تعيش المنطقة هذه الأيام تصعيداً خطيراً لأزمات مزمنة، من فلسطين الى تراجع آمال السلام بحل قضية الشرق الأوسط مروراً بالأزمات الأخرى مثل توقعات الحرب ضد العراق والارهاب والاوضاع الاقتصادية الصعبة... ووسط هذه الأزمات وفي تقاطع معها يبتعد ويقترب منها حسب الظروف، تختبئ قنبلة موقوتة خطيرة تشكل في بعض الأحيان قاسماً مشتركاً وفرعاً أو أصلاً للمشاكل القائمة والحلول المرتقبة. انها أزمة المياه التي يعيشها العالم كله ولكنها تتركز في منطقتنا وتتشعب مخاطرها لتهدد مصير كل فرد وتنذر بنشوب نزاعات دامية في المستقبل بغض النظر عن الأسباب والعوامل الأخرى فيما اصبح متعارفاً عليه بأن حروب المستقبل ستكون "حروب المياه". صحيح ان الأزمة قديمة، تصعد الى الواجهة حيناً وتتوارى احياناً أخرى، إلا انها تظل تشكل هاجس المعنيين والمتابعين للأرقام والاحصاءات والمخططات والمطامع الاجنبية، والاسرائيلية على رأسها، في مياه العرب وثرواتهم الطبيعية وسط تشكل عوامل أخرى تصب الزيت على نار النقص الحاد في المياه مثل ازدياد عدد السكان واستطراداً اتساع الحاجة والاستهلاك، وموجات الجفاف التي تضرب المنطقة وتسهم في زحف التصحر الى ربوعها. ونظرة سريعة الى آخر الارقام والاحصاءات اثبتت جدية هذه المسألة وتقرع ناقوس الخطر وتأثيرها المباشر على الأمن الغذائي خلال العشرين سنة المقبلة على صعيد العالم كله. الا ان ما يهمنا، وما يجب ان يركز عليه واضعو الاستراتيجيات الاقتصادية والاجتماعية هو الارقام التي تخصنا، وأشير الى بعضها على سبيل المثال لا الحصر: - يبلغ نصيب الفرد في المنطقة العربية حالياً نحو ألف متر مكعب سنوياً، يتوقع انه ينخفض عام 2025 الى النصف تقريباً، أي ان نصيب الفرد من المياه العذبة لا يتجاوز 1.5 في المئة بالنسبة الى العالم. - لا تشكل الموارد المائية المتجددة للعالم العربي سوى نسبة 6 في المئة من موارد العالم المائية مع ان مساحته تشكل 9 في المئة من مساحة العالم وان نسبة عدد سكانه 300 مليون نسمة ستصل الى 5 في المئة من عدد سكان العالم. - تقدر الموارد المائية العربية المتاحة بحوالى 279.1 بليون متر مكعب يستهلك منها 176.7 بليون متر مكعب فقط. ولا يتوافر للعرب إلا 8.6 في المئة من الأراضي الصالحة للزراعة و11 في المئة من الأراضي المروية، فيما تقدر زيادة الاحتياجات من الأغذية خلال ربع قرن بأكثر من 50 في المئة. أي ان المناطق الجافة وشبه الجافة تشكل نحو 90 في المئة من مساحة العالم العربي. - أشارت دراسات نشرت أخيراً الى ان هناك 16 دولة عربية تقع تحت خط الفقر المائي عام 2000. كما بين الباحث الاقتصادي المصري الدكتور حمدي عبدالعظيم في بحث مهم ان حاجات الدول العربية من المياه للأغراض المختلفة بلغت نحو 189.76 بليون متر مكعب عام 2000 مقابل 153.93 بليون متر مكعب عام 1990. كما توقع ان ترتفع الحاجة عام 2025 الى 280.6 بليون مترمكعب. هذه الارقام وغيرها تحضّ المعنيين والاخصائيين لدرسها وتحليلها وربطها بالواقع والتخطيط للمستقبل وهي نتاج عوامل طبيعية