كثير هو ما قيل بأن الحرب الاطلسية الاخيرة على يوغوسلافيا قد دشنته. فالحرب تلك وصفت بأنها الأولى التي تخاض على أساس، وبوازع من دفاع عن القيم الانسانية، وبأنها الأولى التي تجري، من الجانب الغربي، بالوسائل التكنولوجية الجوية وحدها. وتبرهن على مدى فاعلية تلك الوسائل. فتؤسس بذلك لاعتمادها استراتيجية مستقبلية. كما ان تلك الحرب قد وُصفت بأنها الأولى التي يدخلها حلف الناتو في تاريخه هجوماً وهو الذي كان طوال الحرب الباردة دفاعي الوظيفة والعقيدة. وانها الأولى التي تجرى في القارة الأوروبية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وانها الأولى التي شهدت او واكبها توجيه التهمة الى رئيس دولة، هو ميلوشيفيتش، بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية، وهو لم يزل في منصبه... الى غير ذلك الكثير. وفي كل من النقاط المذكورة، او سواها، قدر من صحة، كبير او ضئيل، قد يجعل من الحرب الاخيرة على يوغوسلافيا فاتحة عهد جديد في الحياة الدولية. ولا شك في ان النقاط تلك ستكون، مجتمعة او منفصلة، في مستقبل الأيام موضوع دراسات وتحليلات واستنتاجات واستشرافات ونقاشات مستفيضة، تتأسس عليها سياسات الدول واستراتيجياتها. غير ان نقطة اساسية، غير ما سبقت الاشارة اليه، ربما استدعت التوقف عندها بالتخصيص. اذ هي تقع في اللب من كل ذلك. وهي تلك المتعلقة بالاحقية المعنوية التي استندت اليها بلدان حلف الناتو في قرارها مجابهة يوغوسلافيا والتي بدت لها من البديهية حتى انها ما كانت في نظرها محل سؤال. فقد كان شعور البلدان الغربية بأنها على حق في ما كانت تفعل حقيقياً ولم يكن مجرد فعل دعاية. ومهما كانت الاعتبارات التي حفزت بلدان الغرب على فعلها القتالي ذاك. ومهما كانت طبيعة تلك الاعتبارات، بحساب المصالح والمطامح من استراتيجية وسواها، الا ان ما لا شك فيه ان القوى الاطلسية قد كانت، وما زالت، على يقين بأنها خاضت ضد صربيا حرباً عادلة وقد جاء دخول القوات الدولية الى اقليم كوسوفو، وما اكتشفته من آثار الجرائم التي ارتكبتها قوات بلغراد في حق المدنيين الألبان مقابر جماعية، تدمير... ليزيد ذلك الشعور تمكناً وقوة. بل ان ما يلفت الانتباه وما يستوقف في ذلك الصدد ان تلك الاحقية المعنوية التي آنسها الغرب في نفسه وازعاً في إقدامه على محاربة ديكتاتور الصرب قد فرضت نفسها الى حد بعيد على صعيد كوني، بحيث جاء الاعتراض عليها، باسم القانون الدولي اساساً، متهافتاً ضعيف الحجة محدود التأثير. يكون من المبالغة في التبسيط القول بأن ذلك انما يعود الى القوة الاعلامية الضاربة للغرب، تلك التي مكنته من تغليب وجهة نظره، على ما لذلك العامل من اهمية بالغة فاعلة. اما نوعية القوى التي ناهضت الحرب على يوغوسلافيا، وهي في الغالب من مثيل روسيا ونظامها الفاسد العاجز، او الصين الاستبدادية، او اوساط اقصى اليمين الأوروبي، ناهيك عن شتى اصناف المتطرفين هنا وهناك في ارجاء العالم. فهي من ذلك القبيل المطعون فيه اصلاً على ذلك الصعيد الاخلاقي اقله اذا ما تعلق الأمر بالحقوق الانسانية وبحماية الاقليات. وهي على أية حال، لوعيها بذلك، قد ركزت انتقادها على ما اعتبرته تجاوزاً على الشرعية الدولية ومحافلها وأدواتها. يبقى اذن ان تحولاً اساسياً وخطيراً قد استجد مع الحرب الاطلسية الاخيرة ضد صربيا، هو ذلك المتمثل في ان الارجحية المعنوية قد انتقلت الى الغرب وان ميزان القوة في ذلك الصدد اصبح بوضوح