يلعب عبدالله الغذامي دوراً مهماً في الحياة الثقافية السعودية والعربية، فنظرياته النقدية تثير جدلاً ومعارك. بعد ايام في حياة نجيب محفوظ واحسان عباس ومحمد الماغوط، يلقي ملحق "آفاق" الضوء، ضمن سلسلة "يوم في حياة كاتب" على بعض التفاصيل في حياة الغذامي اليومية. لو سنحت لك الفرصة ان تعيش يوماً في حياة المفكر وأستاذ النظرية عبدالله الغذامي عليك أن تنام مبكراً لتجده يقتعد مكتبه في الساعات الأولى من صبيحة كل يوم حين يكون الوقت ميتاً في بال من يسأل عنه، والهاتف بارداً لا تقلقه أصابع الباحثين عن محادثته، ويكون النهار طازجاً على جنبات مدينة الرياض من غير ضوضاء، يمكنه من اقتناص تلك الأفكار التي اعتمر بها أثناء رحلة صيد نصب فيها الفخاخ ليخطف ساعات النوم. وستجد الغذامي يستقبلك بوجه طليق وروح مرحة تغلفها صرامة ارتداها منذ الطفولة، فكيف لهذا الرجل الجمع بين الخطوات المتباعدة. فمن يعرف الغذامي جيداً سيكشف لك ان هذا المهموم بالدرس والبحث والاستنباط وتعميق نظرياته النقدية، هو رجل عاشق للفرح، يجيد غزل الطرفة، ويستملح المواقف الطريفة ولا يأبه ان تكون النكتة له أو عليه، والدخول الى عالمه المدجج بالصرامة يأتي من معرفتك بعقليته وتثمين آرائه. حين هاتفته مبدياً رغبة في قضاء يوم في حياته، أبدى التململ وعدم الرغبة في ذلك قائلاً: "نحن نصنع أصناماً بهذا الفعل، وهذا الفعل فعل نرجسي". ورغب في تقبل التحية وانهاء المكالمة عند هذا إلا ان الالحاح أثمر عن استحلاب خجله فوافق على مضض. يلجأ الغذامي الى مخدعه باكراً ليس رغبة في النوم ولكن للقضاء على آفة لازمته منذ 40 عاماً، ولم يجد من وسيلة للحد من تغلغلها في كيانه سوى اللجوء الى فراشه. تلك الآفة هي الأرق، فالأرق الذي تحول الى فريسة يتجهز لها الغذامي بعدة صيد غريبة بعض الشيء، خواطر وقلم وقصاصة أوراق بيض فحين يأوي الى مخدعه يتماهى مع الكون، ويسبح في الحياة والأفكار والناس والكائنات الأخرى يظل على هذه الحال وقتاً طويلاً يسترق من خبايا تلك الهواجس مادة ليقدح بها فكره وهو يجول في الزوايا والخبايا العميقة للنفس البشرية وحين يتغلغل كثيراً تخشى الأسرار على أرديتها فتدفعه لمنزلق النوم متمنية أن يكون قد نسي حصيلة صيده في شرشف نومه. ونتيجة رحلة الصيد الليلية تحدد تفاصيل يوم الغذامي: "هناك عنصر أساسي يتحكم في برنامج حياتي اليومي، فلدي معضلة جوهرية لازمتني منذ أربعين عاماً هي الأرق. ويتحدد برنامج يومي استناداً الى ذلك، وقد تحول الأرق الى صديق تآلفت معه ولكي لا يحبط يومي وجدت ان خير وسيلة للتخلص من هذا الصديق القديم هي أن آوي الى فراشي مبكراً، أدخل الى مخدعي كصياد يحمل شباك صيد وحين يستقر جسدي على الفراش أبدأ بالإبحار مع هواجسي، وأنا صديق للهواجس من طفولتي الأولى إذ أفلت الزمام لخيالاتي لأن تنطلق بحرية من غير قيود. وأعيد ارتباطي بالخيال الى التنشئة الاجتماعية والتربوية التي عشتها، فقد كانت حياتي حياة تندر فيها العلاقات الاجتماعية ومنذ ذلك العهد ارتبطت بالخيال والذي أخذ يتنامى مع القراءة فالكتب تربطك بأشخاص بعيدين في بعدها الجغرافي وتجعلك تعيش مع كائنات