصيدة التفعيلة، محافظاً مع كوكبة المبدعين في جيله، على هذا الخيط من التواصل الخلاق مع بنية الإيقاع الشعري حريصاً على التنمية الحرة لإمكانات جديدة للتنويع والمزج والتوزيع. كان عليه أن يعيد مع رفاقه بناء صورة الذات الجماعية في علائقها المتعددة وفي رؤيتها للحياة والكون. لعل ديوانه الأول "الناس في بلادي"، وكان بمثابة بيان شعري ثوري آذن بنقلة كبرى في خطاب الحداثة في مصر، حيث كانت مستغرقة في بقايا التجربة الرومانسية المتداعية، يكون صوت الحداثة الجديدة وهي تعبر عن الجماعة في احتضانها رؤية الفرد عندما يراها في شكل جديد وغريب. فهي تجمع بين الشراسة والطيبة، وتنتفض في مخيال إنساني جسور، إذ يقول: "الناس في بلادي جارحون كالصقور/ غناؤهم كرجفة الشتاء في ذؤابة المطر/ وضحكهم يئز كاللهيب في الحطب...". هؤلاء الناس الموصولون في أعراقهم بنسغ الوجود الممتد في تاريخيته والممعن في ماديته نماذج بشرية - مثل التي كان يكتب عنها ناقد العصر محمد مندور - مفعمة بالطيبة والحس الدنيوي والديني معاً. هذه الصورة للذات الجماعية لا يبتكرها الشاعر ولكنه يراها، ربما للمرة الأولى، وهي تختلف جذرياً عن الصورة التي كرسها شوقي في خطابه، أو تلك التي نادى بها العقاد أو رسمها شعراء أبولو. إنها ملامح عارمة تجمع بين التناقضات كلها. لكن مسار الحداثة عند عبدالصبور يقطع في أمد قصير مسافات طويلة، حيث يشتبك مع تغيرات الحساسية الإبداعية في مناخ الثقافة العالمية ليجسد تلك الثنائية الطريفة المعهودة لدى المثقف العربي. فهو يستشعر بقوة معطيات الواقع الذي يشده الى أرضه وقومه، ويستجيب بتلقائية الموجات التي تهز الدوائر العالمية باعتبارها تفتحات إنسانية ليست بعيدة من كيانه الحميم. ولعلنا نذكر موجة الفكر الوجودي التي أغرقت الناس في ظواهرها الحسية والمعنوية في منتصف القرن الماضي. ولا أظن أن شاعرنا كان يقلد أحداً عندما عبّر بصدق عن تداعيات الإحساس بالسأم والعبثية في حياته الشخصية. فتجربته في الحب والسياسة والصداقة والحياة العامة كانت تفور بهذا التيار الساخن من التوتر والقلق الوجودي العميق من دون افتعال. فما يعبر عنه الشاعر إنما هو استبطان للذات في ضوء معطيات العصر التي لا يسعه الانسلاخ منها، بل يضفي عليها نغماً مميزاً للشاعر الشرقي في ديوان "أقول لكم": "هذا زمان السأم/ نفخ الأراجيل سأم/ لا عمق للألم/ لأنه كالزيت فوق صفحة السأم/ لا طعم للندم/ لأنهم لا يحملون الوزر إلا لحظة.. / ويهبط السأم". إلى أن يصل إلى هذا المقطع المتجدد الذي ما زال الشباب يجدون فيه تعبيراً عن موقفهم من متغيرات الأحداث العالمية، كأنه شعار لم يفقد راهنيته: "هذا زمن الحق الضائع/ لا يعرف فيه مقتول من قاتله ولماذا قتله. ورؤوس الناس على جثث الحيوانات/ ورؤوس الحيوانات على جثث الناس. فتحسس رأسك/ فتحسس رأسك". الملمح الثاني في خطاب الحداثة العربية لم يتخلل بعد جميع المستويات الاجتماعية والثقافية. ما زال بحاجة الى التأصيل في التعليم والإعلام والحياة العامة. هو تغليب الفكر العلمي على ما سواه، بما يتطلب الإفادة القصوى من الخبرات الحضارية الراهنة، ودفع النظم السياسية والاقتصادية للاندراج في منظومتها، على