عجيب أمر الرقيب العربي المصر على منع الكتب في عصر الفضائيات والإنترنت، حيث كل شيء متوافر لمن يهمه الأمر وتعنيه المعلومة. والرقيب يمنع كتباً أدبية يعرف الجميع أن قراءها في كل بلد عربي بالعشرات في أحسن الأحوال. لكن منع الرقيب كتاباً معيناً. صادرت الرقابة في الأردن، رواية الكاتبة الأردنية رفقة دودين "سيرة الفتى العربي في أميركا"، وصادرت أيضاً رواية "أبو الريش" للقاص والروائي العراقي عبدالستار ناصر. الرواية الأولى صودرت لأسباب تتعلق بتناولها حوادث أردنية محلية، والثانية لأسباب تتعلق بتناولها نظام الحكم في العراق. والرقيب لا يعطي في العادة أسباباً محددة للمنع، لكن قراءة الروايتين تجعلنا نقف على ما يمكن الاعتقاد أنه "أسباب" تكفي الرقيب لمنع الروايتين، ولا تبرر في تقديرنا هذا المنع الذي يرفضه المبدعون جملة و... تفصيلاً. ما يثير العجب ابتداء، هو أن رواية رفقة دودين "سيرة الفتى العربي في أميركا" المصادرة هذه فازت بجائزة مسابقة اللجنة الوطنية العليا لعمان عاصمة للثقافة العربية، وفازت بها مناصفة مع رواية للكاتب المعروف جمال أبو حمدان. على رغم ذلك منعها الرقيب الأردني من دخول البلد ومن التداول وجاء قراره بمصادرة النسخ التي حاول الناشر إدخالها إلى الأردن بعدما صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت. وأثارت هذه القضية استهجان المثقفين والكتاب في الأردن، من جهة التساؤل عن تعدد الجهات التي تعنى بالثقافة في الأردن، وفي هذا العام الذي سميت عمان عاصمة للثقافة العربية تحديداً. فكيف يمكن أن تمنح اللجنة الوطنية العليا جائزة لرواية "مملوءة بالإساءات والكلمات البذيئة النابية والأوصاف غير اللائقة بحق الأردن وأجهزته الأمنية المختلفة..."؟ الكاتبة رفقة دودين معروفة بكتاباتها القصصية، وبروايتها "مجدور العربان"، وبكتاباتها النقدية الرصينة في الصحافة المحلية والعربية. وقد أبدت تحفظها على الأحاديث الصحافية حول قضية روايتها لأنها لا تسعى إلى أية ضجة في الصحافة. لكن أحد أعضاء لجنة التحكيم التي منحت الجائزة، وهو الناقد سليمان الطراونة يقول: "إن الرواية لا تحوي ما ذكره البعض من أنها تسيء الى الأردن وأجهزته الأمنية، في حين هي ملحمة روائية متعددة الأصوات.. وتعرّي الأوضاع السلبية العربية قبل الأردنية، وتعري العملاء في فلسطين بإسهاب أكثر مئة مرة من تعرية أي خلل في الأردن. ومرّت على الأحداث الخلافية في الأردن مرور الكرام، وكانت أميل إلى الوصف الحيادي منها إلى الانتقاد أو الإساءة كما كان الادِّعاء". ننتبه منذ البداية إلى الصوت الحماسي للراوي/ بطل العمل، وما يشبه الاعترافات في بنية الرواية، هذه البنية التي تعاني في الحقيقة الكثير من الإشكاليات الفنية، لكنها تمتلك خطاباً متماسكاً على الصعد السياسية والاجتماعية والثقافية عموماً. وهنا لا بد من التشديد على أن الجانب الفني ليس مما يقع تحت طائلة الرقابة على الإطلاق، فالرقابة قد تنتبه إلى الممنوعات والمحرمات الثلاثة المعروفة السياسة والدين والجنس وغيرها، لكنها، للأسف، لا يمكن أن تمنع عملاً تافهاً على المستوى الفني! رواية "سيرة الفتى..." تستعيد، في ثلاثة فصول وثلاثمئة وستين صفحة، سيرة "الفتى" عبد رمضان، منذ بدء انشغاله بالدين وانتمائه، وهو في الصف الخامس الابتدائي، إلى جماعة إسلامية من خلال ابن عم له، لكنه لا يلبث أن ينسحب من الجماعة بضغط من والده. وحين تحدث مصادمات بين الحكومة والجماعة الإسلامية الأصولية، وتجري مطاردة واعتقالات، ينبهنا الفتى كيف "اشتدت يد الأجهزة الأمنية حول أعناق الرجال... بعدها اشتكى الجيران من هذا المدّ المنظم الذي قد يصير بعد حين من الدهر واقعاً ما له من دافع، وكان عصراً ذهبياً للجماعات الأصولية...". يشكل هذا الاعتراف من الفتى، شهادة على موقفه من الجماعات الأصولية، ومع ذلك فهو يعتقل ويساق إلى السجن والتعذيب بتهمة التحريض على التخريب في الحوادث التي قام فيها مواطنون مشاغبون بالتكسير والنهب لممتلكات عامة وخاصة، في "هبَّة" قامت بعد رفع أسعار الخبز. وربما كان شيء من تفاصيل الاعتقال والتعذيب والتحقيق وراء قرار الرقيب، مع أن الرواية لا تختلق شيئاً، بل هي تسرد وقائع يمكن أن تحدث في أي سجن في العالم! وفي المقابل