أن يحدث أكثر من 60 انفجاراً داخل مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين في جنوبلبنان، في بقعة لا تتجاوز كيلومتراً مربعاً واحداً، وفي أقل من شهرين، أمر ليس بالبسيط. وكان يفترض ان يثير لدى السلطة اللبنانية، التي تراهن على الاستقرار بعد مؤتمر باريس -2 لتنشيط الاقتصاد وجذب الاستثمارات، سؤالاً، اقله عن إزعاج اصوات الانفجارات لسكان المخيم وجواره، إذا لم يكن متاحاً السؤال عن مبررات استمرار وجود "جزيرة امنية" متمتعة بحكم ذاتي تتنازعه فصائل وجماعات بعضها معروف الوجوه، وبعضها الآخر نزيل الظل ونظير الظلام. يكاد مخيم عين الحلوة ان يتحول اسطورة امنية او لغزاً عصياً لشدة ما يتوالى فيه من حوادث، بعضها مفهوم، ومعظمها لا تريد السلطة اللبنانية اظهاره خشية مطالبتها بوضع حد للمسخرة المستمرة منذ اكثر من عقد من الزمن. فلا احد حتى الآن، بين اهل السلطة والمدافعين عن توجهاتها، أقنع احداً بأن المخيم يستطيع بقراره الذاتي البقاء خارج الأمن الشرعي مؤمِّناً ملجأ للمجرمين والمتطرفين، وضارباً عرض الحائط بحق سكانه غير المسلحين في حياة طبيعية. فالدولة اللبنانية، مدعومة من سورية، تستطيع حتماً ومن دون اراقة دماء، دخول المخيم وإعادة السلطة الشرعية الى أرجائه، اسوة بما فعلت في مخيمات بيروت والشمال والبقاع. فلا الموازين العسكرية، ولا السياسية تمنعها من ذلك. لكن مشكلة المخيم انه رهينة الأوهام والعناد المجاني وعدم اقرار الفلسطينيين والدولة اللبنانية على السواء بلا جدوى استمراره على هذا المنوال. فوظيفته "الثورية" تقلصت تدريجاً منذ الاجتياح الإسرائيلي للبنان، ثم بُعيد اتفاق الطائف. وانتهت حُكماً مع توقيع اتفاق اوسلو، وانعدم مبرر السلاح الفلسطيني منذ تحرير الجنوب ورسم الخط الأزرق برعاية الأممالمتحدة. وإذا كان غير مفهوم ماذا سيحقق الفلسطينيون من استمرار "سلطتهم" في المخيم باستثناء الاحتفاظ ببؤر تذكّر بعهد بائد وتعرّضُهم لشتى الاتهامات وتجمّع اللبنانيين ضدهم بأشكال عنصرية احياناً، فإن السلطة اللبنانية تعتقد خطأ أن ورقة المخيم يمكن لعبها في اطار مفاوضات السلام، وأن المسلحين الفلسطينيين يمكن ان يثيروا امام المجتمع الدولي وفي شكل متفجر مسألة العودة إذا تم تجاهلها، وبالتالي يمكن، من خلالهم، طرح موضوع التوطين ومخاطره. بيد ان السلطة نفسها تتناسى ان الورقة جرّبت بعد تحرير الجنوب وتبين هزالها مثلما تبين ان اللجوء اليها ممنوع. والمؤسف ان الإصرار على الاعتقاد نفسه لا ينتج إلا الضرر على الطرفين. فالفلسطينيون الذين يشكون تجاهل مطالبهم المدنية وحقهم في توفير الحد الأدنى من مقومات العيش والعمل، يتسببون من خلال تشبثهم ب"دويلة" عين الحلوة وبغابة السلاح الفوضوي فيها، في استمرار معاناة اهل المخيم. والدولة التي تتجاهل الوضع الشاذ وتحاصر المخيم، متسببة بتفاقم ظروفه الإنسانية، تضع نفسها في موضع الاتهام وتفقد صدقيتها بسبب امتناعها عن عمل جدي يعيد سلطتها على هذه الأرض اللبنانية. منذ جريمة مقتل القضاة الأربعة في مدينة صيدا قبل سنوات وفرار المرتكبين الى المخيم، الى لجوء "جماعة الضنية" الأصولية إليه، وصولاً الى مقتل العسكريين اللبنانيين الثلاثة قبل اشهر فيه على يد "ابو عبيدة"، الى الأنباء عن توفير ملجأ لبعض عناصر "القاعدة"، اضافة الى عشرات الانفجارات، تحولت "ورقة" المخيم الى "ورقة" ضد صورة الدولة اللبنانية تُفقدها هيبة امنية، هي كل رصيدها تقريباً، بعدما استنزفت سائر مقومات الهيبة في الهدر والفساد وتقزيم الحياة السياسية وتشويه المؤسسات. فإذا أضيف الى انفجارات المخيم وأوضاعه مقتل الممرضة الأميركية في صيدا غير بعيد منه، والعرض العسكري ل"حزب الله" في مدينة النبطية الجنوبية ايضاً، انتهاء بتدشين الخصخصة بفضيحة "الخلوي" التي يخشى ان تكون اضاعت حق الدولة الغارقة في الديون في تحصيل مئات ملايين الدولارات، اكتملت الصورة الوردية التي يطلب من اللبنانيين امتداحها ليل نهار، وإلا وقعوا في المحظور واتهموا بتنفير المستثمرين والتشكيك في دولتهم ومؤسساتهم وهيبتها، وفي وطنهم، وفي عروبتهم خصوصاً، خيمتهم الكبرى، بل مخيمهم الكبير.