لم يكن كتاب كمال أبو ديب عن "جدلية الخفاء والتجلي" 1979 أو كتابه "في البنية الإيقاعية للشعر العربي" 1974 هو الكتاب البنيوي الأول، لا على مستوى التأصيل النظري أو التطبيق العملي، فقد سبقته جهود توفيق بكار مع تلامذته في تونس، وهي الجهود التي كونت ما يشبه "ورشة عمل" ظهرت ثمرتها الأولى في بحث محمد رشيد ثابت بعنوان "البنية القصصية ومدلولها الاجتماعي في حديث عيسى بن هشام" الذي أعده تحت إشراف بكار، وفرغ منه سنة 1972، وصدرت طبعته الأولى عن الدار العربية للكتاب في تونس سنة 1975، وهو البحث الذي أعقبه في النشر بحث زميله حسين الواد عن "البنية القصصية في رسالة الغفران" الذي صدرت طبعته الأولى عن الدار العربية للكتاب في تونس سنة 1976 . ويلفت الانتباه في هاتين المحاولتين جمعهما بين النزعة البنيوية الشكلية بحث حسين الواد التي تبدأ من الشكليين الروس وتنتهي بكتابات كلود ليي شتراوس ورولان بارت وتودوروف وجيرار ينيت وغيرهم، مقابل النزعة البنيوية التوليدية بحث محمد رشيد ثابت التي تفيد من كتابات لوسيان غولدمان بالدرجة الأولى، وهي محاولة إن دلت على شئ فإنما تدل على الرغبة في الجمع بين الأضداد البنيوية داخل المجموعة نفسها في انتسابها إلى أستاذ واحد. ويبدو أن النزعة البنيوية التوليدية هي التي انتهت بالطاهر لبيب الجديدي في دائرة أخرى إلى كتابة أطروحته عن ظاهرة الغزل في الشعر العربي القديم، كما أتصور أن دائرة توفيق بكار لم تكن بعيدة تماماً من دائرة أستاذ رائد من رواد الجامعة التونسية، هو عبدالقادر المهيري الذي أشرف على اثنين من انبه اساتذة الجامعة التونسية، وهما عبدالسلام المسدي وحمادي صمود. وقبل أن يفرغ الأول من إعداد أطروحته، تحت إشراف عبدالقادر المهيري، وكانت أطروحة الدكتوراه الأولى التي تمنحها الجامعة التونسية في مجال الدراسات العربية في ما أعلم، أقول قبل أن يفرغ عبدالسلام المسدي من أطروحته، كان قد أصدر كتابه "الأسلوبية والأسلوب" عن الدار العربية للكتاب في تونس سنة 1977. وهو ثمرة للمزج بين اللغويات البنيوية من ناحية واللغويات الأدبية من ناحية مقابلة، الأمر الذي أدى إلى ظهور رؤية جديدة عن الأسلوبية، مجاوزة للكتابات الأسلوبية التي كانت معروفة إلى ذلك الوقت. وطبعاً، كان المنحى البنيوي غالباً على المسدي في ذلك الوقت، وهو المنحى الذي سرعان ما ترك بعض آثاره على أطروحته للدكتوراه عن "التفكير اللساني في الحضارة العربية". وأضاف إليه بعد ذلك في كتبه اللاحقة، ابتداء من الطبعة الثانية للكتاب التي ذيلها المسدي ببليوغرافيا مفيدة، تولى توسيعها بعد ذلك في كتابه "النقد والحداثة" تونس 1983 وكتابه "قضية البنيوية" تونس 1991. ولم يكن مصادفة أن كتاب كمال أبو ديب "جدلية الخفاء والتجلي" صدر بعد "أسلوبية" المسدي بعامين، وأن يصدر كلا الكتابين بعد توالي صدور مجموعة من الكتب التأسيسية في القاهرة، في دائرة التأصيل النظري على وجه التحديد. وهي الدائرة التي كانت بمثابة المهاد الذي انطلقت منه التجليات العربية للبنيوية في طريقها الذي مضى فيه كمال أبو ديب ببياناته الحماسية وتطبيقاته الجسورة. وكان الكتاب الأول لتأصيل البنيوية، والعرض التحليلي لمنطلقاتها الفكرية، هو كتاب المرحوم زكريا إبراهيم "مشكلة البنية" الذي انتهى منه سنة 1976 وصدر عن مكتبة مصر في القاهرة. وكان الكتاب في الأصل مجموعة من المحاضرات التي ألقيت على طلاب الدراسات العليا بقسم الفلسفة بآداب القاهرة، حين