بين تأنيب الذات ولوم الآخر، سنواصل البحث عن صورتنا التي نريدها ولن نجدها... سنقول إن صورتنا في مرآة الآخر غير صحيحة. ولكن صورتنا التي نرسمها لأنفسنا غير صحيحة أيضاً. فمن نحن؟ إن التجريد لن يؤدي الى أي معنى. نحن، في وعي الغرب، مفهومٌ ذهنيّ مجرَّد. والغرب، في وعينا، مفهومٌ مُجرَّد أيضاً. كنا نُسمى شرقاً، ثم أصبحنا جنوباً. وها نحن نعود شرقاً بعدما انتصر الغرب على شرقه الايديولوجي مع نهاية الحرب الباردة، واحتاج الى اختراع شرقٍ جديد، لأنه لا غرب بلا شرق. فاخترعنا الغرب الرسمي مفهوماً مجرداً يصلح لأن يكون عدواً باسم مُوحد هو الإسلام. وعُرِّفت ثقافتنا بأنها ذات طبيعة واحدة وحيدة هي: الانغلاق على الذات، ممانعة الديموقراطية وحقوق الإنسان، وغيرها من القيم التي يرسم تبنيها، أو عدمه، حدود التناقض بين الثقافات، فتوضع ثقافة البلد الذي لا يتنبّى هذه القيم، مهما كانت الأسباب، خارج الاعتبار الإنساني. وهكذا، وجدنا أنفسنا نبحث عن خصوصيةٍ غامضة للدفاع عن كل ما فينا، وربما للدفاع الغبيّ عن الجوانب السلبية في ثقافتنا التي تتطلّب منا النقد. ووجد الكثيرون منا أنفسهم يدافعون عن تخلفنا، وعن "عبادة الماضي" رداً على عبادة "المستقبل"، لتبقى الهوةُ بين "نحن" و"هم" خندق الهويّة الأخير! هل نستطيع الكلام حقاً عن كيان عربي مُعرَّف؟ وعن إسلام واحد، في هذا الوقت؟ تجمعنا نحن العرب لغة واحدة وتاريخ مشترك. لكن حدودنا الداخلية ليست من صُنعنا. وحاضرنا الممزق يحول دون اتفاقنا على أية طريقة للذهاب الى مستقبل مشترك. فنحن لسنا كياناً واحداً إلاَّ في وعي الآخر. كما أننا لا نستطيع الحديث عن مشروع حضاري عربي معاصر، مؤهل لأن يكون طرفاً في حوارٍ متكافئ، أو في صراع مع الحضارة الغربية. لقد أقامت حضارتنا المجيدة في مكانها اللائق بها من تراثنا العربي - الإسلامي، ومن التراث الإنساني العام على السواء. ولن يفيدنا كثيراً تذكيرُ الغرب ببعض الأُسس العربية التي بنى عليها نهضته. وهل هناك أيضاً معبِّر واضح عن الثقافة الإسلامية الآن؟ فالعالم الإسلامي يشهد نقاشاً واسعاً حول الفصل بين النصّ المقدس وبين التأويل والاجتهاد في قراءة النص، لتكييف الإسلام مع متطلبات العصر. ويشهد نقاشاً حول ضرورة وضع الدين في حيِّزه الخاص. والإسلام، كأية ثقافة عالمية يحتوي على الكثير من التيارات، ولا يُختزل في ظاهرة واحدة هي الأصولية. من الناحية الأخرى، هل الغرب كيان أحاديُّ البُعد لا نرى منه غير العداء، ولا يفتح مجالاً واحداً للحوار، كما يراهُ أُصوليونا رداً على أصولية أخرى تقسم العالم، باللغة ذاتها، الى ثنائية الخير والشر، والى ثنائية المتحضر والمتوحش؟ تلك هي لغة الناطقين الرسميين باسم الثقافة الغربية الرسمية. لكن، توجد الى جانب هذه الثقافة ثقافات أخرى معارضة وتيارات مضادة. ولا يمكننا فهم أية ثقافة بمعزل عن هذه التيارات. إن أهم نُقاد الثقافة الغربية الحقيقيين هم من المثقفين الغربيين. وعلينا أن نعترف بأن مناخ العلاقة بين ما يُسمى ب"الشرق" وما يُسمى ب"الغرب" وصل الى ذروة من التوتر، وسوء الفهم، وعدم الرغبة في الفهم، تُنذرنا بأن الحرب الباردة تعود الى الاندلاع، بوسائل ساخنة، تحت لافتة "الصراع بين الحضارات" التي ترى أن الانقسام الأساسي