يميل الى مصلحته. وذلك امر، وإن كان يتعذر قيامه بما تقاس به عادة مظاهر القوة المادية، من اقتصادية او عسكرية، يعد بعداً في السطوة التي اصبحت للغرب في شؤون العالم المعاصر بالغ الأهمية لا يستهان به. فهذه هي المرة الأولى، منذ الحرب العالمية الثانية وهزيمة النازية على أقل تقدير، التي يكون فيها الغرب الى جانب الحق وفي معسكر القيم، بوضوح وبجلاء لا يكادان ينازعان الا بصعوبة او بشكل لا يمكن الا ان يخالطه حرج كبير. بل ان تلك الغلبة المعنوية تفوق، هذه المرة، حتى ما كانت عليه الحال لدى مواجهة الهتلرية، حيث ما كانت القوى الغربية تحتكر آنذاك التصدي للهمجية النازية والانتصار عليها. بل كانت تشترك في ذلك مع الاتحاد السوفياتي، ذلك الذي خرج من تلك المواجهة مكللاً بالغار وحائزاً على سمعة تحررية عاش عليها ردحاً من الزمن، وساهمت في التستر لفترة على جرائم الستالينية. وبذلك تكون البلدان الغربية، وعلى رأسها الولاياتالمتحدة، قد حققت من وراء حربها ضد ميلوشيفيتش انتصاراً على صعيد المكانة المعنوية كان هو ابرز ما يعوزها في تاريخها القريب، سواء إبان الحقبة الاستعمارية او بعدها، حيث كانت دوماً، وبشكل شبه آلي، تقع على الضد وعلى النقيض من قيم التحرر ومن تطلعات الشعوب الضعيفة، تساند افظع الديكتاتوريات وتدعم أبشع مظاهر الاستبداد. حتى انه ليمكن القول، بالنسبة الى بلد مثل الولاياتالمتحدة، ان هذه الاخيرة ربما تجاوزت في كوسوفو، وفي ذلك المجال المعنوي بالتحديد، عقدة حرب فيتنام، تلك التي كانت قد تحولت في ذهن الرأي العالمي، بل والاميركي قبل سواه، انموذجاً ومثالاً للحرب العدوانية غير العادلة، تخاض، بأعتى ضروب الصلافة وبظلم سافر متعجرف، ضد شعب صغير محدود الامكانات، بطولي في اصراره على تحرره. وقد تكون الحرب اليوغوسلافية، بهذا المعنى، عبرت بأجلى صورة عن تطور طرأ على الديموقراطيات الغربية خلال السنوات الماضية فعزز محتواها القيمي وعمّقه، خصوصاً مع الجيل الحالي من قادتها من يمين او من يسار، ممن تربوا على مقت التجربة النازية وعلى الشعور بالعار تجاهها. وممن ترعرعوا سياسياً على التنديد بالحروب الاستعمارية، وبحرب فيتنام في المقام الأول، وعلى معاداة العنصرية والمنافحة في سبيل الحقوق المدنية. ذلك لا يعني، بطبيعة الحال، بأن الغرب قد اصبح قوة خير محض، لا هم له سوى الدفاع عن حقوق الانسان وحماية الاقليات المضطهدة. يرصد امكاناته الهائلة في سبيل الاضطلاع بالمهتمين تينك. وانه لن يرتكب بعد اليوم ظلماً او عدواناً. او ان مصالحه، وهي كبيرة كونية المدى، قد باتت تحتل منزلة ثانوية او نافلة في مشاغله. ذلك ما من شأن الاعتقاد به ان يكون عين السذاجة، بل عين الاجرام في حق الذات. كل ما هنالك ان مسألة القيم تلك ربما باتت تحتل في الذهن وفي الثقافة الغربيين مكانة لم يسبق لها ان بلغتها، او ان قاربتها، في ما مضى، وانها قد اصبحت بعداً اساسياً في تعاطي الغرب مع شؤون العالم كما في تعامل هذا الاخير معه. وتلك واقعة لا بد من الاقرار بها، والاقبال على استكناه تداعياتها، ومن ايجابيات او من سلبيات ومخاطر، وعدم الاكتفاء حيالها بما سهل دون ان يجدي من عقيم الرفض والانكار ومن رفع العقيرة بصيحات المؤامرة. ذلك ان تلك الاحقية المعنوية التي اصبح الغرب يأنسها في نفسه، وان باستعمال القوة في التعاطي مع ازمات العالم، وذلك الشعور بأن تلك الاحقية لا تنازع او تعسر مواجهتها بالدحض، ربما أدت الى ارساء