كان هذا القسم يزهو بأساتذته الكبار الذين تركوا آثارهم الدالة على تقدّم الفكر الفلسفي العربى بوجه عام. وبقدر ما كان الكتاب إضافة مهمة إلى السلسلة التي كان زكريا إبراهيم يوالي إصدارها بعنوان "مشكلات فلسفية"، وهي السلسلة التي ضمت كتباً من مثل "مشكلة الحرية" و "مشكلة البنية" وغيرها، كان إضافة إلى الوعي الثقافي بالبنيوية، ذلك الوعي الذي كانت دوائره قد أخذت في الاتساع، وذلك إلى الدرجة التي فرضت على زكريا إبراهيم تخصيص كتاب ضمن سلسلة كتبه "مشكلات فلسفية" عن البنيوية. وأنا شخصياً أذكر بعض هذه المحاضرات، فقد استمتعت بما كان يلقيه هذا العالم الجليل، وكنا نتابعه، ونجد في ما يقوله تعويضاً عن النفور الذي نلقاه من بعض أساتذتنا في قسم اللغة العربية، بجامعة القاهرة، خصوصاً حين يأتي الحديث عن البنيوية ووعودها. وكما وجدنا حماسة للبنيوية في كتابات زكريا إبراهيم الجادة، وجدنا ما يوازي هذه الحماسة، في دائرة الاهتمام بالبنيوية، من الذين عادوا حديثاً من فرنسا، مثل المرحومة سامية أسعد. وفي مقابل ذلك، كنا نجد جهلاً مطبقاً أو تجاهلاً مطبقاً في قسم اللغة الانجليزية الذي لم يجاوز، طوال السبعينات ومطالع الثمانينات، نقد ت. س. إليوت إلا إلى بقية أعلام "النقد الجديد" بالولاياتالمتحدة في الأربعينات. وقد فرغ صلاح فضل من كتابه "النظرية البنائية في النقد الأدبي" سنة 1977 داخل هذا الإطار، ونشره سنة 1978 عن مكتبة الأنجلو المصرية، السنة نفسها التي نشر فيها كتابه "منهج الواقعية في الإبداع الأدبي" الذي صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بالقاهرة. والكتابان معاً يعكسان الاهتمام بجناحي البنيوية، فكتاب "النظرية البنائية" يعرض بالتحليل للبنيوية اللغوية، متنقلاً من أصولها عند دي سوسير وتطبيقاتها الأولى مع الشكليين الروس إلى أن يتوقف عند كتابات رولان بارت وتودوروف وجيرار جينيت وغيرهم من الذين أصبحت كتاباتهم مناط الاهتمام العام. وفي الوقت نفسه، يعرض كتاب "منهج الواقعية" لأبرز اتجاهاتها النقدية وأحدثها على السواء. وما له دلالة في محاولة صلاح فضل في ذلك الوقت أنها كانت محاولة تكشف عن الحرص على تتبع الجديد في العالم، والنفور من القديم الذي كان قد بدا مستهلكاً. ولكن في الوقت نفسه، عدم الوصول إلى موقف جدلي، يجاوز الأضداد، أو يجمع بينها في نسق واحد متجاوب العناصر، فظلت البنيوية الماركسية في جانب، والبنيوية اللغوية الشكلية في جانب مقابل، يقع بينهما الصراع الدائر ما بين آنية مفهوم البنية وتعاقب التاريخ الذي حاولت البنيوية اللغوية الفرار منه. وأذكر أننا كنا نتندر على صلاح فضل ونداعبه قائلين: إن كتابك عن الواقعية يرضي الجناح اليساري كله، وكتابك عن النظرية البنائية يرضي الجناح المقابل، فأنت هنا وهناك، ومع هؤلاء وأولاء. المهم أن صدور كتاب زكريا ابراهيم مع صدور كتاب صلاح فضل الذي لحق به أحدثا خطوة إلى الأمام. وقد جاء كتاب صلاح فضل عن "النظرية البنائية" في وقته تماماً، حين اتسعت الحاجة إلى معرفة المزيد من الأصول النظرية للبنيوية في النقد الأدبي، فكان الكتاب بمثابة تمهيد مضاف للمحاولات التطبيقية اللاحقة، وإرهاصاً على نحو غير مباشر لكتاب كمال أبو ديب "جدلية الخفاء والتجلي" 1978 الذي صدر بعد عام واحد من صدور كتاب صلاح فضل الذي اتسع بأفق المعرفة البنيوية في وعي قراء الأدب. وجاء عام 1979 بثلاثة كتب دالة على صعود الاتجاه البنيوي المحدث الذي استهلته