احدث تقرير التنمية الانسانية العربية الاول تموجات ملموسة في بحيرة الفكر العربي الصاخبة اصلا، وترددت اصداء نتائجه ومقترحاته بين وديان كثيرة. ولم تكن تلك التموجات سواء في قوتها، ولا تلك الاصداء اشياه في انصافها لمنطوق التقرير ودلالاته. ومهما تباينت الآراء حول التقرير انصافا او عسفا، تأييدا او رفضا، فقد كانت في محصلتها تحقيقاً لاحد تطلعاته. فالتقرير لم يصدر حتى يبيت في رفوف المكتبات، او يتسلل خفية الى اذهان الناس، بل توخى ابتداء نقاشاً حيوياً وفعالاً حوله. فبادئ ذي بدء، لم يعتبر التقرير نفسه خاتمة التاريخ التنموي العربي، بل اقر في ثناياه تضمينا وتصريحا انه لن يتوقع من كل الناس ان يروا رأيه وان يذهبوا مذهبه. كما ان من وضع التقرير ومن رعاه وان رأوا فيه عملاً خلاقاً ومبدعا لكنه جهد قمين بالمحاولة والتشذيب. فالعصمة لم تكن من بين ادعاءاته والكمال لم يكن من بين مزاعمه. وقد اخفق من بحث عنهما، او زعمهما له. وليس لدي ريب ان جميع من ساهموا في اخراج التقرير وضعا واستشارة ورعاية قد اسعدهم توالي النقاش حول مسلماته، وتواصل الجدل حول مآلاته. فشأن التقرير هو اطلاق الطاقات الخلاقة للعرب من خلال انفاذ رؤيته، وانى له ان يصل ذلك ان لم يقتله الجميع بحثا واستقصاء. وكيف لصانع القرار ان يستيقظ على ضرورات التغيير ان لم يسمع هدير الناس حول اوانه وان لم ينصت الى دوي الناس حول شدة الحافه. ولم نر احدا غابت عن باله ضرورات التحول من الحال التي يجد العرب انفسهم فيها الى الوضع الذي يجدر ان يكونوا فيه، مهما اختلفت الآراء حول طرقه او تباينت حول مراميه. ولقد وجدت ان الانصاف يستدعي ان ادلي برأيي حول قضايا شذ البحث فيها عن جادة الصواب على رغم جديتها. ولست متعرضا هنا لمن قاده الظن الى مساءلة بواعث التقرير، ومن دفعه الريب الى الربط بينه وبين الحديث الغربي عن التغيير في المنطقة. فهذا لا يستحق التوقف عنده كثيرا لأمرين. الاول، ان منطق التسليم به سيقود الى وقف كل الحديث عن التغيير. وهناك مصالح ضالعة تتوق الى ذلك. فهي تقول كيف نتحدث عن الاصلاح والخطر ماثل على الابواب. ولقد كشف التاريخ الانساني، بل التاريخ العربي الاسلامي، خطل ذلك القول. فحتى الحرب لم تعطل الناس عن زراعتهم او صناعتهم. كما لم تعطل المعارك العسكرية المسلمين عن صلاتهم، فلم يراد لضجيج الآخرين عن التغيير ان يعطل مسعانا لإصلاح امرنا واحوالنا؟ ولو نظر من يرون الاخطار على الابواب مليا في اسباب تكالبها لوجدوا ان كثيرا منها ينبع من قصورنا الذي يجعلنا اكثر عرضة لها. فالداء لا يستطيع التمكن من الاجساد الصحيحة لكنه سريع الانقضاض على العليلة. واذا كنا نقر اننا خسرنا وما زلنا نخسر جل معاركنا الاقتصادية والسياسية والعسكرية، الم ينن الاوان لان نستبدل لأمتنا قبل ان نخوض معاركنا المقبلة؟ الثاني، ان الجدال حولها كمبارزة طواحين الهواء. وهو نوع من العدالة شبيه بما تطلبه الادارة الاميركية من بعضنا اثبات براءته وخلوه مما ينسب اليه من تهم. فهذا امر مستحيل. وما اردت ان اتعرض له ذلكم النقد الذي ارهق التقرير تقويلا له بما لم يقله، او تحميلا له بما لم ينوء به. وبدءا، فقد قيل الكثير حول التشاؤم او العدمية او اليأس الذي شاب التقرير، بل ان صديقنا د. رياض طيارة جعل التشاؤم فلسفة للتقرير! فكيف يمكن بسط هذا الزعم امام الأنظار وكل