سلطة على العالم ليست لها من مرجعية غير ذاتها، وليس لها من مسوغ سوى ذلك الاطمئنان الكامل الى ان الحق الى جانبها. وانها لا تمتلك فقط اقصى القوة بل وكذلك جهازاً من القيم تحتكره ويزين لها استخدام تلك القوة بحيث لا يكون لهذه الاخيرة من رادع سواه. وسوى ما يسمح به من تأويلات واجتهادات قد لا تكون دوماً منزهة عن كل غائية مصلحية. وقد جاء في الحرب اليوغوسلافية الاخيرة ما ينذر بكل ذلك. اذ ليس الاعتداد بالقوة وحده هو ما حدا ببلدان حلف الناتو الى تجاوز الشرعية الدولية وأطرها. والى الانفراد بمعالجة الازمة على النحو الذي فعلت، ان حرباً وان تفاوضاً، بحيث انحصر دور الأممالمتحدة في المصادقة على خطة لوقف القتال صيغت في معزل عنها، من قبل مجموعة الثمانية البلدان المصنعة السبعة زائد روسيا، بل ان داعي البلدان الاطلسية في ذلك السلوك انما كان يقينها بأن الصفة الديموقراطية لأنظمتها، وما يسمها من تفوق اخلاقي، يخولها صلاحيات تتخطى القانون الدولي، اذا ما كان هذا الاخير يمكّن بلداناً مثل روسياوالصين من عرقلة ما اعتزمته. وقد كان في المنحى الذي اتخذته الحرب على صربيا ما كرّس هذه النظرة الى الامور، طالما ان الحرب تلك قد مثلت خرقاً لما عرف ب"عقيدة بوش"، تلك القائلة بعدم الاقدام على أي عمل عسكري لا ينال تغطية صريحة من قبل مجلس الأمن، وتلك كانت قد حالت دون دخول جيش التحالف الى العراق في اثناء حرب الخليج الثانية. وفي تلك الاحقية المعنوية التي اصبح الغرب يمتلكها ويستند اليها في مقاربة الازمات الدولية وفي معالجتها ما يمثل مفارقة قد تتعارض مع الديموقراطية ذاتها في اسسها الأولى وفي قاعدتها الفلسفية. فإذا كان ارساء الديموقراطية في الغرب استقام بالأساس على انكار كل شرعية من ملكية او دينية او كاريزمية او سواها تتأسس عليها سيادة لا يضبطها ضابط من قانون، فإن استخدام الصفة الديموقراطية، على ما حدث إبان الحرب اليوغوسلافية وعلى ما قد يصبح سابقة قابلة للتكرار مستقبلاً، لادعاء صلاحيات وسلطات لا تعبأ بالتشريعات الدولية وبمؤسساتها، وكأن تلك الصفة هي في حد ذاتها منبع شرعية تتقدم على كل قانون، لهو مما يُحدث اخلالاً فادحاً بذلك المبدأ المؤسس للديموقراطية ومما يطرح إشكالاً نظرياً وفلسفياً، وبالتالي سياسياً عويصاً كثير المزالق. ثم ان تلك الاحقية المعنوية، وإن تزيّنت بأنبل القيم، لا يمكن بحال من الاحوال الاطمئنان اليها دوماً وفي كل الحالات، اذ ان ما لا يجب نسيانه ان شعور العالم الغربي، في القرن التاسع عشر، بأحقية مماثلة، ناتجة عن يقينه بأنه حامل لقيم التقدم والتطور والمدنية، هي بالتحديد ما كان من بين ما سوّغ به استعماره لشعوب الأرض واستلحاقها، وهي ما كان بمثابة التبرير الايديولوجي لفعل السيطرة ذاك، وليس ما يضمن عدم تكرار ظاهرة السيطرة تلك، وإن بأساليب اخرى ووفق آليات مغايرة. وعلى أية حال، فان في ذلك المستجد الأبرز المترتب عن الحرب اليوغوسلافية الاخيرة ما من شأنه ان يدعو الى التفكير والتأمل. اذ ان وضعاً دولياً جديداً بصدد النشوء لا ينفع في مواجهته، ولاتخاذ موقع قدم فيه. الانكفاء على تنديد وإدانة لا يكلفان النفس عناء السعي الى فهم ما يجري. ولعل اول ما يجب التفكير فيه هو ألا تُترك مسألة القيم الانسانية حكراً على الغرب وحده وان يصار الى سعي حثيث وجاد الى تملكها من خلال استحداث الديموقراطية، حتى لا نضيف الى ضعفنا المادي وهناً معنوياً قاتلاً. * كاتب تونسي.