مسكين الشارع العربي. أصبح موضعاً للاستخفاف يتندر عليه البعض، أو مستحقاً للرثاء ينعاه بعض آخر. بدأ الاستخفافُ به ورثاؤه عربيا، وانتهى عالميا. فمنذ نحو عامين، وبعد اندلاع انتفاضة الأقصى الباسلة، خرجت تظاهرات في عواصم عربية عدة للتضامن معها والاحتجاج على جلاديها. ولكن حجمها كان محدودا، فضلا عن أنها أخذت في الانحسار. فلم تمض شهور حتى كان الشارع العربي قد خلا من مظاهر التضامن مع الانتفاضة. ورغم أن الاجتياح الإسرائيلي للضفة الغربية طول شهر نيسان أبريل الماضي، أعاد الحركة إلى الشارع في بعض البلاد العربية، إلا أنها كانت أقل مما حدث في بداية الانتفاضة. وسرعان ما انحسرت ولم يغير تصاعد التهديد الأميركي بشن هجوم عسكري على العراق من هذا الأمر شيئا. وأثار ذلك إحباط سياسيين ومثقفين عرب كانوا يعولون على دور الشارع، ونال الاحباط من بعضهم إلى حد دفعهم إلى اتهام الشعوب العربية بالعجز في سياق ينم إما عن استخفاف بها أو رثاء لها. والجديد الآن أن هذه النظرة السلبية الى الشارع العربي تأخذ طابعا عالميا. قبل أسابيع، نشرت مجلة "الايكونومست" تقريراً لافتا عما اعتبرته موت هذا الشارع. وبعدها بقليل نشرت صحيفة "الديلي تلغراف" مقالة قاسية كتبها جيرالد بات تحت عنوان الأميركيون يحتجون على ضرب العراق والعرب صامتون قارن فيه بين ما حدث في مدن أميركية عدة خرجت فيها التظاهرات وما لم يحدث في المدن العربية. وكان أقسى ما استنتجه هو أن العرب صاروا أمواتا ينظرون للأحداث بلا مبالاة متوقعا أن لا تتجاوز ردود فعلهم يوم ضرب العراق تجمع عشرات لحرق العلمين الأميركي والإسرائيلي والرقص حولهما. وليس الإعلام الغربي فقط الذي يستخف بالشارع العربي أو يرثيه. كونداليزا رايس مستشارة الأمن القومي الأميركي نحتْ هذا المنحى في مقابلة أجرتها معها صحيفة "فاينانشيال تايمز" أخيرا. فقد حكمت على الشعوب العربية بالعجز عن المطالبة بالديموقراطية، الأمر الذي يضع على واشنطن عبء تحرير العالمين العربي والإسلامي من الطغيان! إن ما يقال عن الشارع العربي، في بلادنا وفي غير بلادنا، يعبر عن واقع ملموس. ولذلك فهو صحيح فقط في حدود أنه رصد لهذا الواقع عبر إعمال منهج الملاحظة في البحث الاجتماعي. ولكن الاعتماد على هذا المنهج يفضي إلى نتائج سطحية، ما لم يقترن استخدامه بنظرة تحليلية تهدف إلى الإجابة على السؤال الذي ينجم عن ملاحظة أي شيء في الواقع، وهو: لماذا حدث وكيف؟ فالشارع العربي لم يكن هامدا على هذا النحو قبل عقود عدة، بل إن الإحباط المترتب على انصرافه عن الفعل يرجع في جانب أساسي إلى تاريخ هذا الشارع في غير بلد عربي. فكانت حركة هذا الشارع في سورية والعراقوالأردن ولبنان وغيرها هي التي حولت جمال عبد الناصر في منتصف خمسينات القرن الماضي من رئيس لمصر الى زعيم للقومية العربية. وكأن هذا الشارع كان ينتظر قرار تأميم قناة السويس في العام 1956 ليتوج نضالات عقود عدة ضد الاستعمار البريطاني والفرنسي، وليحول عبد الناصر إلى "بطل أسطوري" على حد تعبير الرئيس الراحل أنور السادات