ما في التقرير ناطق بخلافه! والناظر في التقرير يرى انه تشخيص لما هو حاصل في ارض التنمية العربية، كما انه تعيين لمخارج مغادرتها الى حيث يليق بهذه الأمة الكريمة. وصعب ان يطلق على ما مضى وما حضر تشاؤم او تفاؤل، فهو تقرير لما هو حاصل قد نرضى عنه او نسخط عليه. غير ان الرأي في فرص استمرار الاوضاع على حالها خيرا كانت ام وبالا، او امكانية الابحار منها الى شواطئ اثرى وارحب قد يكون متشائما او متفائلا. وفي هذا النطاق يبدو تفاؤل التقرير وهاجاً باعثاً على الامل. فهو يؤكد ان المنطقة العربية لم تزج في معركة التنمية بكامل قواها ومجموع قدراتها، فقد حبس الكثير منها في زنزانات الجهل والخوف، فإن فتحت هذه الزنازين فالارض رحبة امامها لاجتراح المعجزات. فالتقرير لم يقل ان التنمية العربية قد بلغت مأزقها لانها على رغم حشد المنطقة لكل طاقاتها في مسيرة عمرانها فإنها لم تحصد الا تلك النتائج الضئيلة. لو قال ذلك فعلا لكان ذلك هو التشاؤم بعينه. لكن ما يصرخ به التقرير هو الامل. فهو يقول لنا طريق التقدم مفتوح ووسائل الوصول اليه متاحة فاستخدموها. هذا ما يقوله بالاجمال، لكن ما يقوله بالتخصيص والبيان اكثر وضوحا بالتفاؤل. فهو يرى ان المنطقة حتى حينما استخدمت بعض قدراتها حققت انجازات مشهود لها في ميادين الصحة والتعليم. لكن هذه الانجازات ليست كافية سواء من حيث مسافة ما قطعته كي تجاري بلدان العالم في ما بلغوه، ام من حيث ما يمكن ان تبلغه في ما لو زجت بكامل طاقاتها في مسعاها التنموي، ام من حيث ان من حق كل الطاقات ان تشارك في عملية التنمية. فهل سيكون التقرير متفائلا لو لم يصدق اهله القول، واكد على الانجازات المتحققة كأنها نهاية طريق التنمية؟ اليس حينذاك سيكون ذلك هو التشاؤم بعينه حينما يقول هذا كل ما لدى المنطقة العربية من قدرة على الفعل؟ لقد كان التقرير متفائلا حقاً، حينما قال للمنطقة انها، في ضوء قدراتها، تستطيع ان تفعل افضل. ويؤتى من اجل تثبيت صفة التشاؤم ببعض الأمثلة الجزئية مثل موضوع مقياس الحرية أو عدد الكتب المترجمة، أو برنامج التعليم، وهي أمثلة حتى لو قبلنا ببعض ما يوجه اليها من نقد فهي لا علاقة لها بالتشاؤم او التفاؤل. فاللجوء الى مقياس الحرية على رغممما يشوبه من نواقص اجبر عليه غياب المقاييس الافضل. ونحن نعرف ان المقاييس في تطور دائم بالتحسين عموماً كلما تحسنت أساليب جمع المعلوؤمات وتطورات المعرفة المنهجية، لكن غياب المقاييس المثلى لم يمنع استخدام المقاييس المتاحة. ويمكن المحاجة انه ليس بالامكان تطوير المقاييس الا باستخدامها الذي يسمح بالتعرف على امكاناتها ومناسبتها وثغراتها. وقد كان يمكن للحكومات ان تغنينا عن الرهق الذي يصيبنا ونحن نبحث عن ملامح الحرية في منطقتنا لو انها تُعلمنا دوريا عن عدد السجناء السياسيين في سجونها، ثم ان التقرير لم يستخدم مؤشر الحرية للمقارنة بين بلد وآخر وانما استخدمه للمقارنة بين منطقة واخرى. وسبب ذلك ادراك واضعي التقرير ان قصر استعماله على الحالة الثانية يقلل من حدة عيوبه. كذلك الأمر بالنسبة لناتج التعليم، فقلة الدراسات ليست مانعا من استخدامها، بل ان قلتها تعبير جلي عن الواقع. وليس من المتوقع ان لا ينظر في الامر الا حتى يبلغ حجم الدراسات مبلغا يرضى عنه البعض. ولكن اخذ العبر حول ناتج التعليم وان كانت قرينته المباشرة قليلة، لكن