يبدو واضحاً ان الطبقة السياسية في الولاياتالمتحدة، ومعها كثيرون من الباحثين والخبراء المختصين في العلوم السياسية وطبخ الخيارات الاستراتيجية، لم يهتدوا بعد الى السيناريو الأفضل الذي يمكن اعتماده لإعادة ترتيب أوضاع العالم الاسلامي. جعلتهم الاحداث التي توالت منذ 11 ايلول سبتمبر يفترضون ان هذه المنطقة التي تمتد من موريتانيا الى ماليزيا، يمكن ان تشكل مصدراً جدياً من مصادر تهديد الأمن القومي الاميركي. ولم تعد واشنطن تكتفي بإقامة علاقات ايجابية مع هذا النظام أو تلك الحكومة، فذاك شرط مهم، لكنه غير كاف، واصبحت تعتقد بأنه لضمان مصالحها الحيوية وتأمين أمنها وأمن مواطنيها، عليها ان تكثف ضغوطها وتدخلها في الشؤون الداخلية لهذه الدول من أجل احداث تغييرات جوهرية في نظمها السياسية والاجتماعية والثقافية. والسؤال الذي تبحث الدوائر الاميركية عن اجابة قاطعة له هو: في أي اتجاه عليها دفع هذه التغييرات حتى تضمن الولاياتالمتحدة نتائج أكيدة لمصلحتها؟ عندما فشلت اميركا في حماية نظام شاه ايران، ما كلفها قيام نظام بديل شديد العداء لها ومهدد لمصالحها في كل المنطقة، انطلق جدل بين الاميركيين المهتمين بشؤون الشرق الأوسط والعالم الاسلامي. وتمحور حول قضايا عدة، بينها البحث عن الخيار السياسي الأفضل بالنسبة الى الولاياتالمتحدة: هل تدعم احداث اصلاحات ديموقراطية داخل دول المنطقة؟ أم تستمر في تقديم المساعدات للأنظمة القائمة عسى ان تتمكن الأخيرة من الحفاظ على الاستقرار الداخلي والاقليمي، وتحول دون قيام حركات راديكالية قوية تفرض نفسها كبديل مثلما حصل في ايران؟ بمعنى آخر هل ان التيار الاسلامي جاء نتيجة غياب الديموقراطية التي ان توفرت ستحد من نموه أو على الاقل تجعله غير عنيف وقابل للإدماج؟ أم ان البلدان العربية والاسلامية لا يمكن ان تبقى ممسوكة إلا بأنظمة قوية وصارمة؟ ان مجرد طرح مثل هذا التساؤل أثار يومها قلق الدول الحليفة للولايات المتحدة في المنطقة. لكن توالي الاحداث والاخطاء التكتيكية والاستراتيجية التي ارتكبتها حركات اسلامية عدة مثلما حصل في ايران والجزائر والسودان وغيرها، لم يطمئن الاميركيين ويشجعهم على الدخول في مراهنات غير محسوبة ولا مضمونة. واخذوا يتساءلون: لمصلحة من اضعاف الأنظمة الحاكمة؟ فالمعارضات العلمانية ضعيفة في كل مكان تقريباً، ولم تتمكن لأسباب عدة من تجميع صفوفها وتشكيل أحزاب حديثة وشعبية قادرة على حسن ادارة الصراع مع الهيئات الحاكمة. كما ان تجارب سيطرة العسكر على الحكم في بلدان عربية واسلامية منذ الخمسينات لا تشجع على مزيد من تفريخ أنظمة شبيهة. في مقابل ذلك كله لم تعثر الأجهزة الاميركية على حركة اسلامية ليبرالية معتدلة وغير معادية للولايات المتحدة لتجعل منها نموذجاً، وتسهل لها احتمال وصولها الى الحكم في بلد عربي أو اسلامي. وعلى رغم ان تجربة حزب "الرفاه" في تركيا كادت ان تطمئن الاميركيين، عندما كان اربكان في رئاسة الحكومة وقبل بأهم الشروط العسكرية والسياسية لواشنطن، فإن حرصه على تعميق التعاون مع عواصم اسلامية، بخاصة طهران وطرابلس، اضافة الى الشروع في تنظيم التبادل التجاري مع مصر وغيرها بناء على العملات المحلية وليس الدولار، زادا اشعار الاميركيين بأن هذا الصنف من الحركات والتنظيمات السياسية لا يصلح ليشكل البديل المرغوب فيه. هكذا بدا لصانعي السياسة الاميركية ان الخيار الوحيد هو الاستمرار في دعم الحكومات القائمة، مع تشجيعها على إحداث اصلاحات تدريجية وجزئية. لكن ذلك لم يمنع استمرار بعض الأصوات التي تطعن في شرعية كثير من تلك الحكومات، وتتهمها بالمبالغة في اضطهاد خصومها وعدم احترامها حقوق الانسان، وافراطها بدعم الفساد الاجتماعي والمالي. واعتبرت هذه الاصوات ان شيوع تلك الممارسات من شأنه ان ينمي مظاهر الاحتجاج، ويساعد على توليد حركات التطرف والعنف وتقويتها. وطغت هذه الرؤية على الخطاب السياسي والاعلامي الاميركي في مرحلة التمهيد للحرب ضد النظام العراقي ثم تبريرها. وعندما ضربت نيويوركوواشنطن، وأصبح أسامة بن لادن العدو الأكبر لأميركا، عاد الحديث عن مدى أهمية الاصلاحات الديموقراطية لكسب المعركة ضد "الارهاب"، على رغم ان الجناح العسكري والاستئصالي داخل الادارة الاميركية متمسك الى الآن بالخيار الأمني، ويرى فيه الأسلوب الوحيد لمحاربة "الشياطين الجدد". في هذا الاطار نشر أخيراً مقال لمارتن انديك أكد فيه ان "الاعتراف