يدور جدال بين الاقتصاديين في شأن تحديد رقم الاموال التي حصل عليها رجالُ اعمال في مصر فرّوا الى الخارج. ويُقدر الرقم بين 20 بليوناً و30 بليون جنيه او حتى 40 بليوناً. ويحاول كل طرف تقديم حجج ليبرر الرقم الذي يعتمده. ويبقى السؤال كيف تستطيع الحكومة او غيرها استعادة هذه الاموال واعادة ضخها في الاقتصاد القومي، وبالتالي حل مشاكل عدة تواجهها البلاد بعد خروج جزء من الاستثمارات الاجنبية اثر احداث ايلول سبتمبر 2001. تتحدث القاهرة حالياً عن أهمية عودة "الاموال الفارة"، اذ ان الوضع الراهن في حاجة ماسة الى تغيير افكار وتطوير رؤى وانعاش اقتصاد، وكل ذلك رهن بالحصول على استثمارات. ويجمع اقتصاديون على ان توفير مليون فرصة عمل سنوياً، كما اعلنت الحكومة مطلع السنة الجارية في اطار خطة تستمر اربع سنوات، يتطلب توفير استثمارات بحجم 70 بليون جنيه وتحقيق معدل نمو 6 في المئة سنوياً. ويمكن طرح السؤال التالي: "كيف نسعى لاقناع الاستثمارات الاجنبية بالتدفق الى مصر واموالنا المنهوبة امام اعيننا وبين ايدينا لا نستطيع استردادها؟". ويرى الرئيس السابق لجمعية رجال الاعمال المصريين سعيد الطويل أن هدف الحكومة لحل مشاكل البطالة جيد وينبغي العمل من اجله "لاننا نعاني بطالة حقيقية منذ مطلع التسعينات حتى الآن، ولدى الحكومة التصورات لعلاج المشكلة لكن ما يثير دهشتي ان الحكومة تقرر الاهداف لكن وسيلة التنفيذ ليست جيدة والارض لا توالي تحصد خللا واضحاً من بذور فاسدة غرسناها بأنفسنا وبإرادتنا المركزية وليس بأمر شورى، واوكلت الحكومة الى القطاع الخاص توفير 830 الف فرصة اذ ان الاستثمارات المطلوبة لتوفير فرص عمل مستقرة ودائمة لهذا العدد وبشكل سنوي تتطلب عشرات البلايين". السياسة النقدية ويؤكد الطويل ان عودة تلك الاموال اُدرجت بالفعل في مفكرة الحكومة وهي تحاول، لكن عليها في الاساس اعادة النظر في السياسة النقدية ما يعني خفض اسعار الفائدة، لان ارتفاعها يعني ارتفاع كلفة التشغيل والحد من التوسعات، كما يمثل ذلك عامل طرد للاستثمار المباشر لصالح الاستثمار غير المباشر الذي يتسم بقصر فترة بقائه، و"عندما اثير جدل في شأن عودة الاموال العربية المهاجرة، عقب اعتداءات ايلول 2001، طالبنا الحكومة باستقرار تشريعي وتوضيح الهدف منه كون ذلك ضرورة لا غنى عنها حتى لا يتعرض المستثمر لحالة من البلبلة والقلق، وعلى الحكومة اعتبار ان الاموال المصرية الهاربة هي اموال مودعينا لكن مسألة عودتها لا بد ان ترتبط بتشريعات جادة". ويضيف الاقتصاديون بُعداً مهماً إذ يطالبون الحكومة باعتبار حوادث هروب المتعثرين بأموالهم مثل اعتداءات ايلول بالنسبة للعالم، فكل الدول تعثرت وتحتاج الى جذب اموال خارجية بعد ايلول وفي مصر تأثرت كل القطاعات بموضوع المقترضين وينبغي ايجاد حالة تنافس شريف بين هذه القطاعات وجذب كل قطاع ما يخصه، وهناك المصارف والشركات والافراد لها نسبة من الاموال الهاربة، ولتستقيم الامور بصورة تُبعد الخطر المنتظر لا بد من اعادة الاموال لتوفير نحو مئة الف فرصة عمل على الاقل من بين ال 830 الف فرصة الموكلة للقطاع الخاص. وترى منظمات أعمال عدة ضرورة توخي أخطاء سابقة ارتكبت في كل القطاعات خصوصاً أن الامور مُهيأة للاستثمار الجيد لهذه الاموال، لكن تلك المنظمات تستبعد أن تعود كسابق عهدها قبل حصول رجال الاعمال المتعثرين عليها. وترى المنظمات بارقة امل بعد الدعوة الصريحة للحكومة