على غير العادة، يجتمع السوريون امام قنوات التلفزيون السوري في شهر رمضان "القناة العامة، الثانية والفضائية" بينما يميلون في معظم شهور السنة الى متابعة الفضائيات العربية والأجنبية. والسبب الرئيسي يعود الى رغبتهم الشديدة في متابعة الدراما المحلية، لما قدمته لهم في السنوات الأخيرة من مفاجآت، وأفكار جديدة ومتعة مضاعفة. وعلى رغم هذا الشغف، بات حضور الدراما الكثيف، يثير الكثير من الأسئلة والملاحظات ويفتح الباب واسعاً للتساؤل عن ماهيتها وغيابها طوال شهور السنة ومن ثم ظهورها بقوة غير مسبوقة في رمضان... أي أنها تغيب أحد عشر شهراً لتظهر شهراً واحداً فقط حتى أننا نستطيع تسميتها الدراما الرمضانية وتجاوزاً نقول الدراما السورية الرمضانية... صحيح أن الأعمال السورية تكاد لا تغيب عن الفضائيات العربية طوال العام، لكن الأعمال المعروضة بمجملها تكاد تكون عرضاً ثانياً أو ثالثاً بعد العرض الرمضاني، وتبقى جماهير المتفرجين تجتر ما شاهدته في رمضان أو سمعت أنه - عرض في رمضان - طوال العام. على القياس وإذا ما نظرنا الى التلفزيون السوري بقناتيه الأرضيتين في العام المنصرم، نجد أنه لم يعرض أكثر من 10 إلى 15 عملاً درامياً منها ثلاثة أعمال أو أربعة عرضت في رمضان السابق والبقية أعمال جديدة وهي في كل الأحوال لا ترقى إلى المستوى العالي والإنتاج الضخم الذي يميز الأعمال الرمضانية، بينما نجد في رمضان الحالي أن القناة الأولى وحدها تعرض أحد عشر عملاً درامياً يومياً والقناة الثانية تعرض ستة أعمال ومن هذه الأعمال السبعة عشر هناك عمل مصري هو "فارس بلا جواد" وآخر إيراني هو "أهل الكهف" والبقية أعمال سورية بحتة وكلها جديدة مصممة على قياس رمضان ولنأخذ القناة الأولى مثلاً. فكمية الأعمال المعروضة على قناة واحدة - تبدأ من التاسعة صباحاً وتنتهي بعد منتصف الليل - تدعونا الى السؤال عن الوقت الذي يحتاج اليه هذا العرض؟... إثنتي عشرة ساعة... حسناً، وما هو الوقت الذي يملكه المشاهد ليتابع هذه الأعمال ومعظمها جيد إذا ما قورنت بالأعمال في الأوقات العادية التي تعرض في غير رمضان؟ يحتاج إلى نصف يوم بالتمام والكمال... وهل يملك مواطننا كل هذا الوقت؟ سيرد في حينه المعنيون بالسؤال: وهل سيتابع المشاهد كل الأعمال؟ والرد عليهم ببساطة هو: لماذا عرضت إذاً إن كان المشاهد لا يملك الوقت لمشاهدتها؟.. ولو افترضنا أنه سيتابعها كلها أو على الأقل نصفها، ألن يخلط بين أحداث هذا العمل وذاك؟ مع التنبيه الى أن كثيراً من الأعمال ذات أجواء متشابهة وفترات متقاربة مثل الأعمال التاريخية والأعمال الكوميدية والأعمال نصف المعاصرة والمعاصرة. جوع ما من جهة ثانية، يقضي المواطن طوال العام وهو يتابع في اليوم الواحد عملاً واحداً أو إثنين، ليشعر بعد ذلك بالحاجة الشديدة الى الأعمال الدرامية، ويتضخم هذا الشعور مقارنة بقوة الأعمال التي كان شاهدها في رمضان ومستواها العالي، وتلقائياً سيتحمل الأعمال التي تتفضل بها عليه شركات الإنتاج طوال العام لينتقم منها ومن نفسه في رمضان وليشعر بعد ذلك بالتخمة والامتلاء وليبقى شهوراً طويلة يجتر ما شاهده إلى أن يحين وقت المطر أو وقت القطاف في رمضان التالي. هذا يدفعنا بكل تأكيد إلى التساؤل والحيرة، لكن قبل التساؤل لا بد من مداخلة مختصرة لمسيرة الدراما السورية: مرت الدراما التلفزيونية بمراحل وعقود وتجارب كثيرة، فقبل الفضائيات لم يكن لدينا سوى خيار واحد وشاشة واحدة، أما بعد الفضائيات فباتت لدينا مساحات واسعة وآفاق جديدة تحتم علينا إعادة النظر برؤيتنا الى التلفزيون وتطوير عملنا وأساليبنا. ففي الستينات والسبعينات من القرن الماضي كانت الأعمال محصورة ضمن البيئة الدمشقية وبالتالي كانت موضوعاتها وقضاياها محددة ومرتبطة في هذه البيئة تحديداً، وكل من عمل في هذه المسلسلات كان من أبناء الثقافة الدمشقية، وهذا الأمر شكل مشكلة كبيرة، إذ أن البلاد اختصرت في دمشق. لكن بعد الفورة الإنتاجية في مطلع التسعينات بدأ بعض الكتاب وشركات الإنتاج الاتجاه نحو التاريخ أو التشديد على بيئات أخرى غير الدمشقية، وهذا شكل نقلة درامية، شعر معها الجمهور بأن هناك بعض المساحات يمكن اللعب عليها من الناحية الدرامية، وأعطى عنصر التاريخ للكاتب أمداء أخرى للتخيل. ويتساوى في الكتابة الدرامية الخير والشر، الخائن