وُلد جيلنا، ومصطفى مشهور على ابواب السجن او من سجن إلى سجن، وعشنا الطفولة والمراهقة وبداية الشباب ولم نلتق به إذ غيبته الزنازين، لكن مشهور كان له الأثر البالغ في جيل السبعينات. كنا سبعة شبان بعضنا تخرج او كاد من الجامعة نبحث عن طريق لخدمة الإسلام بعدما اصبحنا على أبواب الحياة العملية واتخذنا قرار العمل للدعوة الإسلامية وربط مصيرنا بهذا القرار الخطير، فطرقنا ابواب "الاخوان" الخارجين من السجون اقتناعاً منا بصواب منهجهم وسلامة طريقتهم بعدما رفضنا كل الاتجاهات الاخرى التي سارعت الى دعوتنا التكفير والهجرة والقطبيون والتوقف والتبين والجهاد.. إلخ. وانتهت محاولاتنا الى باب الحاج مصطفى مشهور كما كنا نحب تسميته الذي كان مكلفاً ملف الشباب او كما يحب تسميته "توريث الدعوة" بعدما مررنا بالاسكندرية ثم بكمال السنانيري وآخرين كانوا نزلاء عنبر المعتقلين في مستشفى القصر العيني الجامعي. واستقرت بنا الامور مع احد قيادات تنظيم 1965 الاقرب في السن إلينا وصحبته للمرة الاولى الى منزل الحاج في شارع "إسلام" المتفرع من شارع "البتر" في منطقة حمامات القبة شمال القاهرة، وهو المنزل الذي سكنه مشهور قبل اعتقاله وعاد اليه بعد الافراج عنه وظل فيه حتى تأثرت اساساته بزلزال تشرين الاول اكتوبر 1992، فانتقل منه الى منزل جديد قريب في شارع جسر السويس. كانت الملفات التي تناولها مصطفى مشهور بعد خروجه من السجن والاعتقال كثيرة ومتنوعة، اهمها واخطرها ثلاثة: اعادة البناء التنظيمي في مصر، وتوريث الدعوة للشباب، وبناء واحياء التنظيم الدولي للاخوان. ولم تتزامن المهمات اذ كان أهمها عقب الخروج من المعتقل في بداية السبعينات ولم شمل "الاخوان" من جديد. والظاهر ان المرشد الثاني حسن الهضيبي كلف لجنة من الاوفياء الثابتين من كوادر "النظام الخاص" الذين اخلصوا للدعوة ولم يتمردوا على القيادة بهذه المهمة، وكان من ابرزهم الحاج حسني عبد الباقي المليحي من اعيان الجيزة والدكتور احمد الملط الجراح الشهير في القاهرة كمال السنانيري صهرا آل قطب في القاهرة والحاج مصطفى مشهور في القاهرة، ومعهم الحاج أحمد حسنين، ويعاونهم كثيرون في المحافظات ويسترشدون بأعضاء مكتب الارشاد وعلى رأسهم عمر التلمساني والسيد محمد حامد ابو النصر. وهنا تجلت قدرات مشهور في جانبين مهمين هما: البناء الفكري وتوضيح مفاهيم الجماعة، خصوصاً بعد الالتباس الذي حدث حول قضية "التكفير والهجرة" وصدور البحث الذي اعد داخل السجن في كتاب "دعاة لا قضاة". وكان الباب الثابت الذي يكتبه في مجلة "الدعوة" التي صدرت في منتصف السبعينات، ثم "لواء الإسلام" طوال الثمانينات بعد توقف "الدعوة" يدور حول قضايا الدعوة والتربية والتنظيم وكان محل اهتمام الاخوان وعنايتهم، يتدارسونه في اسرهم وكتائبهم ولقاءاتهم، بجانب الافتتاحية التي كان يتناول فيها عمر التلمساني القضايا العامة السياسية والدعوية. اما الجانب الاخر فكان يتعلق بالبناء التنظيمي الاداري وتجلت قدرات مشهور فيه، إذ كان ذا مكانة تؤهله لجمع الشمل وذا قلب كبير يجمع الناس حوله، وصاحب قدرة على الاقناع والوصول الى الحلول الوسط التي تجعل الزمن جزءاً من العلاج كما كان يردد دائماً. وربما لا يقل دور مصطفى مشهور في إعادة بناء جماعة "الاخوان" اهمية عن دور الامام الشهيد حسن البنا في تأسيسها، فلم أر شخصاً استطاع ان يجوب مدن مصر وقراها بل بلاد العالم المختلفة مثل مشهور. وفي احدى المرات لم اجد وسيلة للانتقال الى موعد مضروب لنا، وكان عليّ اصطحابه فركب بكل تواضع خلفي على دراجة نارية كنت اقتنيتها عقب تخرجي مباشرة، من دون تململ وهو في سن فوق الستين. وصحبته في اول رحلة معه إلى الخارج الى فرنسا عام 1981 وكانت عقب احداث منطقة الزاوية الحمراء شمال القاهرة والمعروفة بالفتنة الطائفية، وكنت حضرت لقاء وزير الداخلية آنذاك النبوي اسماعيل مع قيادات العمل الإسلامي ممثلاً الشباب الجامعات مع المرحوم عمر التلمساني، وصادف ان كان في حقيبتي اوراق ومنشورات تتعلق