القرائن الاخرى حول الانفاق على التعليم ونسب التسجيل والتسرب والأمية وغير ذلك يمكن ان تعطي دلالات واضحة الاتجاه. كذلك الامر بالنسبة لمسألة عدد الكتب المترجمة التي اريد اضفاء دلالة اخرى عليها. ولا يمكن فهم دلالة هذه المسألة الا اذا وضعت في سياقها الصحيح فقلة عدد الكتب المترجمة تحصل في منطقة تسجن الامية فيها نصف مواطنيها بينما النصف الآخر معظمه بالكاد انهى التعليم الاساسي، فكيف لنا ان نفسر ان قلتها يمكن ان تعود الى تفضيل المتعلمين قراءة الكتب بلغتها الاصلية! وهذا الافتراض لا ينطبق حتى على البلدان التي تغيب فيها الأمية الا اذا افترضنا ان على الناس ان تقرأ الكتب التي مصدرها لغة واحدة، اذ ان معظم من يتعلمون اللغات الاجنبية يتقنون لغة اجنبية واحدة، الانكليزية غالبا. واهمية الكتب المترجمة ان معظم الابداع العلمي يقع خارج المنطقة العربية فكيف يمكن تعميمه ان لم تترجم كتبه، ام هل المراد ان تحصر المعرفة بالنخبة القليلة التي تتقن اللغة الاجنبية! فعدد الكتب المترجمة في بلد لا يعني ان افراده اقل دراية باللغة من افراد البلد الذي يترجم كتبا اقل، كما ان الذي يقرأ الكتاب باللغة الاصلية ليس اقل ثقافة من الذي يقرأه مترجما. فليس هذا منطوق الكلام ولا دلالاته. ولكن بالتأكيد الذي لا يقرأ الكتاب بلغته الاصلية او مترجما لا يمكن ان يكون حائزا على مستوى من الثقافة يكافئ من يستطيع احد الامرين او كلاهما. هذا هو جوهر المشكلة ان المنطقة ليست مولدة لانواع كثيرة من المعرفة العلمية، وتطغى فيها الأمية، ولا تترجم فيها الكتب، وقلة نادرة من افرادها تتقن لغة واحدة فكيف يمكن اعتبار مستوى معرفتها العلمية؟ ولكن ما يثير الغرابة حقا القول عن التقرير انه تقرير ناشطين وليس تقرير باحثين علميين واجبهم اعطاء فكرة غير منحازة. فهذا قول تحاملي واصطناعي. فهو تحاملي لانه يشي بالحط من قدر الناشطين لانه يجردهم من صدق القول ولانه في الوقت نفسه يغمط حق باحثين مؤهلين في مضمار عملهم بالايحاء انهم تساهلوا في واجهم العلمي دعما لتحيزهم السياسي. وهو اصطناعي لانه يقسم الانسان الى حجرات مغلقة بمفاتيح، حجرة للعلم واخرى للتحيز وثالثة للسياسة وهكذا. فهو مثلا، حين يريد ان يمارس نشاطاً سياسياً يفتح حجرة السياسة ومعها حجرة التحيز ويغلق الباقيات. وكأن العالم حين يبحث لا ينطلق ابتداء من مقولات ولا تحكمه طوال بحثه رؤية، وكأنه يطل على العالم باهتاً لا لون له ولا طعم كالماء النقي. فهذه نظرة قد عفا عليها الزمن، وليست الا زعما يأتيه الباطل من كل جوانبه. فالعالم الحقيقي هو الذي يعلن اين يقف وكيف ينظر، لان الزعم خلاف ذلك سذاجة وخطر على البحث العلمي. فكل فرد يحمل نافذته على العالم معه اينما حل وذهب وسواء كان واعيا عليها ام غير واع. لكن الوعي على ذلك يجعل العالم الصادق فاحصا لكل ما يصل اليه من رأي او استنتاج مغبة ان يكون تحيزه قد تسرب الى عمله فأخل به. اما المقنتع بأنه طاهر من كل تحيز فلن يكون لديه الباعث كي يتملى في هذا المر. فالصدق في البحث ليس بالتخلي الظاهري عن منطلقات الباحث الفكرية، وانما الامانة في التعامل مع البيانات والحقائق والوقائع. بل حتى هذه الامانة محدودة حتى مع الحرص العظيم عليها. لان كل باحث يواجه بمشكلة الكم الهائل من الحقائق فكيف يختار من بينها، وأي ميزان للماس يملك حتى يكون