أساس نشدان الديموقراطية ونشر ثقافتها وفصل الدين عن السياسة لمقاومة النزوع الايديولوجي للحكم الأوتوقراطي باسم المقدس وتكريس قيم المساواة وحقوق الإنسان. ولا نتوقع بطبيعة الحال ترجمة هذه المبادئ في شكل حرفي في أي عمل إبداعي، فضلاً عن أن يكون شعراً. لكن التعبير عن روحها يتصنع خلف تقنيات مراوغة ذكية، من أهمها لدى صلاح عبدالصبور ابتكار اسلوب شعري خاص يتمثل في الحوارية الدراسية التي يزخر بها والتي تكشف عن ولعه بتعدد الأصوات والمستويات اللغوية، بما يُوجد حالاً من التوتر الدرامي الذي يعتمد على المفارقة ويولّد في كثير من الأحيان الإحساس المأسوي بالحياة. إذ لا تتحرك بإيقاع سريع نحو هذا الأفق المنشود أو السخرية الشفيفة من أوضاعها الأليمة. ولعل دراستنا في أساليب الشعرية المعاصرة لهذه الخاصية عند عبدالصبور من ناحية وقراءتنا لأعماله المسرحية ورؤيته للكون فيها من ناحية أخرى، تكون كاشفة عن هذه الأبعاد في كتابته، وسنكتفي في هذا السياق باستحضار نموذج شيق لهذا الروح الدرامي الذي يشير إلى بعض أسباب حزنه الشهير، فيقول في قصيدته عن الحزن: حزن تمدد في المدينة / كاللص في جوف السكينة/ كالأفعوان بلا فحيح...". وهنا نجد صورة معكوسة للنقد السياسي والاجتماعي الذي يمس طغيان الأحزان في عالم يستبد به الطغاة ويقهرون روح الإنسان. وربما كان تاريخ هذه القصيدة التي كتبت - في ما يبدو - عام 1954 له دلالة في تفسيرها السياسي. لكنني أريد أن أتوقف عند نموذج آخر لشعريته اللعوب ودلالته الناصعة على تغير الحساسية وحداثة العواطف المتناغمة مع مستويات الحداثة الأخرى. كأن يقول عن "الحب": "الحب يا رفيقتي قد كان/ في أول الزمان/ يخضع للترتيب والحسبان...". ولعل هذا ما يكشف عن طبيعة التحولات الوجدانية والفكرية عبر تغيرات مفهوم الحب الذي لم يعد كما كان في العصور الأخرى. فقد انغمس في اشكاليات الحياة ومزج الروح بالجسد. ومع أن الشاعر لا يظهر رضاه بهذا التحول ويترك لأشواقه أن تتوهج، فهو لا يتصور العودة الى النسق القديم ولا يطيق الوقوف عنده ولا الحنين إليه. أنشودة الحرية وهنا نأتي إلى الملمح الثالث من ملامح خطاب الحداثة العربية. في تقديري هو اعتبار الحرية في الفكر والإبداع والحياة العامة والخاصة من مقدسات العصر الحديث. الأمر الذي يتطلب تطويع العادات والتقاليد والنظم القديمة لتحقيق أكبر مساحة ممكنة من هذه الحريات، بما يجدد الأسس الأخلاقية والمنظومة القيمية للمجتمع ويدفع عجلة التقدم الحضاري. وقد كان صلاح عبدالصبور نموذجاً ناضجاً في ممارسته هذه الحرية الإبداعية في تعدد أشكال الكتابة من قصيد غنائي ودرامي وملحمي إلى شعر مسرحي يتناول تجارب تاريخية ومعاصرة، إمعاناً في بناء تصورات حداثية متقدمة عن الوظائف الاجتماعية للحركات الصوفية القديمة ودورها في نقد الحياة، وعن اشكاليات الهوية في البحث عن رموز للسلطة والحب والصراع من أجل المستقبل. ولعلنا نكون أقرب إلى قراءة حداثة خطابه في هذا السياق اذا وقفنا عند واحدة فقط من صوره المحورية التي تتكرر في أعماله. فهناك مشهد ملحاح يتجلى في أشكال عدة وسياقات منوعة، يبدو فيه الانسان وحيداً تحت قبة الكون، يواجه مصيره ومسؤوليته