نجد في الرواية إدانة لأعمال التخريب ومن قام بها، عبر وصفهم بالشباب المراهقين، فثمة من أحرقوا مخزن الكتب في المديرية، وقيل إن أحدهم قال "لا رياضيات بعد اليوم". بعد هذه المقدمة تتداخل الأزمنة والأمكنة، ولا يعود مهماً لدى الراوي لا الزمان ولا المكان، بل الحكاية، حكايته هو أينما كان. فنراه ينتقل إلى بغداد للدراسة، وهو لهذا لا بد من أن يتوقف وقفات متقطعة لدى "التحالف الثلاثيني" والحرب على العراق، قبل أن نراه في أميركا في برنامج للدراسات العليا يجعله يحكي عن أميركا ما هب ودب، بمبرر ومن دون مبرر فني، ما دام يعيش هناك ويتعرف إلى الفتاة الأميركية "سندي"، ثم فجأة نراه ضمن وفد في مؤتمر المرأة في بكين، ويأخذ منه الحديث عن هذه المحطة حيزاً واسعاً ليتحدث عن أشكال التحرر والعلاقات والثقافات. وفجأة أيضاً نراه في فلسطين ضمن وفد طبيٍّ أردني يتابع شؤون الانتفاضة والجرحى والشهداء.. ويكتشف ارتباطه بجذوره هناك، في قرية من قرى الخليل دورا. وفي خربة من خرب قريته دورا، وهي بالمناسبة القرية التي تتحدر منها عائلة دودين يشعر الفتى أنه في البتراء، وأن لا فارق بين جنوبالأردن الذي عاش فيه طفولته وبين جنوبفلسطين الذي جرى تهجير أهله منه. لذا يجتمع فيه "الوجع الخليليّ المؤابيّ"، وكأنه يكتشف وحدة المكانين، ووحدة عناصر هذين المكانين، وانتماءه إليهما معاً، ولذا يقول في مواجهة الفصل بين الانتماءين، أو الانتماء المزدوج: "ستكون الوحدة الوطنية شعاري إلى الأبد"... وستنتهي الرواية، لا ندري كيف، بنشيد محمود درويش عن أجمل الأمهات التي انتظرت ابنها وعاد مستشهداً! وما بين البداية والنهاية الكثير من التفاصيل واللغة والتقنيات والاشتغال على الموروث الشعبي، ما يستحق وقفة وقراءة أنثروبولوجية مختلفة عن هذه القراءة ذات الهدف الموجه إلى الرقابة! أبو الريش أما رواية "أبو الريش"، فهي ليست في رأينا أكثر من رواية متسرعة، و"فشة خلق" تحاول تقديم صورة عما يجري في العراق، تحت حكم الأسرة المكونة من حاكم تدعوه الرواية باسم "عزام جبارة" وابنيه الأكبر والأصغر، ومن حولهم من القيادات والمعاونين. وفي فقرة من مقدمته يقول المؤلف: "إن هذه الرواية كانت واحدة من جملة ما ضاع مني في زحمة البحث عن خمرتي ورغيف أطفالي وإقناع حبيباتي "أنني أملك المال والشهوة والجنون"... وما دمت قررت أن أكتبها، صار لزاماً على رجل تجاوز الخمسين مثلي أن يسرع في إنجازها...". وهو ما يعزز رأينا في تسرع الكاتب حتى جاءت النتيجة عملاً يشكو الكثير من الهنات على صعيد بنائه الفني، ما يجعله بعيداً من إمكان النظر إليه كعمل روائي، كما أراد له مؤلفه، وكما جاء على غلافه الأول. ويبدو أن "بطل" الرواية، والسارد الأول فيها يتماهى مع المؤلف، ولذلك لن نفاجأ برد الفعل الذي يقوم به هذا "البطل"، حين سينقلب ضد الحاكم ويروح يقوم بدور "سوبرمان" الذي سينقذ العراق من الطاغية. ففي تقديمه الرواية يعترف الكاتب "أول مرة رأيت فيها "عزام جبارة" وجهاً لوجه، شعرت بشيء من المحبة له، كان ذلك في عام 1969... لم يكن حينها تمرس في جرائمه الكبرى.. لست وحدي الذي تعلق به، كانت "الخدعة" وقتها أكبر حجماً من افتراضاتنا وأبعد من حدود وعينا وثقافتنا - وعيي وثقافتي- كنا نظنه "المنقذ" الذي جاء على صهوة البراق يحمل مفتاح الفردوس..الخ". وحين يجد بطل الرواية "أبو الريش" نفسه يعيش في مقبرة متخفياً عن عيون عسس النظام، ثم ينضم إليه معارض آخر كان من أعوان النظام، يقومان بدفن ضحايا الحكم، يقرران البدء بقتل كل من يقع تحت أيديهم من عناصر، ولكن ما يجري في المقبرة يوحي لنا وكأنها جمهورية محررة تقود الثورة. وحين يهرب أبو الريش إلى البصرة نجده يتنقل بقليل من الحذر، على نحو غير مقنع فنياً ولا منطقياً، حتى نسبة إلى منطق الرواية نفسها. على أي حال، يبدو أن كاتب القصة الذي جاء إلى عالم الرواية "ضيفاً"، وعلى رغم أنه رأى نفسه "على وفاق كبير" مع الرواية، لم يكن كذلك. فمع أن الكثير مما ورد في الرواية هو مما نسمعه هنا وهناك عن نظام الحكم في بغداد، إلا أن كتابة الرواية شيء آخر يختلف عن كتابة وقائع معينة سواء بتضخيمها أو بتصويرها كما هي. الرواية عمل فني بشخوص وحوادث وبنية ومواصفات ولا يمكن أن تكون منفلتة إلى هذا الحد!