والبطل، لأن هذا ما يشكل المادة الدرامية، لكن هذا أيضاً يدفعنا الى التفكير بأن الدراما عندما تطرح نفسها بهذا الشكل وبهذه الغزارة وضمن هذا الوقت المحدد تجعلنا نتساءل عن الجدوى المنشودة من وراء ضياع المشاهد في أزمنة الإنتاج التلفزيوني وأروقته ودهاليزه والعملية الاقتصادية المعقدة المحسوبة بالدرجة الأولى على حساب المشاهد وصحته الفكرية والاجتماعية وتوازنه أمام ما يطرح من تناقضات، فإن سلمنا السنة الماضية بقبول عملين ضخمين يتناولان الشخصية التاريخية نفسها وهي شخصية الفاتح العظيم صلاح الدين الأيوبي وذلك لضرورات الحال السياسية التي يمر بها الشعب الفلسطيني والشعب العربي عموماً على رغم كل التناقضات التي شابت العملين، فما الذي يدفعنا لمجالسة شخصيات كثيرة جداً من التاريخ في أعمال كثيرة تعرض علينا في وقت واحد، منها شخصية هولاكو والمتنبي وعمر الخيام وعبدالرحمن الداخل. ثم أين احترام المشاهد الذي ينبغي أن يشعر به من خلال تعاطي القائمين على العملية الفنية معه؟ وأين احترام ذوقه وهمومه ووقته في الدرجة الأولى في هذه الحال؟ وما هي أسباب هذه الظاهرة التي باتت تتكرر سنوياً وكل سنة أكثر من التي سبقتها؟ فالدراما السورية قدمت في العام المنصرم نحو خمسة عشر عملاً، أما هذه السنة فيتجاوز العدد الخمسة والعشرين عملاً. وشارك معظم الفنانين السوريين في أكثر من عمل من هذه الأعمال، فهناك من شارك في عملين ومنهم من شارك في ثلاثة ومنهم في أربعة وهكذا... حتى أن بعض المخرجين قدموا أكثر من عمل في هذه التظاهرة "المرعبة" - إن جاز التعبير -. السوق تحكم إن السبب الأول والرئيس الذي يمكن أن نراه على كل لسان هو موسم رمضان وهو السبب الذي يدفع شركات الإنتاج للتسابق الى التعاقد مع الكتّاب والمخرجين لتقديم أعمال مكثفة في رمضان، إذ أن سوق شراء الأعمال الدرامية تكون في أوجها في هذا الشهر كون الفضائيات عموماً تسعى - وفي إطار التنافس في ما بينها - لاستقطاب المشاهد إلى برامجها، ولكن ألا تسعى هذه الفضائيات الى هذا الاستقطاب إلاّ في رمضان؟ ألا يهمها أن يتابعها المشاهد في غير رمضان ؟وما حاجتها إلى مشاهد رمضان إن كانت لا تهتم له بعد رمضان أو قبله؟ ثم يتفرع بنا هذا السبب إلى مسار آخر استطراداً وهو الجانب الاقتصادي، فكون الطلب على الأعمال الدرامية كبيراً فالسعر سيزداد كونه يتناسب طرداً مع الطلب وهو قانون اقتصادي معروف ولكن - رداً على هذا السبب تحديداً ومن ناحية اقتصادية ومن دون أن ندخل في موضوع الجدوى والفائدة الاجتماعية والفكرية - هناك قانون اقتصادي آخر وهو أن السعر يتناسب عكساً مع العرض وبالتالي عندما يزداد العرض، وهو ما يحصل حالياً، فإن السعر تلقائياً سيقل. السبب الثالث وهو على الأرجح السبب الحقيقي وراء هذه الظاهرة ويتلخص في العمل العشوائي الذي لا يرتكز الى أية آلية للتخطيط، وهذا مرجعه إلى التراث الضخم والهائل من التخلف على الصعد كافة، فالعربي ومن دون شعوب الأرض قاطبة لا يفكر بأكثر من يومه، ومقارنة بالعصر الحديث والحداثة والتسارع فإنه قد يتجاوز هذه المدة إلى سنة ويبدأ بعد انقضائها بالتفكير بالسنة التالية، وهذا ما يحدث بوضوح على صعيد الدراما حالياً، فكل شركات الإنتاج والمخرجين وحتى الفنانين - وارتباطاً بهم الجمهور المتابع - باتوا يفكرون بأعمال شهر رمضان، حتى أن هناك بعض الأعمال تجاوز تصويرها العام فتقرر أن تعرض في رمضان التالي مثل "آخر الفرسان" لنجدة أنزور. ولنعد مرة أخرى إلى المشاهد وهو كما يقال أو يُدّعى الهدف الأساسي من هذه الأعمال، فبطلنا هنا لن يستطيع أن يهضم هذه الوجبات الهائلة من الكوميديا والتاريخ والحروب والصراعات السياسية والاجتماعية وعلاقات الحب المتضمَنة في هذه الأعمال في سنة كاملة، فكيف والحال هنا أن المدة شهر فقط، كما أنه لن يمتلك الوقت لمتابعتها وسينتظر عرضها مرة أخرى ليتسنى له ذلك، ونتفاءل بالطلب من القائمين على هذه العملية أن يعرض العمل في وقته وهو الوقت المتاح أمام المشاهد كي يراه ويتشوق له ويفكر فيه ويبني عليه، أو أننا سنطلب بالتأكيد - وذلك أن الشركات لن تقبل أيٌ منها أن تعرض عملها ثانياً - أن تكون هناك هيئات تنظيم محلية وعربية لتنظم عرض هذه الأعمال في أوقاتها الطبيعية والصحية المناسبة للمشاهد موضوع كل هذه الأعمال وأساسها وهدفها.