المقترنة بممارساته الحرة. وهنا يعبر الشاعر عن موقف انساني مشحون بالوجد وهو يشخص ببصره - وحيداً - الى العالم بأسره وقد أصبح خالياً من الأسرار الغيبية التي تعمر أركانه. وهو موقف حداثي لا نظير له في الشعر القديم، باستثناء لفتات بارقة عند رهين المحبسين. لكن الفارق بينهما كبير. فالمعري منقطع عن الخارج، مبحر في الباطن، بينما نجد عبدالصبور مشدود الطرف الى وعي كوني مؤرق وشقي، مبني على خبرة عريضة بالثقافة الإنسانية والوجود الحي المتقلب. وعلينا أن نقبض على أحد تجليات هذا المشهد من دون أن نتوقع منه بثاً مباشراً تخبو فيه جذوة الشعرية وتفتقر الدلالة، بل لنا أن نكشف عبره عن التكوينات المجازية بمستوياتها الكثيرة. وربما كانت قصيدة "مذكرات رجل مجهول" الواردة في ديوان "تأملات في زمن جريح" - وهو لم يظفر بتحليلات نقدية كافية - تقدم لنا نموذجاً وضيئاً لهذا الموقف. وليس في وسعنا أن نتتبع حركة الدلالة في كل مقاطعها، بل نكتفي ببعض الأجزاء المشكلة لملامح الخطاب فيها. فهي أولا تتخذ صيغة سردية حديثة - تذكرنا بما يسمى بالسرديات الكبرى في أدبيات الحداثة وإن كان المقصود مغايراً لها -. فهي تعتمد المذكرات التي تتزاحم فيها أصوات عدة تنبعث من لحظات مختلفة. وهي ترد على لسان "مجهول" يشير الى الكاتب بقدر ما يعني أي قارئ مخاطب أو ثالث غائب لا حضور له. فهذا التجهيل هو رمز العمومية الإنسانية على رغم ضمير المتكلم الذي يتصدره. وهو عندما يصور ذاته يمعن في تجهيلها وإغراقها في غيبوبة كلية: "أصحو أحياناً لا أدري لي اسماً/ أو وطناً أو أهلاً/ أتمهل في باب الحجرة كي يدركني وجداني...". هذا التجرد من الاسم والوطن والأهل يصبح السمة الإنسانية بامتياز وهي تعاني الإعياء والعذاب. عذاب الأيام التافهة المكرورة مثل السمة التجريدية ذاتها، على أن حركة الدلالة التصويرية في المقطع تحيل التجريد إلى تجسيد، أي تقوم بعملية التشكيل التي كثيراً ما تحدث عنها عبدالصبور باعتبارها جوهر الشعرية، وهو تشكيل يتلبس ببداهة الملامح الحسية لأحوال الإنسان وهو يصحو وينسى، ويتمهل ويستدرك، ويراقب ثقل أطرافه وانتقال جسده وتخبطه في الأبواب وبلله من العرق حتى يعود كما بدأ ذاهلاً عن نفسه مقهور الروح في هذا العالم الجديب. التوالي السردي من ناحية والتمثيل التشكيلي لدورة الضياع من ناحية أخرى يدفعان فلسفة الموقف الى تجربة شعرية يتماهى معها القراء المجهولون بدورهم. وإذا كان عبدالصبور يقول في "حياتي في الشعر": "ينبغي أن يتمثل الشعر أفكاره لتتحول في نفسه الى رؤى وصور كما يتمثل النبات ضوء الشمس ليتحول إلى خضرة مظللة وزاهية. فالشاعر لا يعرض آراء، ولكنه يعرض رؤية". فخطابه الشعري بما يسري في نفسه من وصال عاشق للتراث القومي والإنساني وتروع عقلاني علماني مضمخ بعبق الثراء الروحي للتجربة الصوفية الفنية ومن تعطش حادٍ لإصلاح الكون حتى يصبح أكثر عدلاً وجمالاً ومن إيمان عميق بالحرية التي ضمنت له انعتاقاً شخصياً من أسر الأيديولوجيات الطاغية في عصره، كل ذلك يمثل ملامح الحداثة في خطابه الشعري بقدر ما يمثل رؤيته لخطاب الحداثة ذاته مترجماً إلى خضرة فتية ظليلة وارفة ندية. * ناقد مصري ورئيس دار الكتب الوطنية.