مهما حاولت واشنطن وباريس اخفاء بوادر الأزمة الصامتة بينهما، بسبب امتعاض فرنسا من تفرد إدارة جورج بوش بتقرير مصير العالم، ومحاكمة الأمم والدول بتهمة "التواطؤ مع الإرهاب" و"ايواء الإرهابيين"... وبسبب تبادل أوصاف من نوع فيدرين "المزاجي" كما قال باول، واعتبار الأول أن السياسة التي يعممها البيت الأبيض على قارات الأرض ساذجة إلى حد التهور، فالواقع أن الانشقاق تكرس في صفوف التحالف الدولي الأميركي لمكافحة الإرهاب. وبات واضحاً أن أوروبا ترفع صوتها بعدما اكتشفت أنها قد تكون بين ضحايا عولمة السياسة وأمركة القرار الدولي، على رغم تحالفها مع واشنطن. وبات مفهوماً أن بريطانيا وحدها تخرج على هذه المعادلة لتشكل اختراقاً في الاتحاد الأوروبي، بسبب علاقة مع أميركا تبدو شاذة لدى الشركاء في الاتحاد، أصبحت مشكلة مزمنة لهم، تمنع مواجهة الغطرسة الأميركية بصوت موحد، كما عرقلت لسنوات مديدة توحيد الهوية الأوروبية. وليس العراق سوى إحدى ساحات الصدام الأوروبي - الأميركي، رغم أن خطط الحرب الجاهزة لدى البنتاغون لن تتوقف لمجرد امتعاض فرنسي وتنديد روسي. فالرئيس بوش قالها بوضوح: نحاكم بمفردنا لمعاقبة الإرهاب، ونضرب وحدنا لاستئصاله في كل مكان. ولا يبدو اعتراض بوتين على تفرد البيت الأبيض بتصنيف الأمم والدول بين مجموعات خيّرة وأخرى شريرة تستحق ملاحقتها، مفاجئاً أو غريباً. بل لعله استياء متأخر، إذ اكتشفت موسكو أن واشنطن نقلت بعض ترسانتها إلى الخاصرة الغربية لروسيا، فيما المكافأة للكرملين على تعاونه في "الحرب على الإرهاب"، في خبر كان، أو هزيلة. ووحده الموقف الكندي يبدو نموذجاً في اعتراضه على العصا الأميركية التي تسوق حتى الحلفاء الغربيين إلى جهنم حرب على العالم كله... حرب بلا نهاية، بذريعة الانتقام لضحايا 11 أيلول سبتمبر. وإذا كان الوزير هوبير فيدرين شجاعاً في انتقاده تهور سياسة بوش، فنظيره الكندي وليام غراهام سجل بشجاعة مميزة أيضاً اعتراضاً على سياسة القطيع وعودة "الكاوبوي"، من دون مراعاة أبسط حقوق الحلفاء في الغرب. وفي تساؤل الوزير غراهام "هل تكفي اشارة من واشنطن لبدء حرب على العراق من دون دليل دافع على تورطه بالإرهاب أو اخفاء أسلحة دمار شامل" صورة معاكسة لخفوت الصوت العربي إلى حد ينبئ بفاجعة. حين تنصّب الولاياتالمتحدة نظاماً موالياً في بغداد، ستتغير كل معادلات استراتيجية علاقاتها مع دول المنطقة، وهناك بالطبع المصالح النفطية وأسواق العراق التي ستبتلعها الشركات الأميركية وحدها، ولا تبقي لروسيا وفرنسا خبزاً أو جبنة. قد يفسر ذلك التململ الأوروبي - الروسي فيما الجميع بات مدركاً أن العد العكسي الأميركي بدأ للحرب على نظام صدام حسين، وما بقي من العراق. لكن التململ ذاته لا يخفي فقط مرارة ازاء خسارة مواقع نفوذ ومصالح اقتصادية انتظرتها موسكو وباريس سنوات طويلة، على أمل رفع العقوبات عن العراق. ومرارة أوروبا تحديداً ناجمة عن ضجيج سياسة القطيع، بعدما انكشف أن إدارة بوش تريد الجميع، جميع الحلفاء في الغرب أذناباً، ولا يهم إن كانت تفضل بعضها طويلاً.