الضجة المثارة في القاهرة الآن بين الموسيقيين وأهل الطرب، على تصريحات المخرج اللبناني سيمون أسمر التي أعلن فيها عن رأيه في الأغنية المصرية المعاصرة، تكشف مشكلات كنا نظن أنها انتهت من حياتنا الثقافية والفنية الى غير رجعة. وهذه المشكلات ترتبط بفهم مرضي لمعنى الريادة... وهو معنى لا تكف بعض النخب السياسية والثقافية والفنية في مصر عن استهلاكه، بحق أو بغير حق. فالتعامل مع مفهوم "الريادة" يخرج احياناً عن الاطار التاريخي، ليصادر الحاضر والمستقبل. فريادة مصر التاريخية أمر لا شك فيه، لكن هذه الحقيقة لا تعني الوصاية، ومصادرة حق الآخرين في النقد. بل ان "الريادة" تفرض على أولئك الغيورين عليها، مجموعة من المسؤوليات، وأبسطها التسامح والقبول بحق الاختلاف. لا بدّ من النظر الى تصريحات سيمون أسمر باعتبارها "مجرد رأي" أطلقه أحد المشتغلين في مجال الغناء، وهو رأي لا يجوز مصادرته أو مواجهته بنوع من العصبية الشوفينية التي ترى المنجز المصري ولا ترى غيره، وتنظر اليه باعتباره "قدس الأقداس" الذي لا ينبغي المساس به. والمؤكد أن السنوات الأخيرة غيرت في خريطة الإنتاج الفكري والفني، لا في المنطقة العربية فقط، بل على مستوى العالم عموماً. وتبدّل المفهوم التقليدي لنظرية المركز والأطراف، حيث تعددت الأطراف وتكسرت فكرة المركز... ولم تعد القاهرة وحدها هي مركز الإنتاج الفني والثقافي في عالمنا العربي، بل باتت تواجه منافسة حقيقية من مراكز أخرى في بلدان الخليج العربي ولبنان وسورية والمغرب العربي... وعلى مستوى الغناء والدراما التلفزيونية بالذات، هناك اكثر من شاهد على ذلك. ولعل القنوات الفضائية لعبت دوراً في دفع بقية العواصم العربية الى مشاركة القاهرة "حصتها التاريخية" في تشكيل الوعي العربي. كما قاومت الأغاني المقدمة ب"اللهجة البيضا" التي بوسعها الوصول إلى كلّ المستمعين، حضور اللهجة المصرية ومذاقها المميز... خصوصاً بعد تدهور أحوال الغناء المصري. ولم يعد من الغريب أو من غير اللائق الذي يجرح الهوية الوطنية أن تستمع في أقصى مناطق الريف المصري الى أغنية رائجة لعبدالمجيد عبدالله وراشد الماجد ويوري مرقدي وأليسا... من دون أن يشعر المواطن المصري بالحساسيات التي تؤرق نخبته وتستفزها على النحو الذي عكسته الحملة الصحافية المثارة ضد سيمون اسمر. فكل تلك الحملات قامت بتحريف أفكار صاحب "استديو الفنّ" عن سياقها بخبرة رقابية تحسد عليها، واسقطت انتقادات وجهها الرجل الى تجارب مطربين كبار ليسوا مصريين بل لبنانيين... وعلى رأسهم تجربة السيدة فيروز الأخيرة مع زياد الرحباني. كما تغاضى أبطال محاكم التفتيش الجدد، عن الإعجاب الذي أبداه أسمر بأصوات مصرية قادرة على رأسها على الحجار. والاهم من ذلك كله أن الحملات التي شنّت في مصر ضدّ أسمر لم تتجاوز الشخص الى الموضوع، بمعنى أنها حصرت القضية في مجموعة أسماء اعتبرتها مستهدفة من تصريحاته مثل عمرو دياب وأنغام... وأهملت تماماً القضية التي طرحها حول تدهور الأغنية المصرية المنتجة الآن، والتي وصفها بأنها "فقاعات صابون". وهذا الوصف المجازي على رغم قسوته، يدلّ تماماً الى وضع الأغنية المصرية. لكن هواة المزايدة من الفنانين المتوقفين عن الإنتاج، أو أولئك الذين انتهت مدة صلاحيتهم من سنوات... أغرتهم فكرة العودة الى الساحة للدفاع عن شرف الأغنية المصرية بأسلحة قديمة. فكل الشواهد والاسماء التي لجأ اليها هؤلاء في دفاعهم عن الأغنية المصريّة هي من الماضي. وكان الأفضل أن يدور النقاش على الطابع الاحتكاري الرأسمالي لمشروع "استديو الفن". بل ان المطلوب هو التوقف عند أصوات مصرية جديدة تضيف الى الماضي، ولا تنتقص منه بالانخراط في لعبة السوق. حذار من أن يتحوّل هاجس الريادة من ممارسة لفعل الإبداع مع وعي بشروط اللحظة الراهنة... الى ممارسة لفعل استعلائي له طابعه المرضي. وهذا الاستعلاء هو الأشد خطراً على مصر قبل غيرها، لأنه يحرم المصريين من إدراك واقعهم على نحو صحيح، والنظر في مرآة الغير... كما يحرمهم فرصة التعرف إلى الفن العربي فعلياً، لا بالمجاز أو التصريحات. سيد محمود حسن