عندما اتصل السفير السوري السابق محمد خضر بالدكتور بشّار الأسد في مستشفى "وسترن آي" في لندن، حرص ألا ينقل إليه خبر وفاة شقيقه الأكبر باسل، مكتفياً بابلاغه عن تعرضه لحادث سيارة 21 كانون الثاني/ يناير 1994. ولكن الحاح السفير على ضرورة سفره إلى سورية صباح اليوم التالي بناء على رغبة والده الرئيس حافظ الأسد، كان بمثابة تحضير لنبأ مفجع بانت نذره فور وصول الطبيب الشاب إلى مطار دمشق. وهكذا اضطر بشار الأسد لأن يقطع فترة الاختبار والتدريب بعد أكثر من سنتين أمضاهما في بريطانيا، كي يتفرغ لمهمة ليست لها أي علاقة بالمهنة التي اختارها لمستقبله. ومع ظهوره المفاجئ على صفحات الجرائد، ظهرت سلسلة مقالات في الصحف البريطانية كتبها أطباء ممن زاملوه خلال تلك الفترة. وامتلأت غالبية تلك المقالات بعبارات الدهشة والاستغراب لأن رفيق الدراسة بشّار استطاع أن يخفي بتحفظه وتواضعه صورته الأخرى. وكتب مدير المستشفى كلايف ميغدال مقالة في "ذي تايمز" تحدث فيها عن دماثة الطبيب المتمرن ومزاياه، معترفاً بأن السيارة التي كان يملكها لا تدل إلى موقعه السياسي والاجتماعي في بلاده. ومن إطار صورة الطبيب المغمور الذيء غادر لندن على عجل منذ ثماني سنوات تقريباً، يطل غداً الأحد 15 الجاري الرئيس بشار الأسد ليحل ضيفاً على رئيس وزراء بريطانيا طوني بلير. كما تطل برفقته أيضاً عقيلته اسماء الأخرس 27 سنة كريمة الطبيب فواز الأخرس، التي ولدت في لندن وعاشت في منطقة "أكتون" والتقت الطالب بشّار مصادفة في إحدى حفلات الجمعية السورية. وكان ذلك بعد تخرجها من "كوينز كولدج" حيث تخصصت في علوم الكومبيوتر والانترنت وباشرت عملها في "دوتش بنك" ثم انتقلت إلى شركة الاستثمار والمال العالمية "جي بي مورغان". ويستدل من سيرة ضيفي حكومة بلير أن بريطانيا ليست جديدة على اختباراتهما ودراتيهما بشؤونها وشجونها. ولكن الجديد في الأمر أنه لم يحدث في تاريخ العلاقات السورية - البريطانية أن زار رئيس سوري بعد الاستقلال 1946 لندن كضيف رسمي. صحيح أن مسؤولين سوريين - سياسيين وعسكريين - زاروا لندن في مراحل متباعدة قبل أن يصبحوا رؤساء مثل ناظم القدسي وحافظ الأسد... ولكن الصحيح أيضاً أن تلك الزيارات بقيت محصورة في نطاق برامج الوفود العادية. والشيء ذاته ينسحب على البريطانيين الذين دشنوا أول علاقة على مستوى الرئاسة بالزيارة التي قام بها طوني بلير قبل سنة تقريباً. ولولا الخلاف العلني في وجهات النظر بينه وبين الدكتور بشّار لكانت زيارة الرئيس السوري لبريطانيا تمت قبل هذا الوقت. ومعروف أن الخلاف كان حول أزمة الشرق الأوسط وما تستدعيه خطوات التفاهم بين الموقفين العربي والإسرائيلي. ويبدو أن العمليات الدموية التي أمر شارون بتنفيذها خلال تلك الفترة لم تكن لتسمح بأي ترتيب للتسويات المقترحة. لذلك حمل الأسد بعنف على إسرائيل ووصفها بأنها "دولة الإرهاب"، معتبراً دور الانتفاضة الفلسطينية شبيهاً بدور المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازي أثناء الحرب العالمية الثانية. وكان من الطبيعي أن تحمل الصحف البريطانية المتعاطفة مع إسرائيل على طوني بلير وتتهمه بالتخاذل والجبن لأنه سكت عن اهانة حكومة شارون. الديبلوماسيون العرب في لندن يعتبرون هذا الخلاف العابر بسيطاً إذا ما قيس بالخلاف الذي حصل بين الدولتين سنة 1986. أي يوم قرر "الموساد" افتعال حادث أدى انكشافه إلى قطع العلاقات بين البلدين لمدة تزيد على ست سنوات. ذلك أنه جند لهذه الغاية شاباً أردنياً يدعى نزار هنداوي استطاع عن طريق التضليل والابتزاز أن يؤدي دوره بمهارة كعميل مزدوج. ولكنه سقط في الفخ الذي نصبته له الاستخبارات الإسرائيلية بهدف ارغام رئيسة الوزراء مارغريت ثاتشر على طلب إبعاد السفير السوري آنذاك لطف الله حيدر. واتهم هنداوي أنه ضلل خطيبته الايرلندية الحبلى آن - ماري ميرفي حين ارسلها في مهمة قاتلة على متن طائرة "العال" بحجة التعرف إلى عائلته قبل الزواج. وتقضي الخطة المدروسة بإحكام أن تتسلم آن - ماري هدية صديقها في المطار قبل انكشاف أمرها بواسطة عميل من "شين - بيت" يسمح له بمراقبة كل حقائب ركاب "العال". وصادر العميل المزروع بين موظفي مطار "هيرو" حقيبة آن - ماري المفروض أن تحتوي على هدية لعائلة هنداوي، ثم تبيّن أن هناك قطعة من مواد "سامتكس" السريعة الانفجار مخبأة في قعر الحقيبة. واستغلت إسرائيل هذه القرينة لتربط بين محاولة لجوء نزار هنداوي إلى السفارة السورية وبين عملية تفجير "العال" بركابها ال355. ودخلت على خط التحريض الصحف التي يملكها اليهودي روبرت ماكسويل لتطالب بطرد السفير وتصفه في افتتاحيتها بأنه "سفير الموت". بعد مرور أسبوعين على صدور حكم المؤبد على نزار هنداوي، نشر الصحافي الأميركي ارنولد دي بورشغريف حديثاً أجراه مع رئيس وزراء فرنسا في حينه جاك شيراك. وتطرق شيراك في المقابلة إلى المحادثات التي يقوم بها مع دمشق من أجل الافراج عن ثمانية رهائن أجانب يحتجزهم "حزب الله". وفجأة، تحول الحديث إلى عمليات الإرهاب، فإذا بشيراك يستشهد بكلام المستشار الألماني هيلموت كول، وقوله إن الرئيس حافظ الأسد أبلغه أن مسرحية نسف طائرة "العال" هي من انتاج واخراج "الموساد". ولم يمض وقت طويل على نشر هذا الحديث حتى صدرت سلسلة كتب عن العمليات السرية التي نفذها "الموساد" في مختلف قارات العالم. وكان أبرزها ما كشفه آري بن مناشه، المدير السابق لمكتب اسحق شامير، حول ما يسمى ب"العمليات السوداء". واعترف في مذكراته أنه اطلع على ملف التحضير لعملية طائرة "العال"، وأن الحكومة الإسرائيلية طلبت من "الموساد" تخريب العلاقات السورية - البريطانية خوفاً من تنامي التعاون السياسي والاقتصادي بين الدولتين. ثم صدر كتاب آخر بعنوان "جواسيس جدعون" للمؤلف غوردن توماس يشير فيه إلى حادث طائرة "العال" التي يعتبرها نموذجاً لما يمكن أن تحققه الاستخبارات الإسرائيلية من اختراق على المستوى الدولي. كانت حرب الخليج الثانية نقطة تحول بالنسبة لعلاقات سورية مع بريطانياوالولاياتالمتحدة. وأدى انضمامها إلى دول التحالف إلى تسهيل إعادة العلاقات الديبلوماسية بينها وبين لندن. ولكن الرئيس حافظ الأسد لم ينس طلب الاعتذار من حكومة مسز ثاتشر بعدما حصل على معلومات دقيقة تثبت تورط "الموساد" في العملية التي قادت إلى قطع العلاقات الديبلوماسية بين سورية وبريطانيا. كما لم ينس سفيره محمد خضر - الذي اختير للمنصب فور إعلان عودة العلاقات - أن يذّكر وزير الخارجية دوغلاس هيرد بضرورة مراجعة ملف العملية المريبة. وكان يأمل بصدور اعتذار علني تعترف فيه مسز ثاتشر بأنها وقعت هي الأخرى في مصيدة "الموساد"!! الانفراج السريع في العلاقات السورية - البريطانية أثبت للسفير خضر أن حزب المحافظين