دخل المجموعة البشرية سيتمحور حول العوامل الثقافية. إن هذه المقولة السياسية تشير الى أهمية العامل الثقافي في صوغ العلاقات بين الشعوب. ولكن السؤال الجدير بالاهتمام في هذا الشأن هو: كيفية استخدام هذا العنصر ايجابياً، أي كيف يُفَعَّل دوره الايجابي في تعميق الحوار بين الثقافات والشعوب بهدف التقريب بينها، بدلاً من استخدامه في ادارة الصراع. لكن أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر، والخلاصات التي توصل اليها الفكر الغربي الرسمي، جعلت مقولة "صراع الحضارات" سلعة رائجة كالكوكا كولا. فصورة الشرق تثبتت في إطار الأصولية الإسلامية. وصورة الغَرب تثبتت في إطار الهيمنة الأميركية. وفي عملية البحث عن ظاهرة الإرهاب، وهي ظاهرة عامة لا وطن لها ولا قومية ولا دين، تمّ التغاضي عن ضرورة البحث في الجذور، وتركزت مهمة البحث عن الارهاب في طبيعة الثقافة الإسلامية. وأُعيد تصوير الإسلام، لا بصفته مكملاً لليهودية والمسيحية، بل باعتباره عدواً ذا طبيعة سكونية، مغلقاً على ذاته، ومضاداً للعقلانية والحداثة ومخاطبة العصر. إن الحكم على الإسلام من خلال عمليات إرهابية قامت بها مجموعة من الأفراد المسلمين، هو كالحكم على المسيحية من خلال محاكم التفتيش والحروب الصليبية، أو كالحكم على اليهودية من خلال الجرائم التي يرتكبها جيش الاحتلال الاسرائيلي. أما مثقفونا، الأصوليون وغير الأصوليين، فإنهم قد يقعون في اغراء استخدام أداة القياس ذاتها، لمحاكمة الثقافة الغربية التي لم تحل دون نشوء الايديولوجيات الشمولية والعنصرية، ودون اندلاع الحربين العالميتين من أوروبا. إن نقد الثقافة ضروري دائماً لتجديد حيويتها، ولتطوير دورها في أنسنة العالم. لكن تبرئة ثقافة ما من أي اتهام، وكيلَ التهم كلها الى طبيعة ثقافة أخرى، هما أقصرُ الطرق لإغلاق الحوار بين الثقافات والشعوب. وهما إحياء لفكرة التفوُّق الحضاري التي تحمِّل صاحبها مهمة حضارية تعطيه الحق في استعمار الآخرين. إن صورة الغرب في الوعي العربي الآن هي صورة أميركا - السياسة لا أميركا - الثقافة. أميركا التي تقسم العالم الى ثنائية مانوية: إما معنا، وإما ضد الحضارة. أميركا التي تحالف أشد الأنظمة السياسية في العالم استبداداً وفساداً وعداء للديموقراطية وحقوق الإنسان. أميركا التي تحمِّل أساطيلها بصواريخ القيم الأميركية. أميركا التي لا تدافع عن "حق اسرائيل في الوجود" بل عن حق اسرائيل في حرمان الفلسطينيين من الحق في الوجود الوطني المستقل في وطنهم. يواجه العرب صعوبة كبيرة في فهم عجزهم عن الحضور في العالم ككيان دولي فاعل. ويلعنون القَدَر الذي بعث اليهم بالبترول وبالحدود المشتركة مع ولاية أميركية شرق أوسطية. لم تكتمل ذاتهم بعد. فهي مُوزعة بين ذاكرة حضارة سادت وبادت... وبين حضارة غرب هم جزء منه بالاستهلاك والتبعية، فلن يكون شريكاً غير المنتج. ولن يكون منتجاً إلاّ صاحب المنظومة الفكرية والعلمية التي جعلت المنتج منتجاً. وهكذا، يقفز العربي من هامش الى هامش، فلا هو هو، ولا هو غيره. هو جزء من العالم وهو خارجه في آن واحد. ويتساءل بمرارة: هل أستطيع مشاركة الآخر في حوار نديّ ما دمتُ عاجزاً عن الحوار مع نفسي من منظور نقديّ؟ ولم يجعلني الآخر عدواً له ما دمت أنا عدوّ نفسي؟!