ودعمته الكتابات السابقة، فظهر كتاب موريس أبو ناضر "الألسنية والنقد الأدبي: في النظرية والممارسة". وقد صدر عن دار النهار في بيروت 1979 . وفي العام نفسه، صدر كتاب محمد بنيس: "ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب: مقاربة بنيوية" سنة 1979 كما ظهر كتاب إلياس خوري. "دراسات في نقد الشعر" عن دار ابن رشد في بيروت سنة 1979. وكانت هذه الكتب الثلاثة مجتمعة بمثابة علامات مضافة على اتساع مدى التجليات المحدثة في النقد، وكيف أنها أخذت تفرض نفسها على نحو متزايد، وتسهم في تأسيس خطاب نقدي مغاير ومفردات اصطلاحية متباينة. والحق أننا ما نكاد نصل إلى سنة 1980 إلا ويكون الخطاب النقدي الجديد قد تأصل بأكثر من معنى، وبأكثر من رافد وتيار، وذلك على نحو تحولت معه لغة النقد الأدبي وتحولت معها عملياته التطبيقية وتصوراته النظرية، خصوصاً بعد أن صدرت مجلة "فصول" القاهرية التي مضت بالتطبيقات البنيوية إلى دوائر واسعة من الذيوع والتأثير على المستويات الإقليمية والقومية. ولا يمكن المضي في هذا السياق من غير الإشارة إلى الأطروحات الجامعية التي كانت قد أعدّت ونوقشت طوال السبعينات، فكانت تعبيراً عن صعود جيل جديد من الدارسين المزودين بمنهجية مختلفة تسعى إلى تأسيس مباين. وأحسب أن الأطروحة الأولى في هذا المجال أطروحة الطاهر لبيب الجديدي من تونس التي كان عنوانها بالفرنسية "شعر الحب عند العرب: حالة العذريين، إسهام في سوسيولوجيا الأدب العربي". وهي محاولة تنتسب إلى البنيوية التوليدية التي حاول الباحث توسيع أفقها البحثي الذي صاغه لوسيان غولدمان في كتابه "الإله الخفي". وقد أنجزت هذه المحاولة بوصفها أطروحة للسلك الثالث في فرنسا سنة 1972 تحت إشراف جاك بيرك، وغير بعيد من تأثير لوسيان غولدمان الذي يعلن لبيب إفادته من مقترحاته في المقدمة. وبعد عام من نشر أطروحة الطاهر لبيب بالفرنسية في كتاب سنة 1974 فرغت فريال غزول العراقية من أطروحتها للدكتوراه بالإنكليزية عن ألف ليلة وليلة في جامعة كولومبيابالولاياتالمتحدة - برنامج الأدب المقارن سنة 1975. وهي الأطروحة التي قرأها ميشيل ريفاتير وإدوارد سعيد وتزيفتان تودوروف الذين تولوا مناقشة المؤلفة في ممارستها المنهجية. وكانت هذه الأطروحة التي لم تطبع إلا سنة 1980 في القاهرة بالإنكليزية بمثابة إضافة بنيوية أخرى في قراءة التراث العربي القديم. وهي إضافة أسهمت في توسيع أفق الدائرة المنهجية للبحث البنيوي الذي استهله الطاهر لبيب عن الشعر العذري سنة 1972 في باريس، وتبعه كمال أبو ديب بدراسته عن النقد العربي القديم في إنكلترا، وما نشره بعنوان "نحو تحليل بنيوي للشعر الجاهلي" سنة 1975 في الولاياتالمتحدة. وأحسب أن جهد فريال غزول في مجال الكتابة النثرية، أو السرديات العربية، كان بداية السياق الذي سرعان ما شهد بعد ذلك جهود عبدالفتاح كيليطو بالفرنسية، ابتداء من أطروحته للدكتوراه عن "المقامات: السرد والأنساق الثقافية" مروراً بما كتبه عن "الكتابة والتناسخ" و"لسان آدم" وانتهاء بما نشره بالعربية، ابتداء من كتاب "الأدب والغرابة: دراسات بنيوية في الأدب العربي" الذي صدر في بيروت سنة 1982، وكان بداية التعرف على صوت عبدالفتاح كيليطو المتميز . وقد فرغت سيزا قاسم من أطروحتها في الأدب المقارن بعد عام واحد من مناقشة فريال غزول لأطروحتها، وكان ذلك في جامعة القاهرة هذه المرة، وتحت إشراف سهير القلماوي التي رعت بسماحتها العقلية الإنجازات