وقعت بالمصادفة على كتاب أربكني عنوانه وهو «الألف كتاب وكتاب التي يجب أن يقرأها المرء في حياته»، ولعله أشبه بمعجم موسوعي صغير يرسم مساراً تاريخياً للرواية العالمية في تجلياتها كافة منذ الأزمنة القديمة حتى مرحلة ما بعد الحداثة. ما أربكني لوهلة أولى هو السؤال الذي يطرحه هذا الكتاب المميز على قارئ مثلي، منذ أن يفتح صفحته الأولى: هل يمكن فعلاً أن يقرأ شخص هذه «الألف رواية ورواية» خلال حياته مهما طالت؟ ثم لم أتمالك عن مساءلة نفسي: كم رواية قرأت من هذه الألف ورواية؟ هذا السؤال قد طرحه-أو قد يطرحه- قراء كثر على أنفسهم بشيء من الحسرة، مدركين مسبقاً أنّ ما قرأوه لن يتعدى ربع العناوين وربما نصف ربعها... وقد لا يتحسر هؤلاء على تلكّؤهم هذا، عندما يعلمون أن الكتاب هو بمثابة «فخ» جميل نصبه مؤلفوه للقراء، حافزين إياهم على مواصلة القراءة، وعلى تخطي حال القلق الذي يساور أصلاً القراء الحقيقيين الذين يشعرون دوماً أن الكتب التي عليهم قراءتها تتراكم باستمرار وقد تحتاج إلى حياة ثانية وربما ثالثة. تُرى هل قرأ مؤلفو هذا الكتاب كل الروايات التي وردت فيه؟ حتماً لا. وقد يكون تعاونهم مع أكثر من مئة ناقد من العالم لكتابة نبذات قصيرة وعميقة عن هذه الروايات، دليلاً على عجزهم عن قراءتها كلها، ثم على عجز النقاد المشاركين أنفسهم على قراءتها. إلاّ أن هذا «الفخ» هو الذي منح هذا الكتاب فرادته، فهو إذ يربك القراء ويفضح تقاعسهم، يتيح لهم الفرصة ليقرأوا المقالات التي كتبها النقاد عن الروايات المدرجة في الكتاب، بحياد وموضوعية، فيمتلكون فكرة شاملة عنها ثم يختارون ما يودون اختياره من روايات لم يقرأوها. والكتاب المهم هذا، كان صدر بالإنكليزية سابقاً ثم ترجم إلى الفرنسية (ولغات أخرى) وصدر في طبعات عدة أحدثها طبعة الجيب (دار فلاماريون -باريس). وتكمن أهميته في كونه حصيلة تعاون بين نقاد عالميين تآزروا على وضعه، بغية ترسيخ رؤية شاملة إلى تاريخ الرواية العالمية في تجلياتها المتوالية عبر العصور. لكنّ هذه الرؤية بدت مجتزأة جداً في ما يخص الرواية العربية وربما الأفريقية وسواها. لم تحظ الرواية العربية في هذا الكتاب إلاّ بحيز ضئيل جداً نظراً إلى ما حظيت به الروايات الأخرى، الأوروبية والأميركية واليابانية والصينية والأميركية اللاتينية والإسرائيلية... أسماء ثلاثة فقط حضرت من العالم العربي هي: نجيب محفوظ (زقاق المدق، ميرامار) الطيب صالح (موسم الهجرة إلى الشمال) ونوال السعداوي (فردوس)، واسم واحد من الرواية العربية المكتوبة بالأجنبية هو الفرنكوفوني كاتب ياسين (نجمة). وبدا حظّ محفوظ أوفر من مواطنيه الآخرين فأدرجت له روايتان، والفضل لجائزة نوبل التي كان العربي الأول الذي ينالها، فهو قبل هذه الجائزة لم يكن ينعم بشهرة عالمية ما خلا أوساط المستشرقين. تستحق هذه الأسماء العربية أن تُدرج في الكتاب، لكنها لا تكفي وحدها البتة لرسم مسار الرواية العربية الحديثة، ما دام هدف الكتاب تقديم مسارات عامة للروايات العالمية. بل هي لا تكفي لتمثيل الحركة الروائية العربية الراهنة، التي تمكنت خلال العقود الأخيرة من إحداث نهضة روائية حقيقية، متجاوزة مرحلة التراكم الكمّي إلى مرحلة التأصيل الابداعي. وغدا من المجحف تجاهل أسماء عربية طليعية غير قليلة لا يقوم المشهد الروائي العربي من دونها. أسماء عدة لا تحتاج إلى أن نذكّر القارئ بها، جددت الرواية «المحفوظية» وتمردت عليها وتخطتها أشواطاً، خالقة أفقاً روائياً لا عهد للرواية الخمسينية والستينية به. حتى رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» التي صنعت مجد الطيب صالح، تمكّن الروائيون الجدد من تخطيها. أما الكاتبة نوال السعداوي فهي تنتمي إلى الحركة الأدبية النضالية، ومن هذا البعد النضالي تستمد رواياتها خصائصها. ومثلما ظُلمت الرواية العربية ظُلمت أيضاً الرواية العربية الأخرى المكتوبة بالفرنسية والإنكليزية وسواهما. يحضر في الكتاب الروائي الأسترالي ذو الجذور العربية ديفيد معلوف، الذي يجاهر بكراهيته للعرب وحبه لإسرائيل ويغيب مثلاً أمين معلوف والطاهر بن جلون وآسيا جبار وربيع علم الدين وسواهم... ظُلمت الرواية العربية في هذا الكتاب مثلما هي تظلم دوماً مفتقدة حقها في الرواج غربياً أو عالمياً. كم من روايات مهمة تترجم إلى لغات أجنبية ولا تنال حقها في الإعلام والصحافة، ولا في الأوساط الأدبية ولا لدى القراء. وهنا تستثنى قلة قليلة منها تفرض نفسها إمّا كسلعة «إكزوتيكية» تغري الناشرين، وإمّا كإنجاز حقيقي لا يمكن تجاهله. كم كان حريّاً بالرواية العربية الجديدة والشابة أن تحضر في هذا الكتاب فتجعل القارئ الأجنبي على بيّنة من إنجازاتها السردية الطليعية التي باتت تنتمي إلى صميم الرواية العالمية الراهنة.