فى كتابه "البحث عن الذات". وحتى في البلاد التي كانت حكوماتها تناصب عبد الناصر العداء، مثل العراق، فرض الشارع على حكامه تأييد قرار التأميم واعلان أنه حق سيادي لمصر. وجاء العدوان الثلاثي ردا على تأميم القناة فنقل حركة الشارع العربي الى مستوى أعلى. فخرجت تظاهرات كبيرة في ست عواصم عربية على الأقل تستنكر العدوان وتطالب بمساندة مصر. وكانت المساندة الشعبية من القوة إلى حد أنها فرضت على حكومة نوري السعيد المعادية لنظام عبد الناصر أن تتخذ إجراءات عملية تضامنا معه ضد العدوان، مثل قطع العلاقات الديبلوماسية مع فرنسا، واستبعاد بريطانيا من المداولات الخاصة بحلف بغداد. كان هذا هو آخر عهد للشارع العربي بالتحرك الفاعل والمشاركة المؤثرة في قضايا أمته بهذا الشمول، وإن ظلت هناك حركة مؤثرة في قليل من البلاد بعد ذلك أهمها في سورية حين ساهم الشارع في فرض الوحدة الإندماجية مع مصر في العام 1958، وفي الأردن عندما فرض الشارع أيضا على العاهل الراحل الملك حسين إنهاء خلافه مع عبد الناصر وقيادة طائرته إلى القاهرة لتوقيع اتفاق دفاعي عشية حرب 1967. وهكذا شهدت خمسينات القرن العشرين آخر مشاركة واسعة للشارع العربي في قضايا أمته، وإن بقي قليل من مظاهرها في العقد التالي. وكانت هذه المشاركة امتدادا لدور الشارع في الكفاح الوطني ضد الاستعمار في مصر والعراق والمشرق العربي، قبل أن تفرض النظم الوطنية عليه أن يستقيل من هذا الدور. في مصر، مثلا، كان شعار "الاستقلال والدستور" الذي ربط القضيتين الوطنية والديموقراطية يلخص في شكل مكثف الطابع الشعبي للنضال ضد الاستعمار. وأخذ هذا الطابع ينحسر منذ أواخر الخمسينات مع رفع شعار لا مكان لدور الشعب أو الشارع فيه، وهو "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة". وتمت تنشئة أجيال عدة على هذا الشعار الجديد، الذي انتشر مضمونه في بلاد عربية أخرى صودرت فيها حرية الإنسان في التعبير والتنظيم والإضراب والتظاهر. فلم يعد في إمكان الشارع أن يتظاهر حتى إذا كان الهدف هو تأييد حكومته الوطنية ضد العدو الإسرائيلي أو في مواجهة ضغوط تعرضت لها من قوى خارجية. وأصبح أهم مواصفات المواطن الصالح هو أن يبتعد عن السياسة فلا يقربها تحت أي ظرف. وتعرض الشارع الى قمع تفاوت مداه من بلد الى آخر، وخلق خوفا ما زال يتلبس الناس ويدمر روحهم المعنوية ويدفعهم الى ممارسة رقابة ذاتية على أنفسهم. وهكذا تم الفصل بين المسألتين الوطنية والديموقراطية، وصارت الأولى حكرا للدولة فيما ألغيت الثانية، مما خلق أوضاعا قادت ليس فقط إلى إنهاء دور الشارع ولكن أيضا إلى تسطيح وعيه بالمسألتين معا وخصوصا المسألة الديموقراطية. ففي القضايا الوطنية، يمكن للمشاعر أن تعوض غياب الوعي وتدفع الى استعادته بدرجة أو بأخرى. وهذا هو ما حدث في مصر عقب هزيمة 1967، ولكن في قطاعات محدودة أهمها طلاب الجامعات الذين أعادوا في الفترة حتى 1973 أمجاد الشارع حين كان هو الذخر للحركة الوطنية. ولكن ظل حجم الحركة الشعبية محدودا وأثرها أكثر محدودية في ظل هيمنة