يريد التعويض عن الفترة الزمنية التي شهدت مراحل القطيعة الديبلوماسية. ولما وصل حزب "العمال" إلى الحكم، سعى طوني بلير إلى توسيع رقعة التعاون بهدف تجسير الهوة التي تعمقت بين البلدين خلال الثمانينات. وأرسل رئيس الوزراء صديقه اللورد ليفي في زيارات متكررة إلى سورية كانت تجمعه بالرئيس الأسد على أمل أن تؤدي وساطة بريطانيا إلى تحريك عجلة السلام المجمدة. ورافق ليفي وزير الخارجية روبن كوك إلى دمشق أثناء مشاركة الوفد البريطاني في مراسم تشييع الرئيس حافظ الأسد. واغتنم الوزير كوك هذه المناسبة للاجتماع بالوريث بشّار الأسد الذي حدثه عن الالتزام بالثوابت التي حددها والده، وبضرورة تطوير العمل السياسي وتحديث النظام الاقتصادي. وهكذا دشن بداية التحول في مسيرة الإصلاح الاقتصادي بعقد مؤتمر في لندن تحت عنوان: "سورية نحو فجر جديد في حقول الأعمال والتجارة والاستثمار". واعتبر ذلك المؤتمر بمثابة الإعلان عن رغبة سورية في لعب دور الشريك والرابط بين أوروبا والعالم العربي. وهو دور صعب طالما تمنى الرئيس حافظ الأسد أن يؤديه الاتحاد الأوروبي نيابة عن الولاياتالمتحدة التي دمرت بانحيازها الأعمى لإسرائيل كل مبادئ الوساطة المتزنة والدور المتوازن. وربما يحمل الدكتور بشار الأسد في محادثاته طوال الأيام الثلاثة المقبلة بعض هذه التطلعات، خصوصاً أن بريطانيا قادرة أكثر من فرنسا والمانيا على تخفيف درجة حساسية العلاقات بين دمشق وواشنطن. تقول الصحف البريطانية إن طوني بلير يتمنى وقوف سورية إلى جانب القوى المعارضة للنظام العراقي، مثلما وقف والده عام 1991 مع التحالف الدولي. ولكن للدكتور بشار الأسد رأياً مختلفاً لم يتراجع عنه منذ لقائهما في دمشق، وإعلانه أن سورية لن تشارك في الائتلاف المناهض للعراق ما دامت بغداد حريصة على تنفيذ قرارات مجلس الأمن. أما بالنسبة للعملية السلمية التي ينتظر أن تكون محور المحادثات، فإن الأسد سيكرر على مسمع بلير ما قاله للمبعوث الياباني منذ أسبوعين: "إن موضوع العراق يعد الأخطر على المدى القصير بسبب السعي المتواصل إلى زعزعة النظام الاقليمي واستبداله بنظام جديد تكون فيه الهيمنة لأميركا وإسرائيل. أما الصراع العربي - الإسرائيلي فيبقى الأخطر على المدى البعيد بسبب اقترانه بموضوع إقامة الدولة الفلسطينية، وامتناع إسرائيل عن تنفيذ قراري مجلس الأمن 242 و338. ومعنى هذا أن المحادثات قد تقود إلى بعض التغيير في الموقف الأميركي تجاه سورية إذا نجح بلير في تحسين مستوى العلاقات المتوترة بين دمشق وواشنطن، خصوصاً بعدما صنف وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد سورية بين دول الإرهاب مثلها مثل العراق وكوريا الشمالية وليبيا وكوبا. تحرص الصحف السورية على إبراز الخط السياسي الذي يلتزمه الدكتور بشار منذ توليه سدة الحكم خلفاً لوالده. أي الخط الذي أمن الاستقرار لمدة 37 سنة من بين 57 سنة هي عمر الدولة السورية. وهي تشير إلى الوثيقة التي ارسلت إلى الأممالمتحدة، باعتبارها تمثل أول اتفاق سلام عقد في العالم سنة 2350 قبل الميلاد. وعقد في حينه بين مملكة ايبلا والممالك الأخرى المجاورة، وربما أرادت سورية من وراء ارسال نسخة من هذا الاكتشاف التاريخي إلى الأممالمتحدة، اظهار توقها إلى عقد اتفاقات سلام شرط أن تكون عادلة ومفيدة مثل اتفاق مملكة ايبلا... * كاتب وصحافي لبناني.