استطاعت صبية مصرية لا يتجاوز سنها 15 عاماً ما لم تستطعه القنوات التلفزيونية العربية، والأرجح ان القناة التي تخطط الدول العربية لإنشائها من اجل ايصال صوت العرب الى العالم، لن تحقق ما اجترحه كتاب الصغيرة رندة غازي سلامة. صدر الكتاب أولاً بالايطالية ثم بالفرنسية، وبيع منه أربعة عشر ألف نسخة حتى الآن في ثلاث طبعات لأنه، بكل بساطة عمل صادق، شفاف، بريء، ولذلك لقي تجاوباً واسعاً أزعج اسرائيل فتعبأت المراكز الصهيونية في أوروبا لملاحقته ومحاصرته وطلبت سحبه من الأسواق. مع ذلك تُرجم كتاب "حالم بفلسطين" الى الاسبانية والألمانية والنروجية... وعلى الطريق طبعات أخرى بالانكليزية والعربية والعبرية. لا يتجاوز حجم الكتاب مئتي صفحة كانت كافية لنقل مأساة الأطفال الفلسطينيين الى العالم مثلما تخيلتها الصبية. فالقصة من وحي خيالها. لكنه خيال استوعب صور الوحشية الاسرائيلية التي شاهدتها على الشاشات. طبعاً لا تملك رندة أو اسرتها ادارة معارك سياسية أو اعلامية، لكن عملياً فرض عليها اليوم خوض صراع مرير مع محاكم التفتيش التي يقودها مركز سيمون فيزنتال، من خلال فرعه الفرنسي، لمنع كتابها من التداول في الأسواق، وينبغي على العرب ان يدعموا أولاً دار النشر "فلاماريون" التي رفضت الابتزاز، وان يزيحوا ثانياً الأقنعة عن الذين يرتعبون من الكلمة ويلاحقونها من أجل اغتيالها واسكاتها الى الأبد، مثلما اغتالوا الحياة في عيون الأطفال الفلسطينيين، وعليهم ثالثاً ان يدعموا البراعم الصادقة في كل بلد، القادرة على العطاء اكثر من أي جهاز رسمي لأنها لم تصب بلوثة البيروقراطية الرسمية التي لا تنتج خطاباً صادقاً يخاطب القلب والضمير. أدرك الاسرائيليون خطورة الإعلام فسيطروا عليه في اميركا وأوروبا واستثمروه الى الحد الأقصى، ولذا سارعوا الى شحذ السكاكين للاجهاز على حلم الفتاة الصغيرة في المهد. واكثر ما أخافهم في كتابها أنه موجه اساساً الى الأطفال، أي الى الأجيال اليافعة التي تحاول الدعاية الصهيونية غسل أدمغتها في كل المراحل من المدرسة الى الجامعة وصولاً الى مراكز العمل لاحقاً. ينفق العرب أموالاً طائلة على الإعلام، لكن الحصيلة صفر أو درجة من ضوارب الصفر ان لم تكن احياناً نتيجة عكسية، لأن المواطن الغربي لا يثق بإعلام يُصنع في مناخ الاستبداد والاختناق وهو يعتبره كلاماً مصطنعاً وفاقداً للصدقية فيرجح عليه الرواية الاسرائيلية. ويمكن الجزم بأنه لو كانت رندة التي تعيش في ايطاليا مقيمة في بلد عربي لما توافر لها مناخ الحرية لكتابة ما كتبت. ولو ألفت كتابها مع ذلك لما عثرت على ناشر يروجه. ولو وجدت ناشراً لما سمحت الرقابة للكتاب بالرواج. ومن حسن حظها ان المعركة مفتوحة في مجتمعات ديموقراطية يمكن في ظل قوانينها كسب الجولات السياسية والاعلامية وحتى القضائية على الأوساط الصهيونية متى أُحسِنَت ادارتها. ومن سوء حظ الجمعيات الصهيونية انها طرحت الموضوع من بابه الكبير عندما اتهمت الكتاب بكونه يدعو الى القضاء على الاسرائيليين ويصفهم بشعب دموي قاتل للأطفال والشيوخ ومنتهك لحرمات المساجد ومغتصب للنساء. فهذه الافتراءات لا يمكن ان تعتبر في الوجدان الغربي، الذي تابع عبر الشاشات ما اقترفه الاسرائيليون من مجازر، لائحة اتهام بحق الصبية رندة بقدر ما تشكل حيثيات صالحة لمحاكمة الجيش الاسرائيلي وقائده السياسي شارون، اذا ما عرف العرب كيف يقلبون الطاولة على الطرف المقابل.