الدولة المستقلة على المجتمع، بخلاف ما كان عليه الحال في معارك الكفاح الوطني من أجل الاستقلال. أما المسألة الديموقراطية فقد غيبها تضاؤل الوعي بها. ولذلك فليست مصادفة أنه لم تخرج تظاهرة واحدة في الشارع العربي للمطالبة بالحرية، فيما شهد هذا الشارع تظاهرات محدودة عدة خلال العقود الثلاثة الأخيرة من أجل فلسطين، وأخرى أوسع نطاقا نسبيا من أجل الخبز احتجاجا على رفع الأسعار. وفي ظل تغييب المسألة الديموقراطية، تم إلحاق مؤسسات المجتمع وهيئاته ونقاباته بالدولة التى تحتكر ممارسة السياسة، أو التي تسمح بهامش للمجتمع تحدده هي وتراقب الالتزام به. فلم يعد في بلادنا العربية الآن نقابات عمالية مستقلة مثل تلك التي قطعت إمدادات النفط في حرب 1956 ورفضت تفريغ سفن الدولتين المعتديتين في بعض الموانئ. فالنقابات التي كانت حرة تتمتع باستقلال قرارها صارت ملحقة بالدولة خاضعة لتوجيهاتها. وقل مثل ذلك عن مختلف قطاعات المجتمع التي تشكل ما يصطلح على تسميته "الشارع العربي". وهكذا فقد الشارع حريته وبالتالي قدرته على المشاركة في قضايا أمته، وحيويته التي كانت في مرحلة الكفاح من أجل الاستقلال الوطني. والغريب أن بعض أكثر من يتهمونه بالعجز الآن أيدوا نزع حريته التي أتاحت له القدرة على التأثير في مرحلة سابقة، بل كان بعضهم مسؤولين في نظم الحكم التي فعلت ذلك. ولم يبادر أي منهم الى نقد ذاتي أو حتى الى مراجعة موقفهم الذي لا يزال أسير شعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، إذ يرفضون أي حديث عن مسؤولية الاستبداد في العراق وعن الكارثة التي تحدق به بدعوى أنه ينطوي على تبرير للاعتداء الأميركي المتوقع. وهذا هو أيضا حال غيرهم ممن تولوا سابقا مناصب تنفيذية في نظم الحكم التي قوضت دور الشعوب وحاصرت الشارع. ومع ذلك مازالوا يطالبون الجماهير بالتحرك وأداء دورها الرئيس والحاسم في مجابهة التحدي واطلاق قوة الضغط المطلوب لكبح جماح العدوانية الأميركية والصهيونية ويدعونها إلى اعتصامات ومسيرات شعبية وتظاهرات وفعاليات مختلفة في كل الساحات العربية كما ورد في البيان الختامي للدورة الطارئة للمؤتمر القومي العربي في بيروت قبل أيام. والملاحظ أن عشرة من المشاركين في هذه الدورة تولوا مناصب أقلها وزارية في نظم الحكم التي حظرت كل أشكال الاعتصامات والمسيرات والتظاهرات في مصر والعراق وسورية واليمن. ومع ذلك فهم يطالبون الشارع، الذي نشأت غالبيته الساحية على الخوف بل الذعر من كلمة تظاهرة أو اعتصام، بأن يتظاهر ويعتصم! وهذا الموقف المقابل للاستخفاف بالشارع والتندر عليه يقود إلى النتيجة نفسها، وهي استمرار الاحباط وازدياده. فلا القفز على واقع انصراف الشارع العربي ولا هجائه بسبب هذا الانصراف يغير واقعاً تم تكريسه على مدى عقود عدة، ولا يمكن البدء في تغييره إلا بمراجعة أمينة لما حدث في بلادنا خلال هذه العقود بمنأى عن التحيزات الفكرية والأهواء الأيديولوجية. وإلى حين يتيسر ذلك، سيظل الشارع العربي مفترى عليه. * نائب مدير مركز "الأهرام" للدراسات السياسية.