البنيوية الأولى في قسم اللغة العربية، ولم تتخذ منها موقفاً معادياً كما فعل الأساتذة التقليديون من اتباع طريقة شوقي ضيف، أو الأساتذة اليساريين على طريقة الأصولية الماركسية التي لا تفترق كثيراً عن النزعة الجدانوفية في ضيق أفقها. وقد تولت سهير القلماوي الإشراف على أطروحة سيزا قاسم عن "بناء الرواية: دراسة مقارنة لثلاثية نجيب محفوظ". وهي الدراسة التي أدخلت إلى قسم اللغة العربية في كلية الآداب - جامعة القاهرة مفاهيم "بناء الزمن الروائي" و "بناء المكان الروائي" و"بناء المنظور الروائي". وكان الإهداء الذي يقول: "إلى أستاذتي الدكتورة سهير القلماوي التي أدين لها أنا وهذه الدراسة بكثير من الفضل" دالاً إلى حد كبير على شخصية سهير القلماوي المنفتحة على الجديد الواعد. وإذا كانت هذه الرائدة الجليلة قد ساندت أجيالاً من تلاميذها إلى أن ثبتت أقدامهم على الطريق، فظلوا يدينون لها بالفضل، فإنها لم تطمس شخصياتهم، قط، بل آزرتهم لينطلقوا في الاتجاهات المختلفة وفقا لمعاييرهم الخاصة. وقد فرغ عبدالسلام المسدي في الجامعة التونسية من أطروحته التي أعدها لتكون درجة دكتوراه الدولة الأولى في اللغة والآداب التي تمنحها الجامعة التونسية، وكانت تحت اشراف عبدالقادر المهيري، وموضوعها "التفكير اللساني في الحضارة العربية". وناقش المسدي، يوم 12 كانون الثاني يناير 1979، أطروحته التي كتبها "مراهنة على مشروع حضاري فكري إذا تحقق، تسنى للذات العربية أن تصنع غداً علمياً لها ولمن سواها". ويضع المسدي في أطروحته ميراث الفكر اللغوي موضع المساءلة، وذلك من منظور اللسانيات المعاصرة، مؤكداً فضل اللسانيات المعاصرة في بلوغ عمله تمامه، فهي التي وفّرت له سبل التمازج بين حقول المعرفة، وهي التي أوصلت أطروحته إلى التأليف الشمولي، بل هي التي أمدّته أساساً بمقولة القراءة من حيث هي مجهر يستكشف النص بالنص. ولذلك يقول المسدي: "إذا كنا مدينين بهذا العمل لجوهر الثقافة اللسانية المعاصرة فإن الذي تبرأ به ذمتنا مما نحن مدينون به إنما هو هذا العمل نفسه لأنه -على ما نرتأي - كفيل أن يرجع للسانيات فوائض دينه لما قد يفتحه لها من منافذ على مخزون التراث العربي الذي هو في حقيقة أمره ملك مشاع للإنسانية بحيث يكون من الحيف ألا تفتح أبوابه أمام تطلع الفكر المعاصر قاطبة". ويفرغ حمادي صمود من أطروحته لدكتوراه الدولة عن "الفكر البلاغي عند العرب" بعد عام واحد من مناقشة المسدي، وفي الجامعة نفسها وتحت إشراف الأستاذ نفسه، كما لو كان يكمل مخططاً وضعه المهيري لوضع التراث اللغوي الأدبي موضع المساءلة، ولذلك كان موضوع أطروحة حمادي "الفكر البلاغي عند العرب أسسه وتطوره إلى القرن السادس". وقد نوقشت الأطروحة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالجامعة التونسية في الخامس والعشرين من نيسان أبريل 1980 . وكانت انجازاً في قراءة التراث البلاغي موازياً للإنجاز الذي سبق أن قام به كمال أبو ديب عندما فرغ من أطروحته للدكتوراه عن مفهوم الصورة الشعرية في بلاغة عبدالقاهر الجرجاني قبل ذلك بسنوات. ولم يتوقف حمادي صمود عن متابعة مشروعه الذي استهله في أطروحة الدكتوراه، فظل حريصاً على تعميق عمله، والاتساع بدائرة تطبيقاته، ومتابعة تلامذته الذين تتابعت أطروحاتهم، مؤسسة مدرسة بلاغية جديدة، واعدة، في الجامعة التونسية، مدرسة سرعان ما أصبح لها مكانتها المحترمة، خارج الجامعة التونسية، على امتداد الجامعات العربية.