يواصل شيركو بيكه س في مجموعته الشعرية الأخيرة "إناء الألوان"، التي نقلها الى العربية وقدم لها شاهو سعيد، استكمال ذلك العالم الشعري المدهش في تنوعه واتساعه وثراء لغته الشعرية. ومع أنه لم يتح لنا، نحن الجاهلين باللغة الكردية، أن نطلع على نتاج صاحب "مضيق الفراشات" و"نغمة حجرية" بلغته الأم، إلا أن ما يصلنا عبر الترجمة يستطيع على رغم كل شيء أن ينقلنا الى عوالم الشاعر المتفرد ويشحننا بكهرباء الشعر وجذوته الحية. ان الشعراء الكبار وحدهم هم الذين يبعثون في دواخلنا شعوراً بالخسارة أو الندم لكوننا لا نعرف اللغة الأصلية التي يكتبون بها قصائدهم. ذلك أن ما لا يمكن ترجمته من لغة الشعر، أي شعر، يفوق بكثير ما تستطيع الترجمة أن تنقله الى الآخرين، سواء تعلق الأمر بكيمياء اللغة نفسها أم بفتنتها وفورانها الداخليين أم بتوترها الايقاعي الذي لا قِبَل لأي لغة أخرى بنسخه وتكراره. وإذا كان الأمر ينطبق على الكثير من شعراء العالم المتفردين، فهو يصل مع بيكه س الى حدوده القصوى لما تحمله تجربته من احتدام داخلي وجيشان قلَّ نظيره في الأخيلة والرؤى والتناظرات. ومع ذلك فإن اعتماد الشاعر المفرط على التخييل والاندفاع الملحمي وملموسية الصور وتدفقها يجعل من شعره عابراً للغات والأحاسيس ويمكِّننا بالتالي من الاصابة بعدواه. يتخذ شيركو من الطبيعة الكردية المسننة التضاريس ظهيراً أساسياً لبناء عالمه الشعري، وهو تبعاً لذلك شاعر الطبيعة بامتياز. لكن الطبيعة عنده ليست طبيعة صامتة ومحايدة وعزلاء، بل هي الطبيعة التي تتمرأى في أرواح البشر ومكابداتهم وتغضنات وجوههم وتشقق جلودهم المثخنة بالألم والرغبات. فالشاعر هنا لا يكتفي بالتوصيف والانشاء وامتداح الأماكن، بل يتحول هو نفسه الى جزء لا يتجزأ من حركة الأشياء من حوله أو الى فلذة من الروح الكونية الكبرى التي يتحد فيها الإنسان مع الحشرات والنباتات وسائر المخلوقات السفلى ليتشمم كالخلد ضوع العناصر وترددات الزلازل المحتبسة في أحشاء التراب. الإنسان هو منظومة حواس لدى بيكه س. لا الحواس بمعناها الفيزيولوجي الخارجي بل بمعنى التصادي مع الموجودات كلها والاصغاء الى نبض العناصر. انه الصوت والصرخة والصدى في آن. انه الزهرة والأريج والأنف. وإذا كان الشاعر في مجموعته السابقة "سفر الروائح" اختزل العالم بحاسة واحدة هي حاسة الشم، فإنه في المجموعة الأخيرة "اناء الألوان" يحول كلاً من الجسد والروح الى عين ثاقبة كبرى. عين مفتوحة على نفسها كما على سائر المرئيات ومتربصة بما يتغلغل في أحشاء التراب أو ما يؤلفه الهواء المجرد من كريات الجمال العابر. كل حاسة عنده واقفة على أهبة الاستعداد لاكتناه ما يدور حولها من وقائع وتفاصيل وتشكلات. "إناء الألوان" هو كردستان نفسها وقد تجمعت في إناء الرؤية المفتوح على الرؤيا. فعبر قصيدة طويلة واحدة تتجاوز المئتين والثلاثين من الصفحات يندلق حبر الشاعر على الورق ويندلق معه ذلك الحِقُّ الهائل من الدلالات اللونية التي اتحدت في سبيكة واحدة هي الحياة. الحياة التي تقاوم موتها بالأظافر والأسنان كما بالألوان والروائح وقوة النماء والتجدد. لم يشأ شيركو بيكه س أن يضيف رقماً جديداً الى ذلك النوع من شعر "المقاومة" الذي يتغذى من الشعارات الطنانة ومنابر الزجل الشعري. لم يحول قصائده الى خطب معسولة الانتصارات أو الى هتافات جوفاء مملوءة بجثث الشهداء ودماء القتلى، بل الى نشيد داخلي مفخخ بالمشاهد الملغزة