أمران يلفتان الانتباه في النشاط الأكاديمي لأقسام الأدب في الجامعات الأميركية عموماً، وأقسام الدراسات العربية خصوصاً. أولهما تقبل مبدأ التعددية الثقافية بصفته واقعاً مقبولاً معاشاً، لا سبيل إلى الرجوع عنه، أو النكوص إلى زمن من التحيز سابق عليه، خصوصاً بعد أن فرضت التحولات السكانية الديموغرافية في الولاياتالمتحدة وأوروبا نفسها على التركيبة الثقافية، وذلك على النحو الذي أنتج به التعدد العرقي تنوعاً ثقافياً. ولم يكن هذا التنوع - في صيغه الصاعدة - من قبيل الإدماج الذي يعترف بهيمنة ثقافة سائدة، أو التنازل المتمثل في اعتراف هذه الثقافة بأبناء الثقافات الأخرى التي تمنحهم شرف الانتساب إليها، بل من قبيل التباين الخلاّق لوحدة التنوع التي لا تعرف الهيمنة، وترفضها بما يؤكد الوضع المتكافئ بين ثقافات المجموعات العرقية الموجودة في الولاياتالمتحدة، وفي كل قطر من الأقطار الأوروبية بدرجات متفاوتة بالطبع. ومن المفيد - في هذا المجال - ملاحظة التغير الذي حدث في التركيبة العرقية للقائمين بالتدريس في الأقسام والمعاهد المهتمة بدراسة الأدب العربي بصفته مثالاً على غيره من آداب العالم الثالث، حيث تزايد عدد الأساتذة العرب أو الذين يرجعون إلى أصول عربية، أو شرقية، وذلك على نحو أسهم في تغيير المشهد الأكاديمي الذي أسهمت فيه، داخل الولاياتالمتحدة، مثلاً، أسماء من طراز إدوارد سعيد وكمال أبو ديب وعدنان حيدر وفدوى مالطي دوغلاس ووداد القاضي وفاروق عبدالوهاب وعادل سليمان وماجدة النويهي ومن طراز أندراش حاموري وروى متحدة وغيرهم، جنباً إلى جنب أسماء أصحاب الاتجاهات الجديدة من الأميركيين أو المتأمركين أمثال جيمس مونرو وروجر آلان وبيل جرانارا ومايكل زويتلر وغيرهم. وأتصور أن هذا التغير للقائمين على تدريس الأدب العربي قضى على الصورة التقليدية التي ظلت متوارثة، طويلاً، للمستشرق الأجنبي الغريب عن الثقافة العربية، والبعيد ربما عن الحدس بأسرار لغتها، ووضع في الصدارة نموذجاً مختلفاً لدارس مغاير: إما في انتسابه إلى الثقافة العربية الأم التي يتولى تدريسها لغير الناطقين بلغتها، أو في انتسابه إلى اتجاهات منهجية مغايرة، اتجاهات دفعت إلى نبذ كلمات من طراز "الاستشراق" و"المستشرق" لما أحاط بدلالاتها من ريب، خصوصاً بعد كتاب إدوارد سعيد وإنجازات خطاب ما بعد الاستعمار، ومن ثم استبدال كلمات أخرى بالكلمات المنبوذة، أعني كلمات من طراز "مستعرب" أو حتى "دارس الأدب العربي". أما الأمر الثاني - في سياق هذا التغير - فيتصل بما أصاب مفهوم الأدب العالمي نفسه من تبدل، وتحوله عن مركزيته التقليدية القائمة على الهيمنة. وهو الأمر الذي أدى إلى فتح الأبواب لدخول أدباء العالم الثالث إلى قدس أقداس "العالمية" بأكثر من معنى. ودليل ذلك الحضور المتزايد لمبدعي العالم الثالث الذين اقتحمت كتاباتهم العواصم الثقافية الكبرى، وذلك منذ أن أخذ العالم يقرأ كتابات أمثال غابرييل غارسيا ماركيز الروائي الكولومبي الذي حصل على جائزة نوبل سنة 1982، وكتابات وول سوينكا الشاعر والمؤلف المسرحي النيجيري الذي حصل على جائزة نوبل سنة 1986، ونجيب محفوظ الروائي المصري العربي الذي حصل على جائزة نوبل سنة 1988. وقد أدى هذا الوضع الجديد إلى انزياح النهج الذي أبقى الأدب العربي الحديث والمعاصر موضع الهامش الذي لا يستحق عناء البحث أو الترجمة، والإقبال على أعمال هذا الأدب بصفتها إبداعات لا تقل أهمية عن غيرها من الإبداعات التي تتناولها بالدرس أقسام الأدب المقارن في الجامعات الأميركية، وبصفتها إبداعات لا يمكن تجاهلها بأي حال من الأحوال في الأقسام التي