بالحدث الخطير الذي نجحنا في وأد فتنته واطفاء النار التي كادت تحرق القاهرة عبر مؤتمرات ولقاءات وبيانات ومنشورات للتهدئة. وعند التفتيش عثر ضابط الامن على تلك الاوراق، فحجزني وأنا بصحبته معاً. وتأخرت الطائرة لمدة ساعة ونصف الساعة عن موعد الاقلاع حتى يجري الضابط اتصالاته بالوزارة ويعود معتذراً ومودعاً. ولم يكن منه لي لوم ولا عتاب فضلاً عن التقريع او التوبيخ، واكتفى بالقول إنه درسٌ عملي بعدم حمل مثل هذه الاوراق التي تثير ريبة السلطات خصوصاً عند السفر والتعرض للتفتيش. وفي سفري معه كنت اتعب من كثرة اللقاءات والمواعيد ولا يتعب هو، فأتركه مع زواره واخوانه الى قبيل الفجر ليرتاح قليلاً جداً ثم يكون هو أول المستيقظين بعد ساعات نوم قليلة جداً ليصلي ركعات عدة قبل أن يؤذن للفجر. وقد كانت ذاكرته جيدة حتى شهور قليلة قبل مرضه الاخير. وإذا كان ساهم في عملية البناء الداخلي للاخوان في مصر آخرون بجانب مشهور الا ان دوره الرئيسي كان في التعامل مع ملف الشباب، وكما ذكرت كانت كل الطرق والابواب التي نطرقها تؤدي في النهاية الى جلسة مع الحاج مصطفى مشهور الذي استطاع ان يستوعب هذه الجموع التي تأثرت خلال السبعينات بأفكار شتى ونزعت منازع مختلفة، فيؤلف بين قلوبها ويوحد صفوفها ويتبنى منها لبنات صالحة لتتربى في محاضن الدعوة المختلفة، حتى وصلت الآن الى تولي مسؤوليات كبيرة في هيئات الجماعة وصولاً الى المواقع القيادية. لذلك كانت مكانته بين الشباب كبيرة، وكانوا يعرفونه اكثر من بقية القيادات وحتى لا يسبب ذلك حساسية لدى المرشدين اللذين سبقاه. كان يحرص دائماً على ان يُعرّف الشباب على عمر التلمساني. وانتقل بعد ذلك بمكتبه الى غرفة المرشد الرابع محمد حامد ابو النصر، وهما من جانبهما كانا لا يحسمان امراً يتعلق بالاجيال الشابة الا في وجوده او بمعرفته. وحضرت معه عشرات اللقاءات لمتابعة انشطة الجامعات فكان الى جانب تواضعه حريصاً على الاستماع لرأي الشباب وتعويدهم على الشورى وإبداء ملاحظاتهم بل واستنطاقهم احياناً وينزل على آرائهم ويستجيب لحماستهم وهو الشيخ الوقور. عندما ظهرت بوادر وارهاصات احداث ايلول سبتمبر 1981 كُلّف مشهور الترقب والانتظار في الخارج وعدم الاسراع بالعودة حتى تتكشف الامور. ومن تداعيات الاحداث عاش المرشد الخامس نحو خمس سنوات متنقلاً في اوروبا والكويت واميركا فكانت فرصة كبيرة لتوثيق الروابط واعادة تأهيل "الاخوان" في الخارج، وتنظيم صفوفهم. وهو جال على معظم دول اوروبا وولايات اميركا محاضراً ومربياً ومنظماً ومديراً مما قوى الروابط بين "الاخوان" من مختلف الاقطار، فكان له دور لا ينكر في اقامة هذا البنيان الذي يفخر به "الاخوان" وينتشر في اكثر من 60 قطراً. وعاد مشهور الى القاهرة عقب مرض الموت الذي ألم بالتلمساني، وكان هو المرشح الابرز لخلافته، ومع ذلك استجاب لنصح اخوانه بأن يبقى الرجل الثاني وان يتولى موقع الارشاد السيد محمد حامد أبو النصر الذي اتى من وسط الصعيد وقضى 20 عاماً متصلة في السجون وكان عضواً في مكتب ارشاد الجماعة مع حسن البنا والهضيبي. تولى مشهور منصب الارشاد في نهاية حياته لمدة ست سنوات وشهور عدة، وللاسف الشديد لاكت بعض الالسنة كيفية توليه المنصب، في ما سموه "بيعة المقابر" وشككوا في صحة الاجراءات التي اتخذت. لكن الرجل كان وظل زاهداً في المنصب على رغم تأهله له من سنوات، والاجراءات تم اتخاذها بصورة سليمة، والاخوان في العالم كله بايعوه مرشداً لهم، والظروف التي صاحبت توليه الموقع كانت من أصعب الظروف اذ عادت المحاكم العسكرية لتطاول "الاخوان" من جديد وكنت من اول ضحاياها، وخيرة الاخوان غُيبوا خلف الاسوار ولم تكن الامور تكشفت بعد. وكان اجتهاد البعض ان يُعلن للجميع ان جماعة الاخوان باقية وانه إذا غيب الموت مرشداً فإن المرشد الجديد قادر على قيادة دفة الجماعة وسط الانواء والاعاصير، فكانت البيعة العامة له على قبر المرشدين السابقين. * نائب سابق في البرلمان المصري عن جماعة "الاخوان المسلمين".