والاستعارات المدهشة تاركاً للمجاز نفسه أن يتدفق كالنهر في أوصال المعنى. المقاومة في هذا الشعر لا تأتي من الإعلان أو من الوعيد بل من التحالف المباشر بين المرئي واللامرئي. انها تصنع هنا من تضافر الألوان في إناء واحد. كل لون بمفرده هو معطى أولي قائم بنفسه من جهة وبما تكسبه العين الرائية من جهة أخرى. إذ ثمة "ألوان عديمة الأنوثة/ تشبه لون الكمنجة الخافتة التي فقدت عازفها/ تشبه صورة فقدت اطارها/ أو تمزقت احدى زواياها/ تشبه لون الجمرة الخامدة/ والرماد المستخرج من المدفأة". قد تكون كردستان بهذا المعنى مجرد تضاريس خالية من الحركة أو التوهج، كما هي الحال مع الكثير من الأماكن التي تنقصها حرارة الشغف أو جذوة الإرادة الإنسانية أو قوة التحديق في المستقبل. لكنها تخرج من سكونها المحايد وجمالها العديم الجدوى حين تعثر على كلمة السر التي تجعل القلب الإنساني حالاً من أحوال الطبيعة وجسداً آخر للثورة المواراة في الكائن. حين تفقد الموجودات ألوانها، بحسب بيكه س، تفقد قدرتها على الانوجاد أو التحقق. الجثث وحدها هي التي تفتقر الى اللون. أما ما عدا ذلك فالحيوات تتقلد ألوانها كما يتقلد الشاعر قصيدته والمحارب سيفه والطائر أغانيه. والألوان عند الشاعر ليست خاصية محصورة بالأجسام أو الظواهر، بل هي حضور رمزي يتجلى في الرجل كما في المرأة وفي الصفات كما في المثل وفي اللغة كما في الصمت: "انما اللون امرأة/ حين يحولنا الى أغنية قانية/ ويغطينا بالمحبة/ انما اللون شعر/ حين يصيِّرنا سؤالاً مصطبغاً بالورد/ ويغمسنا في الشكوك/ انما اللون منيَّة/ حين يجعل منا مجهولاً عديم اللون/ ويسلمنا الى اللامتناهي". الأنوثة والشعر والحزن والفرح والثورة هي تجليات ألوان يسهب الشاعر في صوغها والوقوف على أسرارها وخفاياها عبر تقاسيم شعرية لا تني تؤلف ملامحها وظلالها في الصور والدلالات. وعبر مقاطع صوتية غنية بالمفارقات تتحول المجموعة برمتها الى سمفونية من الاندفاعات والرؤى تهدأ سورتها حيناً لتتحول الى ترانيم صافية وتعنف حيناً آخر لتؤلف مضيقاً متوتراً من الصراخ الوحشي. كل ذلك يتم في النصف الثاني من المجموعة عبر تكرار النداءات - المفاتيح التي تتيح للقصيدة أن تجدد اندفاعتها بعد ركود موقت: "تعالوا ادخلوا ألواني/ فحين تتأملون عزلتي في الضياء/ تجدون لوناً ناصعاً/ صامتاً وحزيناً/ انه روح طفولتي في هيكل حياتي المزجج/ بقيت ساكنة وليس في نيتها الارتحال/ أو مغادرة الأراضي البكماء". وهذه الدعوة المفتاح "تعالوا ادخلوا ألواني" هي البديل الرمزي عن الدعوة المباشرة الى مقاومة الموت والحث على اجتراح الحياة من قلب العدم. ليس نداء لون الموت في نهاية المجموعة هو بالضرورة استسلام لليأس أو تنصل من المقاطع السابقة، بل هو تعامل مع الموت بصفته مصباً موقتاً لأنهار الألوان المتدفقة التي لا تلبث أن تعاود انبثاقها من جديد. فالموت وفق الشاعر ليس سوى استراحة عابرة في رحلة البحث عن الذات الفردية أو الجماعية. أو قل هو الاناء الساكن الذي ينتظر من يرجه مرة أخرى لكي تجدد الألوان نفسها عبر جيل لوني آخر. فالألوان تبلى كما تبلى العيون المحملقة. والشعراء وحدهم هم الذين يجددون المعادلة ويبتكر أرجوانهم خارج الكلام الرث وأصباغه الزائلة. لذلك يعلن شيركو بيكه س بثقة الشعراء الكبار: "في نيتي أن أغير لون الشعر/ الى لون لم تدركه اللغة بعد/ ولم تحلق في فضائه لغة بعد/ وإلا لن أكتب الشعر أبداً".