ظلت منغلقة طويلاً على دراسة الأدب القديم خصوصاً. هذا الوضع المتغير ضروري لفهم كتابات فدوى مالطي دوغلاس في سياقها الذي تنتسب إليه داخل الدراسات العربية في الولاياتالمتحدة الأميركية. فهي ليست "مستشرقة" بالمعنى الذي تولى إدوارد سعيد الكشف عن عناصر الهيمنة والمركزية الكامنة فيه، ولا تنتسب إلى المدرسة الألمانية بتقاليدها البحثية التي لا تزال قائمة في الدراسات التاريخية أو اللغوية، ولا تنتسب كذلك إلى مدرسة "التقاليد الشفاهية" التي بدأت من عمل لورد وباري واستمرت في محاولات جيمس مونرو وتلميذه مايكل زويتلر، ولا إلى الاتجاه الأسطوري الذي تجلى في كتابات ياروسلاف ستيتكيتش في جامعة شيكاغو، ومضت فيه زوجته سوزان ستيتكيتش. إن عمل فدوى مالطي دوغلاس أقرب إلى المدرسة البنيوية التي تأثرت بأبرز كتاباتها الفرنسية، فكانت استمراراً للأفق الذي سبقتها إليه إنجازات كاثرين بيتسون وكمال أبو ديب وعدنان حيدر، ولكنها مضت في اتجاه خاص بها، يعد إضافة متميزة داخل مجال دراسات الأدب العربي في الولاياتالمتحدة. ولم يكن من المصادفة - والأمر كذلك - أن تكتب باللغة العربية عن "البنيوية والنص التراثي العربي" مبرزة أهم الاعتراضات على المنهج البنيوي، متولية الرد على هذه الاعتراضات بما يؤكد إيمانها بجدوى المنهج البنيوي، مبررة في الوقت نفسه الدراسات التي كتبتها بالإنكليزية، ونشرت ترجمتها باللغة العربية، في كتاب "بناء النص التراثي: دراسات في الأدب والتراجم". وقد صدر في القاهرة عن الهيئة العامة للكتاب سنة 1985. ولكن بقدر ما يكشف كتاب "بناء النص التراثي" عن دين فدوى مالطي للبنيوية، في مدى تطبيقها على التراث النثري الذي اعتنت به عناية متميزة، وبدأت حياتها العلمية بالتخصص فيه، فإن أساليب التحليل المستخدمة في بحوث الكتاب تكشف عن مرونتها العقلية التي دفعتها إلى مجاوزة البنيوية والإفادة من اتجاهات ما بعد البنيوية. وهو الأمر الذي لا بد من أن يلفت انتباه القارئ الى كتابها الجديد الذي صدرت ترجمته عن المجلس الأعلى للثقافة في القاهرة، خصوصاً من حيث الحرص على مقاربة ما تراه المؤلفة تجليات "ما بعد الحداثة" في الإبداع العربي "المصري" المعاصر من ناحية، وبواسطة منظور يجاوز البنيوية إلى ما بعدها من المناهج التي أفادت منها فدوى في توسيع المنظور البنيوي، بل في مجاوزته إذا شئنا الدقة. وليس من المصادفة أن يحمل الكتاب الذي أشير إليه عنوان "من التقليد إلى ما بعد الحداثة"، وأن يبدأ بدراسة "المستشرق ونصه" في المدى الذي يجاوز البنيوية في حدودها الأولى إلى خطاب ما بعد الاستعمار، وأن تنطلق الفصول من دراسة "المحقق البوليسي في الأدب العربي القديم" إلى "قصص الجريمة" في تراثنا الأدبي، ومنها إلى "سلطة الحاكم وسلطة الجسد" في أكثر من شكل تراثي، وإلى "خطاب الإعاقة في النثر العربي القديم"، حيث تنتهي الدراسات التراثية في الكتاب، وكلها دراسات في النثر الذي تخصصت فيه فدوى، وبرعت فيه، وأنجزت دراسات باهرة بحدوسها الثاقبة، وتفسيراتها اللامعة. وكثير من هذه الإنجازات لم يترجم إلى اللغة العربية بعد، لكن المترجم في هذا الكتاب يكشف عن دارسة متميزة للأدب العربي، دارسة بدأت من البنيوية ومضت منها إلى ما بعدها، مستجيبة إلى ما فرضته الأبنية الداخلية للنصوص التراثية التي قرأتها، والتي انطوت على مستويات دلالية استلزمت تقنيات منهجية أوسع مدى. وتنطبق الملاحظة نفسها على القسم الثاني من هذا الكتاب، وهو القسم الذي يحمل دراسات فدوى مالطي ومقالاتها في الأدب المصري الحديث والمعاصر، ابتداء من "ليالي سطيح" لحافظ إبراهيم، مرورا بمتناصات صلاح