يرتكز الاستشراق على ما يقول المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، على جغرافية خيالية تقسم العالم إلى شطرين. يعرف الأول ب «الشرق»، فيما يدعى الآخر «الغرب». واللافت في علاقة هذين الشطرين، أن الغرب ينظر إلى الإسلام- الذي يمثّل الشرق- كأنه كتلة صلدة واحدة لا تعدّد فيها ولا تمايز من الناحية الجغرافية والإتنولوجية. لقد فُسّرت طبيعته بأنها قائمة على العنف، واعتبر بأنه منافس رهيب يُناقض الغرب المتحضّر الديموقراطي. هذه النظرة إلى الإسلام والمسلمين سادت بين معظم المستشرقين، وهذا ما يؤكّده كتاب فخري صالح «كراهية الإسلام– كيف يصوّر الاستشراق الجديد العرب والمسلمين» (الدار العربية للعلوم- ناشرون). يذهب صاحب الكتاب، انطلاقاً من دراسته لثلاثة مستشرقين معروفين هم برنارد لويس، صمويل هنتنغتون، ف. س. نايبول، إلى التمييز بداية بين المستشرقين القدماء والمستشرقين الجدد. فيقول إذا كان القدماء يقيمون دعواهم، ويبنون أحكامهم على الشرق من خلال قراءة آثار هذا الشرق المعرفية والعلمية والأدبية، فإن المستشرقين الجدد يستندون إلى معارف ثانوية يستقونها من مصادر إعلامية تتسم بالتسطيح، وغلبة الأهداف الأيديولوجية التي تسعى إلى الإبقاء على سيطرة القوة الأميركية كقطب عالمي وحيد أوحد، وابتداع عدوّ مختلف عقائدياً واتهام اتباعه بالإرهاب. يعدّ برنارد لويس، كما يقول فخري صالح، من بين المستشرقين المؤثّرين في الغرب، لا في أوساط المؤرخين وبين الباحثين في الدراسات الإسلامية فقط، بل بين أصحاب القرار في الولاياتالمتحدة وفي العالم. إنه واحد ممن كان البيت الأبيض في فترة جورج بوش الابن يسترشد بهم، ويستأنس بآرائهم في ما يخص سياسة أميركا في الشرق الأوسط. تشكلت رؤية لويس ومنظوره الاستراتيجي حول العالمين العربي والإسلامي في فترة مبكّرة من حياته الأكاديمية، فكتب في مؤلفه «العرب والتاريخ» أن «الإسلام اليوم يقف في مواجهة حضارة غربية تشكّل تحدّياً للعديد من قيمه الأساسية، وتمثّل إغراء للعديد من اتباعه. لكنّ الإسلام من أعظم ديانات العالم، وقد منح الملايين من الرجال والنساء الراحة والطمأنينة، وعلّم شعوباً من أعراق مختلفة أن يعيشوا حياة أخوية، وأن يعيشوا جنباً إلى جنب في تسامح معقول»، لكنّ لويس يعود ويناقض نفسه قائلاً: «عرف الإسلام على شاكلة غيره من الأديان فترات نفخ فيها روح الكراهية والعنف بين أتباعه». يتساءل فخري صالح مستنكراً، لكن ما دام الإسلام «من أعظم ديانات العالم» وأن ثمة علاقات وتطلّعات مشتركة تربط الغرب وأميركا على وجه الخصوص بالعالم الإسلامي، فمن أين تتغذّى جذور الكراهية؟ يجيب لويس عن هذا التساؤل في كتاباته بأن ثمة أسباباً منها الدعم الأميركي لإسرائيل الذي يقدّم على الدوام بوصفه المحرّك الأساسي لعداء العرب والمسلمين لأميركا، ومنها ادعاء المسلمين المتزمتين رفضهم أن يحكمهم «الكفّار»، ومنها الشعور بالدونية الحضارية والهزيمة أمام الغرب المتفوّق والمتحضّر والديموقراطي، ومنها غياب الحرية: حرية تفلّت العقل من القيود، وصيغة التلقين في التعليم، وحرية العربي المسلم في أن يسأل ويستعلم ويعلن رأيه. يتناول فخري صالح في كتابه صمويل هنتنغتون الذي سطع نجمه في نهاية القرن العشرين، مع احتلاله لمناصب استشارية عدة أثناء عمله في البيت الأبيض، وسعيه لإقامة بناء نظري في كتاباته الأكاديمية للحفاظ على الهيمنة الأميركية على العالم. لكنّ شهرة هنتنغتون الكبيرة تعود إلى كتابه «صراع الحضارات وإعادة صياغة النظام العالمي»، الذي قدّم فيه أطروحة استراتيجية لإلهام صنّاع القرار في الولاياتالمتحدة الأميركية على السبل الآيلة إلى حكم العالم، وذلك عبر توفير سياسة خارجية مبنية على دوام حضور العدو في الفكر السياسي الغربي ممثّلاً بالإسلام والكونفوشية والأرثوذكسية. إن أطروحة صراع الحضارات توفّر، وفق المفكر الأميركي، خريطة سهلة لفهم ما يجري في عالم القرن العشرين. ومن ثمّ فإن الكثير من التطوّرات الحاصلة بعد الحرب