واقتصادية واجتماعية وبيئية تشكل معطيات الخطر، يضاف اليها عوامل مباشرة تتمثل في المطامع والمخططات الخارجية لسرقة المياه العربية أو تحديد حصة العرب. وقد تابعنا أخيراً فصول الأزمة التي افتعلتها اسرائيل لمنع لبنان من استخدام حقوقه المشروعة في بعض مياهه من نهر الوزاني لإيصالها الى القرى العطشى في الجنوب، كما سمعنا تهديدات مباشرة ووقحة بقصف المنشآت اللبنانية والاستعداد لخوض حرب بسبب المياه. كما تابعنا التحركات الدولية المحمومة خلال هذه الأزمة لنزع فتيل الانفجار ومحاولة تبريد الاجواء تمهيداً لبدء حملة ضغط دولية على العرب، ولبنان وسورية بالذات للتوصل الى اتفاق مائي يتيح لاسرائيل الحصول على مصادر المياه العربية كمظهر من مظاهر فرض الأمر الواقع بالقوة، وهو ما تجلى خلال ضرب منشآت مشروع نهر الأردن في الستينات وما ذكر أخيراً من ان حرب الخامس من حزيران يونيو 1967 شنتها اسرائيل لمنع العرب من استغلال مياههم. وصار معلوماً للجميع ان اسرائيل دأبت منذ ذلك الحين على سرقة مياه الجولان واتبعتها بسرقة المياه اللبنانية منذ الاجتياح العسكري عام 1982، وما زالت تمارس هذا الانتهاك للقوانين الدولية وسط مرأى العالم وسمعه من دون ان يحرك ساكناً، فيما سمعنا صيحات "الويل والثبور وعظائم الأمور عندما استخدم لبنان حقه في ايصال مياهه الى قرى عدة محرومة. ولم يعد مجدياً الحديث عن "ازدواجية المعايير" واستخدام ذريعة الشرعية الدولية ضد العرب وإغماض العين والضمير والأخلاق عن جرائم اسرائيل في كل مجال من مجالات الحياة. وانتهاكاتها المستمرة والمتمادية لحقوق الانسان الفلسطيني، وسرقة مياهه ثم حرمانه من أبسط حقوقه منها ومن غيرها على رغم ان اتفاقات اوسلو التي فرغتها اسرائيل من مضامينها تنص على تزويد الفلسطينيين بمعدل 70 الى 80 مليون متر مكعب من المياه من خلال السماح للسلطة الفلسطينية بحفر آبار في مناطقها لم يسمح إلا بحفر 7 آبار في بيت لحم وجنين وحسب الاحصاءات المنشورة أخيراً فإن اسرائيل تسرق سنوياً 540 مليون متر مكعب من أصل 670 مليون متر مكعب، بحيث لا يسمح للفلسطينيين إلا باستخدام 130 مليون متر مكعب فقط. كما ان 57 في المئة من مخزون المياه في قطاع غزة مخصص للمستوطنين الصهاينة الذين يبلغ عددهم 200 ألف مستعمر. كما تشير هذه الاحصاءات الى ان استهلاك الاسرائيليين من المياه في الضفة يمثل 87.5 في المئة، فيما لا يتجاوز نصيب العرب 12.5 في المئة، أي ان معدل استهلاك الفرد الاسرائيلي يعادل ستة أضعاف ما يستهلكه المواطن العربي صاحب الأرض والحق والمياه. وإذا صحت توقعات الخبراء بأن ينضب مخزون المياه الجوفية في فلسطينالمحتلة خلال ثلاث سنوات فقط اذا ما استمر الجفاف فإنه يمكن لنا ان نقدر حجم الاخطار المرتقبة والشراسة المتوقعة لاسرائيل، لإكمال عدوانها على الحقوق العربية وسعيها الى تغطية العجز بوسائل متعدد ظهر منها حتى الآن ما نشر عن اتفاقها مع تركيا على تزويدها بخمسين بليون متر مكعب من المياه على مدى 20 سنة اعتباراً من الشهر الجاري. ومطامع اسرائيل