غير مرئية، واستحضاري لخيالات منطلقة الى ما لا نهاية قبل النوم خلق لدي عادة ملازمة لي اذ أضع تحت وسادتي قصاصات من الورق وقلماً لأسجل تلك الخيالات لئلا تهرب مني بعد الاستيقاظ. وتعلمت ان اكتب في الظلام حين أسجل تلك الأفكار التي استحضرها في معركتي مع الأرق، وهذه الكتابة - في الظلام - تريح ذهني، وتثمر عن جملة أفكار استثمرها في بحوثي ودراساتي . ومن العادات التي لازمتني حمل قصاصات من الورق حتى عندما أقوم بقيادة السيارة فأنا لا أستمع الى الراديو أو المسجل، ففي مشاويري أعمد الى اطلاق عقلي امنحه الانطلاق في كل مكان وكلما عبرت فكرة قمت بتسجيلها وربما أكون في خط سير لا يسمح لي بالكتابة فأقوم بوضع اشارة كأن أخلع ساعتي أو أضع الورقة في جانب آخر لتذكرني انني عزمت على تسجيل فكرة ما. وحين أجد الفرصة سانحة أقوم بتسجيلها وإذا نسيتها أقوم باسترجاع خيط الأفكار الذي مر بي حتى أصل الى الفكرة المستهدفة. ومن حيلي للوصول الى الفكرة الهاربة أن أسأل ما هي الفكرة التي نسيتها وأبدأ في عملية تسلسلية من أين بدأ انطلاق عقلي وفي عملية تسلسلية تدربت عليها عبر الزمن أصل غالباً الى الفكرة التي نسيتها. وبعد أن لجأت الى محاربة الأرق بالذهاب المبكر الى فراشي نتج عن تلك المعركة ان استيقظ مبكراً لأجد نفسي مهيأ لأن أنجز كثيراً من المهمات التي علي انجازها، ففي مثل هذا الوقت لا أحد يتوقع ان تكون مستيقظاً ليفكر بالاتصال بك، ويبدأ برنامجي اليومي من الساعات الأولى من اليوم فأقوم بالقراءة المكثفة فربما أقرأ خمسة كتب أو ستة كتب في وقت واحد وهذه السياحة القرائية اكتسبتها من الصغر واستمرت معي الى الآن. وربما تكون هذه القراءة المكثفة سبباً رئيساً في ندرة العلاقات الاجتماعية التي أعيشها وتصرفني أيضاً عن المجتمع. - يعم المنزل جو الصداقة، الصداقة الحرة، فلم أعوّد بناتي على الأمر والنهي، وتعودن معي على أن الأمور تحكى وعبر الحكي تأسس النظام الاجتماعي والتربوي للبيت. ونعمة البنات أفضل من الذكور واستجابتهن لزمن الحكي أدق وأعمق من استجابة الذكور وبهذا اصبحنا أصدقاء وصار الجو جو وضوح بواسطته ترتب الحياة كلها. هل ثمة مقاربة بين طفولة عبدالله الغذامي وبناته؟ - الفرق كبير بين الطفولتين، فطفولتي مملوءة بالقوانين الصارمة والاملاء المتكرر، بينما بناتي يعشن جواً من الحوار والانفتاح على الآراء، وقانون البيت في صوغ بناتي وليس وفق صوغي فهن ينظمن حريتهن. عبدالله الغذامي هذا الاسم الذي يحمل ثقله الأكاديمي والابداعي وسطوته الفكرية كيف يؤسس علاقته مع طلابه؟ - يأتون وفي داخلهم شيء من الرهبة وأعي تماماً وجود هذا الثقل في دواخلهم لذلك أعمل على كسر الحواجز بيني وبينهم، ومن المحاضرة الأولى أشرح لهم ما أريده وما أنا، وأعزز حقوقهم عليّ وليس حقوقي عليهم، ألا أغيب عنهم أو أتأخر عن حضور المحاضرة وإن غبت في مهرجان أو دعوة أشعرهم قبل حدوثها بأسبوع وإشعارهم هي رسالة تعني بأني أحترمهم وأحترم وقتهم وبالتالي يحترمون وقتي وذاتي. وفي قاعدة الدرس عودت طلابي أن يمزحوا معي وأن أمزح معهم، أن أضحك عليهم وأن يضحكوا علي، وبهذا كسرت عنصر الهيبة التي قد تقف بيننا، عمدت الى تأسيس بشرية الجلسة ودائماً أسميها جلسة وليس محاضرة، وعودتهم على الأسئلة وعلى جرأة السؤال، وقد نصرف محاضرة أو محاضرتين على سؤال واحد، وبذلك تأسست ثقافة السؤال. وفي مسألة التصحيح فأنا رحيم بهم وأسعى دائماً أن أكون على علاقة سوية بطلابي. أنت تعيش في مجتمع يرى في الضحك والمزاح تقليلاً من الهيبة ألا تخشى ان يفهم طلابك رسالة المزاح في صورة خاطئة؟ - هذا هو المطلوب، التقليل من الهيبة. الهيبة طقس وثني يلغي العقل ويلغي انسانية الإنسان ويزيف الحقائق. والذين يتمسكون بالهيبة هم في الواقع يخافون من كشف الحقيقة، أي حقيقة كانت، لأن الهيبة هي قناع يغطي الزيف، أما الحقيقة الصافية فهي تتسم بالبساطة والوصول السريع لأن من شروطها الإعلان عن ذاتها بينما يضر بها الاختفاء. حين اتصلت بك طالباً ان أعيش يوماً في حياتك رفضت، لماذا رفضت؟ - أشعر ان مثل هذه اللقاءات فيها ذاتية شديدة وتركيز على الشخص في حين اننا نشتكي في ثقافتنا من تصنيم الأفراد وصناعة الفحول وتعزيز أبوية الآباء وهذه عيوب ثقافية نسقية لا بد ان نتحرر منها. يلاحظ في الساحة الثقافية السعودية انقياد لمقولاتك من قبل النقاد، فهل هذا ضعف في النقاد أم قوة رأي تتمتع بها؟ - لا هذه ولا تلك، أنا أؤمن ان العمل بعد انجازه يصبح ملكاً للقراء وهم أهل الحكم عليه بغض النظر عن مصدره، ولو سمحت لنفسي بالتعرض لردود الفعل عن أعمالي فهذا معناه وصاية أبوية مني على كتبي وهذا من العيوب النسقية التي يجب ان نتخلص منها. كيف هي علاقتك بأصدقائك؟ - من حسن حظي ان عندي أصدقاء أوفياء. بعضهم أصدقاء الطفولة وبعضهم تجمعوا في رحلاتي الزمانية والمكانية خلال مسيرة الحياة. والشيء الذي أحمده لأصدقائي هي ميزة فيهم، فهم يقبلوني بعلاتي وهذا هو الذي حفظ كثيراً من علاقات الشخصية وضيَّع كثيراً غيرها خصوصاً من الناس الذين لم يقبلوا علاتي وأبرزها تقصيري الاجتماعي وعدم الرغبة في السهر وجدتي في السفر والإقامة وعدم ميلي الى تضييع الوقت في ما لا طائل من ورائه، وهذا لا يرتهن بمكان اقامتي فقط بل أمارس سلوكي في السفر أيضاً وهذا لا يتناسب مع بعض الأصدقاء الراغبين في الخروج عن الوقت. واعتدت من وقت مبكر أخذ الأشياء بجدية ودقة وانضباط، وربما هذه الجدية تبعد كثيراً من الأصدقاء - وهؤلاء الذين فقدتهم - فأنا جاد في غالبية حياتي. وأنا أعتقد ان علاقاتي الاجتماعية هي أضعف حلقة في حياتي فاهتمامي بالكتب والقراءة يطغى على الجانب الاجتماعي، وكما قلت لك ليس لي من أصدقاء إلا أولئك الذين قبلوني بعلاتي. من يعرفك يعرف خفة ظلك فكيف تزاوج بين الصرامة والجدية وبين هذا الظرف؟ - كل الذي أعرفه أني محب للنكتة وتستجيب نفسي للنكت وأذكر كل نكتة سمعتها، وأحب الاستماع للنكات وأتبادلها وتخرج مني نكات في مواقف سريعة إلا أن غالبية حياتي ترتكز على الجدية وأنا أعتبر نفسي رجلاً جاداً، وربما تكون النكات بمثابة الفواصل بين الجمل. وفي العمق العميق من ذاتي أرى ان النكتة هي أرقى وأقسى أنواع الجد، لأن النكتة نقد اجتماعي لاذع. فهي ظهور الجد بقناع الهزل لكي يتغلغل الى العمق ويفعل فعله. حضرت محاضرات لك كنت خلالها قاسياً على الآخر فهل هذه القسوة من باب ألا يمس الهرم الذي يدعى عبدالله الغذامي؟ - الحقيقة انني لست قاسياً أو في الأقل هذا ما أعتقده في نفسي، وما يراه الناس قسوة هو في الحقيقة اخلاص عميق للفكرة، وحماسة في الدفاع عنها وفي ايضاحها. ومع درجة الانفعال الفكري في الدفاع وفي ايضاح الفكرة تبدو على المرء القسوة في نظر من يشاهد ويسمع وأنا ألاحظ اجتماعياً وادارياً ان هناك من يقول انني أقسو في حواراتي ونقاشاتي وهذا يعود لانهماكي الشديد داخل الفكرة والإخلاص لها. هذا ما أشرح به نفسي لكنني أتقبل بالضرورة أن ما يقوله الناس هو الصورة الواقعية الحقيقية لأي انسان، فلا تستطيع ان تضع صورتك التي تعرفها في ذهنية الآخر، وتظل الصورة التي يكونها عنك هي الحقيقية بالنسبة اليه. هل لتميزك دور في ندرة أصدقائك؟ - أصدقك القول انني وصلت في تجربتي العملية الى ان الخصومة هي نعمة كبيرة والمرء يتعلم من خصومه أضعاف أضعاف ما يتعلم من مناصريه، ثم بتجربتي وجدت ان الخصوم هم الذين يسوقون أفكاري من دون قصد وهم الذين يلفتون أنظار المجتمع اليها. ولقد جربت ان أي فكرة أقولها ولا تجد هذه الفكرة خصوماً تذوب وتنسى أما الأفكار التي يشتبك عليها الخصوم فتظل حية وباقية. ينتهي الأمر أن أقول ان خصومي صاروا من دون أن أدري ويدرون أصدقاء". مؤلفات للغذامي 1- الخطيئة والتكفير، من البنيوية الى التشريحية، النادي الأدبي الثقافي، جدة 1985، الرياض 1989، طبعة ثانية ودار سعاد الصباح، الكويت/ القاهرة، 1993 طبعة ثالثة والهيئة المصرية العامة للكتاب 1997، طبعة رابعة. 2- تشريح النص، مقاربات تشريحية لنصوص شعرية معاصرة، دار الطليعة، بيروت 1987. 3- الصوت القديم الجديد، بحث في الجذور العربية لموسيقى الشعر الحديث، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1987، ودار الأرض، الرياض 1991، طبعة ثانية ومؤسسة اليمامة الصحافية، كتاب الرياض، الرياض 1999، طبعة ثالثة. 4- الموقف من الحداثة، دار البلاد، جدة 1987 الرياض 1992، طبعة ثانية. 5- الكتابة ضد الكتابة، دار الآداب، بيروت 1991. 6- ثقافة الأسئلة، مقالات في النقد والنظرية، النادي الأدبي الثقافي، جدة 1992، ودار سعاد الصباح، الكويت/ القاهرة 1993، طبعة ثانية. 7- القصيدة والنص المضاد، المركز الثقافي العربي، بيروت/ الدار البيضاء 1994. 8- رحلة الى جمهورية النظرية، مقاربات لقراءة وجه اميركا الثقافي الشركة السعودية للأبحاث، جدة 1994 مركز الإنماء الحضاري - حلب 2000. 9- المشاكلة والاختلاف، قراءة في النظرية النقدية العربية وبحث في الشبيه المختلف، المركز الثقافي العربي، بيروت/ الدار البيضاء 1994. 10- المرأة واللغة، المركز الثقافي العربي، بيروت/ الدار البيضاء 1996 طبعة ثانية 1997 عن الدار نفسها. 11- ثقافة الوهم، مقاربات عن المرأة واللغة والجسد، المركز الثقافي العربي، بيروت/ الدار البيضاء 1998. 12- حكاية سحارة، حكايات وأكاذيب، المركز الثقافي العربي، بيروت/ الدار البيضاء 1999. 13- تأنيث القصيدة والقارئ المختلف، المركز الثقافي العربي، بيروت/ الدار البيضاء 1999. 14- النقد الثقافي.