وليس بالاسلوب الذي تبناه البعض بمنطق عفا الله عما سلف لكن بأسلوب التفاوض المنطقي السليم، فرجال الاعمال والحكومة على حد سواء يرتضون المصلحة العامة وازدهار الاقتصاد ينعكس على الجميع وليس لفئة دون اخرى. القانونيون ويرى قانونيون بارزون ضرورة تهيئة المناخ الداخلي اولاً توطئة لعودة الاموال الفارة، ويصف مستشار في محاكم الاستئناف العالي سابقاً، والمحامي لدى الدستورية العليا والنقض المستشار حسن عمر، المشكلة بانها "الاخطر... وكأننا نلوث كوب الماء الذي نشرب منه، وما يجري هو دائرة ستطال الجميع وليس من هم تحت المقصلة الآن". ويشبّه ما يحدث حالياً بما جرى سابقاً عندما بنينا بيوتاً على الارض الزراعية وتركنا الصحراء كما هي... كيف يتم ذلك؟ وهناك خلل واضح، وبالتالي لا يمكن اجتذاب تلك الاموال ما لم نعطِ دفعة للفار بهذه الاموال كي يعود الى وطنه، المهم ان يقتنع المتعثر لا ان تقتنع الحكومة. ويرى المستشار حسن عمر ان ما يحدث في مصر حدث في دول اخرى، مثل اليابان، لكن التعاطي مع الامور مختلف تماماً، الدول الاخرى عملت بمبدأ إذا فسد احد الابناء لا داعي للتشهير به وعلينا تقويمه وحماية الآخرين من الوقوع في خطئه، لكن ما يحدث اننا شهّرنا بالمخطئ وبالتالي شهّرنا بأنفسنا لان ما نشهّر به هو جزء منا. ويؤكد عمر على ضرورة التفاوض مع المتعثرين اولاً وتشكيل لجنة تضم جميع الاطراف للبحث في المشكلة قبل اللجوء الى القضاء كون الامر يتعلق باقتصاد قومي، مؤكداً ان اجتذاب الاموال الفارة لن يتم قبل تشكيل لجنة وتحديد موقف كل متعثر وايضا موقف المصارف التي تتحمل الخطأ نفسه كونها اعطت من لا يستحق أو اعطت من دون البحث اللازم عن رجل الاعمال. ويحذر عمر من الدعاوى القضائية في الاوضاع الاقتصادية كون ذلك سيؤدي الى هروب اكبر للاستثمار الداخلي لان مجرد احالة رجل اعمال او متعثر او شركة بعينها الى القضاء يضر بالسمعة. ويختتم عمر رأيه بأن رأس المال جبان لا ينبغي محاربته بالقضاء الجنائي. البرلمان من جهة اخرى يبدو أن عملية استعادة الاموال الفارة ستأخذ بُعداً جديداً في الدورة المقبلة لمجلس الشعب إذ ان هناك عدداً من الاعضاء سيقدم مذكرات الى الحكومة في شأن التعاطي مع هذه الأزمة لتنتقل قضية المتعثرين عن سداد قروض مستحقة عليهم الى البرلمان. وتلقى رئيس الحكومة اول مذكرة من نوعها قدمها نائب من جماعة "الاخوان المسلمين" في شأن فرار مقترض على رغم وجود سابقة هروب اخرى له. ويقول النائب حمدي حسن في مذكرته الى رئيس الوزراء إن "التصريحات التي اطلقت في الآونة الاخيرة لم تمنع استمرار مسلسل فرار المتعثرين حيث تمكن احدهم، وهو قيادة مهمة في احدى الغرف التجارية، من الفرار بقارب من الغردقة بعد اقتراضه 300 مليون جنيه على رغم فراره سابقاً وعودته لتسوية ديونه، غير أنه تمكن من الفرار مجدداً"، وطالب النائب الحكومة باعلان حجم القروض المتعثرة واسماء المقترضين والمصارف المقرضة والاجراءات التي اتخذت ضد المسؤولين. وكان القضاء تحفظ عن اموال حوالى تسعة من كبار المستثمرين المصريين وعدد من مسؤولي المصارف خلال الاسبوع الماضي. وتحدثت الحملات الصحافية عن "عالم الكبار" المتعثرين الذين تولوا مناصب سياسية داخل الحزب الوطني الحاكم أو في البرلمان. وربطت الحملات الصحافية للمرة الاولى بين استخدام "المتعثرين" لاموال المصارف في انشطة اعتبرها المنتقدون "غير نافعة للمجتمع" وبين "اهدار للمال للعام".