اختياره بتلك الدقة. كما ان الناشط الذي ينذر نفسه للصالح العام لا يمكن ان يتخلى عن مذهب الصدق فيما يقول للناس. فالفرق بينهما حينما يكون الصدق رائدهما ان الاول يضع جل وقته في خدمة القضايا الانسانية مستفيدا من البحث العلمي، اما الثاني، فيصرف وقته في البحث العلمي غير متناسي انه يطل عليه من نافذة لها لون محدد. وتبقى هناك اشكالية استعمال المؤشرات. ولكن لا بد ان نزيل ابتداء غموضا حول ما قاله صديقي د. رياض طبارة حول استخدام مؤشر التنمية الانسانية بدل مؤشر التنمية البشرية الذي اعتمده برنامج الاممالمتحدة عام 1990 وليس عام 1991 في التقرير قول غير دقيق. فمؤشر التنمية الانسانية الذي اقترحه د. نادر فرجاني شخصياً بقي محصوراً في الاطار الذي جاء باسمه، ولم يستخدم في سياق التقرير العام. وقد حرص د. نادر فرجاني في اطاره على القول انه يفعل ذلك اجتهادا منه وكتحليل استطلاعي، فليس هناك زعم بأن مؤشر التنمية الانسانية المستحدث هو الحل النهائي لما يشوب المؤشر الاصلي من عيوب. ولقد حرصت ثقافتنا العربية على ان تعطي للمجتهد ان اصاب آخرين، وان اخطأ اجراً واحداً، فما بالنا ننحاز على الاصيل في هذه الثقافة! وهذا يقودنا الى جوهر المؤشرات، فهي كما يعرف من له متابعة في هذا المجال انها تخضع لعملية ابتكار متواصلة، بعض الابتكارات يحسن ما سبقها، وبعضها قد يخرج الى النور ليأفل بسرعة لا لعيب فيه بل قد يكون احيانا لخلل في مؤسسات جمع البيانات وطرق تبويبها وفي الفلسفة الاقتصادية السائدة. ولطالما وجهت الانتقادات المستنيرة لمؤشر الناتج القومي للفرد، لكن بمجرد ان القى مؤشر التنمية الانسانية جانبا مؤشر الدخل منه اصبح الحرص عليه شديدا. ويكون السؤال "اليس التمكن من السلع والخدمات ضروريا لمزاولة الحرية؟ هل يستطيع الفقير ان يتمتع بالحرية كالغني؟ غير وارد. لان الاستغناء ليس عن السلع والخدمات وانما عن المقياس الذي يفترض انه يقيسهما اي متغير الدخل. فهل سيغني الفقير حقا اضافة دخله الى دخل بيل غيتس وقسمتهما حسابيا. الن يشوش هذا المؤشر مستويات التنمية الانسانية حقاً. ثم انه لا تجرى الاستعاضة عن هذا المؤشر بمؤشر الحرية وانما باعتبار كل القدرات الانسانية ومنها الحرية. فمتوسط الدخل يضلل المرء اكثر حينما يقال له ان متوسط دخله كذا وهو في الحقيقة اقل بكثير، ولكن مؤشرات التعليم ومؤشرات العمر المتوقع وتمكين النوع والوصول الى الانترنت والحرية كلها وربما مستقبلا مع غيرها توفر مقاربة افضل لصورة الواقع. ولهذا فإن ما اريد به قدحا حين اقتبس قول التقرير بأن "النظام الحسابي للتنمية الانسانية هو الذي يرسم الصورة الكاملة، وليس مؤشر التنمية البشرية" لهو فضيلة لانه يقول ان حملة البيانات والاحصاءات عن مختلف جوانب التنمية البشرية التي يعرضها التقرير في ثنايا فصوله وجداوله افضل تعبير عن مفهوم التنمية البشرية. بينما مؤشر التنمية البشرية يحيط بجزء منها وهو ما تعبر عنه مقولة التقرير بقصور مؤشر التنمية البشرية مقارنة مع مفهوم التنمية البشرية الشامل ونظامها الحسابي. وهذا يعكس ايضاً رأي الاستاذ امارتياسن احد المساهمين الاصليين في صياغة مفهوم التنمية البشرية وتطوير مقاييسها وادلتها. كما ان هناك مقولة نجد لها صدى عند عدد من المعلقين وهي ان بعضهم في الغرب انتهز فرصة صدور التقرير ليجعله مدرجته الى تفسير