الباردة يمكن استنتاجها من هذه الأطروحة، وهو يضع الدين كحجر أساس يستند إليه في تعيينه للحضارات المختلفة، بحيث يمكن أن يشترك البشر في أصولهم الإتنية واللغوية، لكن أصولهم الدينية تجعلهم ينتمون إلى حضارات مختلفة. وهو يقسم العالم إلى دينين رئيسييّن المسيحية والإسلام، يضمّان بين جوانحهما أعراقاً بشرية مختلفة. والملاحظ في هذا التشديد رغبة هنتنغتون في إقامة فاصل بين الغرب المسيحي، والإسلام المشرقي تمهيداً لتأكيد فكرة أن عدوّ الغرب هو الإسلام. ويكشف صالح في كتابه البحثي كيف أن هذا المفكر الأميركي لا يجد حرجاً في اعتبار آسيا والإسلام يشكّلان خطراً على الحضارة الغربية. الأوّل عبر نموّه الاقتصادي والثاني من خلال الحراك الاجتماعي والنمو السكاني. ووفق رأيه، سيتسبّب هذان العاملان (أي النمو الاقتصادي والاجتماعي) في زعزعة الاستقرار السياسي في القرن الواحد والعشرين. ومن ثمّ ينتقل فخري صالح إلى دراسة آراء الكاتب الترينيدادي المتحدّر من أصول هندية ف. س. نايبول. ويوضح كيف أنّ كراهية نايبول للعرب المسلمين بدأت في وقت مبكّر من حياته، هو الذي اعتقد أن المسلمين دمّروا الهند موطنه الأصلي ونهبوا خيراتها وأفقروها وأوقفوا نمو حضارتها وأنشأوا إمبراطورية إسلامية تغطّي الهند والسند. ويقول صالح إن كراهيته تبدّت في أعماله، وساهمت كتابات نايبول عن العالم الإسلامي في إثارة العداء ضد المسلمين، وقد ساعدته هذه الخلفية الحاقدة في الحصول على جائزة نوبل الآداب عام 2001، وقد اتخذ من أحداث 11 أيلول (سبتمبر) منصة لاتهام الإسلام والمسلمين بالإرهاب. يعرج صالح على عدد من أعماله، ويذكر بعضاً من كتبه التي صوّر فيها رحلاته إلى العالم الإسلامي، بما فيها إيران وباكستان وماليزيا وإندونيسيا، واصفاً شعوب تلك البلاد بأنها «شعوب مرتدة» عن أديانها، ومُطلقاً أحكامه القاسية على الإسلام كدين وحضارة، وعلى المسلمين كشعوب وتاريخ، قائلاً إن «حضارة هذه الشعوب لم تضف شيئاً يذكر إلى الحضارة البشرية». واللافت أن إدوارد سعيد تنبّه في كتابه عن «الاستشراق» إلى تماثل نايبول مع النظرة الاستشراقية في رؤيته إلى الإسلام، فهو مثله مثل برنارد لويس وصمويل هنتنغتون، لا يرى تمايزاً بين المسلمين العرب والمسلمين غير العرب، ولا يرى أي إمكان عند المسلمين للتحوّل والتطوّر، متناسياً أن الإسلام دين يؤمن به ملايين البشر، دين جعل عبر تاريخه شعوباً مختلفة المشارب، تعيش جنباً إلى جنب في جوّ من التسامح والتلاقح الثقافي والتقدّم. يقدم فخري صالح، من خلال تتبعه ظاهرة الإسلاموفوبيا في الثقافة الغربية عموماً، وفي أعمال لويس وهنتنغتون ونايبول بصورة خاصة، نقضاً لرؤية هؤلاء للإسلام والمسلمين، وذلك من خلال الفصل الأخير الذي يقرأ فيه العلاقة بين العالم الإسلامي والغرب. ففي هذا الفصل يلقي الباحث الضوء على صور تقبل الآخر في الحضارة العربية الإسلامية، انطلاقاً من التجربة الأندلسية التي يعدها لحظة فارقة في تاريخ الحضارة الإنسانية. وبناء على ذلك، وكما يقول الباحث، «ينبغي مقاربة نظرة لويس (ومن يشاركونه رؤيته) غير الصحيحة، وحتى المسلَّحة، لحل الصراع بين الإسلام والغرب، مقاربةً سياسية. فالتوترات والصراعات، التي يشعلها خطاب مثل خطاب لويس، لا تُخاض على حدود الثقافات والحضارات والأيديولوجيات.» كما أن «ردم الهوَّة القائمة يعتمد على التوقف عن جميع أنواع التمييز ضد المسلمين في العالم الغربي. فالشعور بالاختلاف، والتهميش والاستبعاد، هو نتيجة للتمييز الثقافي والديني». ويخلص صالح، في الصفحات الأخيرة من كتابه، إلى القول «إن الإسلام، وهو ظاهرة ثقافية وتاريخيَّة، إضافةً إلى كونه ديناً يؤمن به بلايين البشر، دينٌ متسامح مع الأديان والأفكار المخالفة الأخرى». في هذا الكتاب، استطاع فخري صالح أن يكشف خلفيات بعض المستشرقين وكراهيتهم تجاه حضارة بلغت من المجد ذروته، وقدّمت إلى الإنسان عقيدة تدعو أتباعها إلى المحبة والتآخي، وإن حاول كثيرون تشويه هذه الصورة في مراحل كثيرة.