عبدالصبور في مسرحيته "ليلى والمجنون"، والعناصر التراثية للحلم ما بين الطيب صالح ونجيب محفوظ، والعمى والنزعة الجنسية في "بيت من لحم" ليوسف إدريس، وقراءة قصيدة "زهور" لأمل دنقل، والعمى في "الأيام" لطه حسين، وانتهاء بتدمير طقوس الحياة واللغة في رواية محمد مستجاب: "التاريخ السردي لنعمان عبدالحافظ"، وتجليات الرواية الجديدة في كتابات يوسف القعيد. وسواء كنا نتحدث عن تراثية مواضيع القسم الأول أو حداثة مواضيع القسم الثاني، من كتاب فدوى مالطي دوغلاس "من التقليد إلى ما بعد الحداثة"، فإن ما يجمع بين القسمين هو وحدة المنهج التي تسعى إلى فهم التراث العربي والأدب العربي الحديث من خلال منظور منهجي واحد، منظور يظل محافظاً على ثوابته المفهومية والإجرائية مهما تغير الزمن الذي تنتسب إليه مادة الموضوع. ولذلك لن يفوت القارئ ملاحظة أن العين القارئة التي تنظر إلى عصور التراث هي نفسها العين التي تنظر إلى مراحل العصر الحديث أو تجلياته المعاصرة، فالمقولات المحُرِّكة واحدة، والفرضيات الأساسية لا تتبدل، وأولويات الاهتمام كمناطق التركيز واحدة في كل الأحوال. والبعد عن الأفكار السائدة أو الافتراضات الشائعة يختفي في كل الأحوال، مفسحاً السبيل إلى رهافة الإدراك المنهجي التي تلتقط ما فات الذين يتوقفون عند أسطح النصوص لا يجاوزونها. قد يختلف القارئ المتخصص مع فدوى مالطي دوغلاس، في تفسيرها هذا العمل الأدبي أو تلك الظاهرة الأدبية، أو قد يجادلها في إطلاق صفة "ما بعد الحداثة" على بعض الأعمال، ولي شخصياً مناقشات كثيرة معها في اجتهاداتها وتأويلاتها، كما لغيري من الزملاء والأقران الذين عرفوا فدوى دوغلاس زميلة وصديقة ومشاركة في بعض الرؤى والطموحات. ولكنه لن يختلف معها أحد منا في جدوى قراءة النصوص الأدبية العربية من منظور النقد المعاصر في تعدد مناهجه وثراء تقنياته. ولن يختلف معها القارئ المعاصر ذو العقلية المحدثة حول الكثير من الأضواء التأويلية الكاشفة التي سلطتها على نصوص التراث النثري القديم، فأنطقت ما كان مسكوتاً عنه نقدياً من قبل، وأدخلت في دائرة الأدب بمعناه الخلاّق ما لم يكن منتسباً إليه، ونقضت أسوار الهامشية التي كانت مفروضة على بعض النصوص النثرية في علاقات التراتب الأدبي، بل يمكن أن يرى هذا القارئ في انحياز فدوى إلى دراسة النثر عموماً، والسرديات منه خصوصاً، نوعاً من الوعي بحضور زمن الرواية الذي نعيشه إبداعياً في الثقافة العربية، والذي يدفعنا إلى نقض التراتب السائد بين الأنواع الأدبية. أقصد إلى التراتب الذي كان يضع الشعر في قمة الأنواع الأدبية، ويفرض الاهتمام به وحده. وقد دفعنا الوعي بزمن الرواية على نحو مباشر إلى مجاوزة مركز الشعر إلى هوامش الأنواع الأخرى، والانتقال من صيغ التراتب إلى صيغ التسوية أو المساواة. وأتصور أن هذا الوعي دفع فدوى مالطي دوغلاس - على نحو ضمني على الأقل - إلى التركيز على النثر العربي عموماً، والسرديات النثرية خصوصاً، من دون أن يعني ذلك بالضرورة إغفال الشعر أو عدم الاهتمام به. وهذا ما فعلته فدوى التي لم تغفل دراسة الشعر في كتابها، وخصصّت له بعض بحوثها المتميزة. وأخيراً، فكلي ثقة أن القارئ العام سيستمتع بكتاب فدوى دوغلاس "من التقليد إلى ما بعد الحداثة" لجدة منظوره وأصالة نهجه. وأحسب هذا القارئ العام لا بد من أن يشارك القارئ المتخصص متعة متابعة التحليلات الثاقبة والتأويلات الكاشفة، ومتعة تأمل وحدة المنظور النقدي المتجدد الذي لا يعرف التمييز بين التراثي والمعاصر، التقليد وما بعد الحداثة، في معنى القيمة الأدبية التي تجاوز كل التصنيفات المذهبية الضيقة.