بديناميكية التغيير في مجتمعات تقليدية كان في الماضي أمراً يخل بالتوازن". وطالب المسؤول الاميركي السابق "الدول العربية الصديقة لأميركا أن تعلم أن الاصلاحين الاقتصادي والسياسي سيكونان جزءاً متكاملاً في جدول الاعمال الاميركية معها"، علماً أن انديك لم يكن في عهد الرئيس بيل كلينتون متحمساً لربط "لبرلة" الاقتصاد العربي بالديموقراطية السياسية. وكان من المدافعين عن مشروع الشراكة الاميركية - المغاربية الذي خلا عن قصد من أي اشارة الى الاصلاحات السياسية، مثلما كان الشأن في اتفاقات الشراكة بين الاتحاد الأوروبي ودول جنوب المتوسط تونس مثالاً. يلتقي الرأي الجديد لانديك مع ما تنادي به الأوساط الديموقراطية في الكثير من البلاد العربية والاسلامية. فهذه الأوساط تخوفت ولا تزال من سياسة التعبئة الأمنية التي انتهجتها ادارة الرئيس جورج بوش، ورحبت بها أنظمة عربية. كما تعتقد هذه الأوساط بأن اضطهاد الخصوم في ظل محاكمات غير عادلة، هو الذي يعمق الفراغ، ويفقد الأمل بامكان حدوث اصلاحات أو انتقال سلمي للسلطة. لكن ذلك لا يعني القبول بسيناريو اميركي جاهز ومحكوم باعتبارات استراتيجية غير مقيدة بخصوصيات الدول المستهدفة بالتغيير السياسي. بالتالي تجدر الإشارة الى الملاحظات الاساسية الآتية: أولاً: الديموقراطية عملية ذاتية وتراكم نضالي، تحدده بالدرجة الأساسية معطيات الصراع الداخلي، وتوافق القوى الداعية الى التغيير، ولا يمكن في أي حال ان تكون خياراً مفروضاً من الخارج. لا يعني ذلك التقليل من أهمية العوامل الخارجية التي قد تساعد احياناً في تأمين شروط أفضل للتغيير المنشود، لكن ذلك لا يمكن اطلاقاً ان يكون بديلاً من العامل الداخلي المستقل القادر على توظيف كل المعطيات لمصلحة المشروع الوطني. ثانياً: الديموقراطية لا تعني بالضرورة قبول السياسات الاميركية، خصوصاً اذا تضاربت مع المصالح الوطنية والقومية. فالعملية الديموقراطية خيار ذاتي مستقل عن الإملاءات الاميركية، ولا يمكن القبول بربط الأمرين معاً، وإلا تم الاضرار بالخيار الديموقراطي الذي يشكل مع العدل الاجتماعي أهم القيم المتبقية التي لا تزال تبرر الاستمرار في النضال على الصعيد الوطني. ثالثاً: الديموقراطية لا تؤدي بالضرورة الى انتفاء العنف وتبخر ظاهرة الاسلام السياسي. فهاتان الظاهرتان تتأثران بالمناخ السياسي العام، وبدرجات الظلم والقمع المسلطين على الشعوب، لكن لهما جذور اجتماعية وثقافية تتطلب البحث والمراجعة والقيام بإصلاحات موازية للاصلاحات السياسية. فالديموقراطية تساعد كثيراً عمليات الفرز السياسي، وترفع وعي المواطنين بأنواع الأخطار الداخلية والخارجية، وتمتص حالات الاحتقان، ولا تضفي الشرعية على كل اشكال العنف. كما تضمن الجو المناسب لممارسة حرية الرأي وتحقيق المراجعات التاريخية الضرورية التي تأخرت كثيراً في العالم الاسلامي. رابعاً: لا نفهم هذا الربط التعسفي المشار اليه لدى العديد من المصادر الاميركية بين ادخال جرعة من الديموقراطية على نظم الحكم العربية، وبين القبول بالتسوية السياسية مع اسرائيل وفق شروطها الحالية. ان توسيع دائرة المشاركة أمام الجماهير يعطيها الفرصة للتعبير عن مواقفها من القضايا التي تهمها، وبينها القضية الفلسطينية، التي تكاد ان تصبح من اختصاص الأنظمة فقط. والمهم انه لا يمكن مقايضة الديموقراطية بالتطبيع مع اسرائيل والتنازل عن الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني. الخلاصة، ان هناك مؤشرات صادرة عن جهات اميركية مختلفة المواقع، تدفع نحو احداث تعديلات مهمة في عدد من البلاد العربية، تمهيداً لتغييرات اكثر أهمية على الصعيد الاقليمي. والمشكلة انه بمقدار ما تندرج تلك المؤشرات ضمن البحث عما يعتبره الاميركيون من ضرورات حماية أمنهم القومي، بمقدار ما بلغت الأوضاع العربية حداً من التداعي يفرض القيام بإصلاحات جدية وعاجلة. وكلما تم الاسراع في هذه الاصلاحات الديموقراطية انطلاقاً من رؤية عربية داخلية وقناعة ذاتية صادقة، كلما كانت النتائج ايجابية، داعمة للاستقلال الذاتي والمصالح العليا للشعوب. لكن أي تأخير أو تقديم تنازلات جديدة في مقابل ثمن بخس وعلى حساب مصالح الأمة وكرامتها، لن يعالج أزمة الشرعية، وقد يؤدي في النهاية الى فرض تغييرات من الخارج تزيد حال التفكك العامة، وتعطي اسرائيل الفرصة لتمرير ما تبقى لها من شروط التصفية والإذلال. * كاتب وصحافي من تونس.