ما يسمونه "الارهاب المسلم والعربي"، وللتحريض على تغيير خريطة المنطقة السياسية والاجتماعية والثقافية. ومثل هذا القول دفن للرؤوس في الرمال، فكأن عوراتنا لم تكن مكشوفة حتى ابانها التقرير. كما في هذا القول سذاجة، فلو نظرنا في تلك المقالات المعنية ونسبناها فقط الى مقالات التوصيف للمنطقة والتحريض عليها منذ احداث الحادي عشر من ايلول سبتمبر لوجدنا انها قطرات في محيط. ولا يوجد احد من اهل الاستنار الذين يعرفون الولاياتالمتحدة ويتابعون اخبارها، كالدكتور رياض، الا ويدرك ان هذه الجماعات التي تتابع اخبارنا قد سطرت صحفا بذرائع التدخل ومبررات التسلط. ثم ان هذا القول تعطيل لمسار التغيير اكثر منه تجنبا لهيمنة الاغيار. بل ان الباعث على التغيير وحث الخطى نحوه ينبغي ان يكون اعظم. فإذا كان التغيير مطلوبا من الخارج لاستغلال ضعفنا لفرض خريطة لا تنسجم مع مصالح الجماهير، فلنعمل على ايهانه بالمبادرة بالتغيير لتحويل اوضاعنا الى مصادر قوة تمتنع على ما يريده الآخرون بنا. كما انني اربأ ببعض من احترم ما كتبوه تعريضا بمن يعتبرونهم مرموقين باتهامهم بممارسة الارهاب الفكري، وانهم دخلوا في جوقة الشاتمين. فهؤلاء المرموقين اعملوا الفكر في البينات، ووزنوا الحجج ولم يتعرضوا للنيات او يبحثوا في المقاصد الذي يمكن ان نشتمه من بعض النقد للمشاركين في التقرير وضعاً ولمستشارة ورعاية. فضعف الدولة في المنطقة العربية اغراء للخارج بالتدخل. وينبع هذا الضعف من كون الدولة تفتقد الى الحكم الصالح الذي يشكل مرآة لسلطة تمثل الناس حقيقة، وقضاء يطمئن الناس الى احكامه، وقانون ينعم الناس في ظله، وادارة عامة كفؤة تسهر على مصالح الناس لا مصالحها. وغياب هذا يشرخ شرعية الدولة شرخاً كبيراً، لان في ظلالها يترعرع الفساد، ويتعاظم الاضطراب السياسي، ويلجأ الناس الى كل المؤسسات لحل مشاكلهم الا مؤسسات الدولة. وحينما يطغى ذلك يكون ابتزاز الدولة من الخارج اسهل، والتدخل في شؤونها اهون. فالدولة اصبحت بحالها هذه سدا امام التغيير في كل اوجه الحياة الاخرى. ولن يصل بنا اعتراض البعض الا الى مأزق خطير. فالتغيير ضروري في رأيهم، لكن الحديث عنه يغري الخارج بالحديث عن التغيير. ولا يقود هذا القول الا الى تجميد الحديث الداخلي عن التغيير، لكنه لن يغير الخارجي لان بواعثهم مختلفة. اليس الافضل حينذاك ان نعجل المبادرة الداخلية قبل ان تبادجئنا الخارجية؟ فالتقرير يريد ان يبدأ دورة حميدة بتعزيز الحكم الصالح الذي ينزل الفساد من طغيانه ليحصره في استثنانئيته، ويعيد الجماهير الى احضان مؤسسات الدولة، ويضرب جذور الاستقرار السياسي في ارض الدولة. حينذاك تعود الشرعية، التي تقوي دورتها الداخلية وتحميها من تأسد الخارج عليها. وهذا شأن التقرير في الدورات الحميدة الاخرى فتمكين الانسان من القدرات التعليمية والصحية تمكين له من الدخل الافضل الذي يعظم فرصه في التعليم والصحة. كما ان تمكين المجتمع باستخدام كامل قدراته وتمكينها علمياً ومعرفياً وسياسياً يقود الى تعظيم الثروة المستدامة التي تضاعف قدراته على الاستثمار لتحسين قدرات المجتمع من جديد، كي تبقى الدورة الحميدة دائرة في حركة متواصلة الارتقاء. فما يحض عليه التقرير عود الى حق طبيعي للناس وذريعة يكمن فيها تعزيز التنمية الانسانية، اي دولة الحكم والمال بين الناس. * كاتب ومفكر عربي.