لا تنتهي وكلها تصب لغير المصلحة العربية مما يستدعي التنبه والحذر والاستعداد لحروب المستقبل المائية والصراعات الحتمية على مصادر المياه، والعمل على تدعيم الاتفاقات الحالية وضمان تنفيذها مع تركيا في شأن الفرات ودجلة وبين دول حوض النيل في شأن نهر النيل، علماً ان اسرائيل تمد اصابعها الى اثيوبيا وغيرها لحثها على بناء سدود لحرمان مصر والسودان من حصصهما، فيما تعتبر مصر قضية المياه اكبر وأهم عامل من عوامل أمنها القومي الذي لا تقبل أي تلاعب به، هذا ما دفعها للريبة والشك فيما يدبر في قضية جنوب السودان للتأكد من أن أي اتفاق للسلام لا يهدد أمنها القومي... والمائي. هذه المعلومات والاحصاءات هي التي تدعونا لدق ناقوس الخطر للتنبه إلى أهمية المياه كقنبلة مخفية بين الأزمات العلنية الصاخبة التي تشهد فصولها يومياً، كما تدفعنا إلى الدعوة إلى المسارعة لدرس الوضع من جوانبه كافة واتخاذ الخطوات اللازمة لتحصين الذات وتقليص مخاطر الأزمة الماثلة للعيان، ومن بينها: تعاون الدول العربية والتنسيق في ما بينها لتمويل المشاريع المائية المشتركة والاستثمار في تحديث البنى التحتية للمياه. اللجوء للأمم المتحدة والهيئات المختصة لتثبيت الحقوق العربية وفضح السرقات الإسرائيلية والانتهاكات الفاضحة. التصدي للمخططات الإسرائيلية والاستعداد لمواجهة أي تهديد لأية دولة عربية. قيام حملة إعلامية ووطنية للدعوة لوقف الهدر وشرح مزايا التقنين وأثره في حماية هذه الثروة الوطنية العمل بسرعة لوقف الأعمال التي تؤدي إلى تلويث المياه ومعالجة ظاهرة ارتفاع نسبة ملوحة المياه الجوفية وتدني نوعيتها. تحسين أنماط استهلاك المياه العذبة وتغيير أشكال أنظمة الري وتنمية مصادر جديدة للمياه باستخدام التقنيات المناسبة لتجميع مياه المطر والمحافظة عليها من التبخر إلى جانب معالجة مياه الصرف الصحي المتزايدة مع تزايد عدد السكان بخلاف تحسين الشبكات وتحلية مياه البحر كمورد اضافي للمياه، حسب التقرير الأخير لوكالة الشرق الأوسط. رفع الانتاجية الزراعية لوحدة المياه المستخدمة وإصلاح أنماط الزراعة وتربية المواشي. وهذا غيض من فيض الاقتراحات والآراء حول سبل المعالجة من قبل الدول العربية قبل فوات الأوان، ويبدو أن دولاً عدة تنبهت لهذا الأمر وبينها المملكة العربية السعودية التي أقامت وزارة خاصة للمياه. كما لعب المجلس الأعلى للمياه برئاسة الأمير سلطان بن عبدالعزيز النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع والطيران دوراً بارزاً في مجال حل هذه المشكلة وقيادة حملة التوعية وتأسيس جائزة عالمية للمياه تسمى "جائزة الأمير سلطان بن عبدالعزيز للمياه". ويرأس مجلس ادارتها الأمير خالد بن سلطان الذي اختم هذا المقال بكلمات معبرة وردت على لسانه وهي: "الندرة والتلوث والتصحر والصراع: مصطلحات أربعة تحكم حصارها على كل قطرة ماء". نعم انها مسألة حياة أو موت وتستوجب على الحكومات والأفراد والهيئات المتخصصة ان تضعها على رأس أولوياتها وتوليها ما تستحقه من اهتمام. كاتب وصحافي عربي.