بعد أعوام من الانتظار صدرت رواية الكاتب التونسي أبو بكر العيادي «الرجل العاري». وكان العيادي قد أرسل لي مخطوطة الرواية لأعمل على نشرها في سورية، وجرى تسجيلها تحت رقم 477 تاريخ 23/5/2001، للحصول على الموافقة المسبقة لطبع الرواية، لكن القرار بعدم الموافقة صدر في 4/3/2002 ممهوراً بتوقيع رئيس اتحاد الكتّاب العرب في دمشق آنئذ، علي عقلة عرسان. والمهم ان الرواية صدرت أخيراً عن دار الجنوب التونسية، وفي السلسلة المرموقة «عيون المعاصرة»، مع تقديم للبشير الوسلاتي. تعلق السؤال الأهم في مقدمة الوسلاتي بماهية العري في الرواية: عري الشخصية هو أم عري المكان أم عري الزمان أم عري التاريخ أم...؟ أما الكاتب نفسه فيرى أن روايته «أقرب الى أدب الاعترافات التي يحاسب فيها المرء نفسه عن أخطاء ارتكبها ومحظورات استباحها، منها الى أدب السيرة الذاتية التي تروي سيرة فرد أو أفراد بحلوها ومرها، من دون تزويق ولا تشويه». وقوام الرواية إذاً هو السيري، سواء أمال بها الى أدب الاعترافات أم الى السيرة الذاتية. وقد تنضّدَ ذلك القوام من فصول جاءت على هيئة شعر التفعيلة، تتناوب مع الفصول السردية. فالفصل الشعري الأول يقدم رجلاً يلتحف الوحدة، وحيطاناً عارية، و «القلم الأسود يرمقه». وإذ يختم «القلم الأسود» هذا الفصل، فهو أيضاً يبدأ الفصل السردي التالي، فيرسم عري الشقة الباريسية العبوس، ويرسم الراوي الكاتب لقمان الموالوي الذي خلع ثيابه قطعة قطعة، فبدا في هيئة الإبداع الأول يواجه القلم والورق، ويعاني ما يعانيه في الشمال، مثلما كان يعانيه في الجنوب، في بلدة تونس. في فصل تال يحسب هذا العاري أنه عندما تعرى، اجتاز أخطر مرحلة: مرحلة التخلص من الرواسب التي تغل تفكيره. وينتهي به ذلك في ختام الرواية الى أن ينظر الى نفسه، فيهوله عريه، ويفقد العزم على أن يكتب أي شيء. غير أنه قبل هذه الخاتمة يكون قد عرّى ما عراه، ليس ابتداءً بالشعراء أو المثقفين الذين استرزقوا من العراق (الصدامي) ثم انقلبوا عليه، وليس انتهاءً بالرقيب والرقابة. في فقرة جاءت على هيئة السبيكة في دفقة لغوية واحدة نقرأ: «وأكتب بالدم القاني ما يساورني في هذا العام الذي لم يشهد من التغيير سوى أصفار ثلاثة هي بدؤنا يوم ابتدعناها وهي حالنا ونهايتنا المتربصة وهي عدلنا وحريتنا ومساواتنا وهي ديموقراطية حكامنا الذين يورثون أبناءهم السلطة شأن ملوك الطوائف وهي النسب المئوية التي حصدناها من سلام الشجعان...». الى السبيكة اللغوية، ومن قبل، الفصول الشعرية، لاعبت الرواية الأغاني الشعبية التونسية ولاعبت التراث الأدبي في الشذرات والأخبار. وينبغي التنويه هنا بما تتميز به اللغة الروائية للكاتب، إن في هذه الرواية أو في روايته «آخر الرعية»، حيث نصاعة اللغة الأدبية التراثية وثراؤها، ما يذكر باللغة الروائية لدى غازي القصبي وصلاح الدين بوجاه. وقد عرضت رواية «الرجل العاري» غير مرة لسؤال لغتها. ففي الحديث عن هذا الرجل يأتي الوعد بأن يكتب بصدق ما تنوء بحمله الذاكرة، وبأن يجهد كي يجعل اللغة تنطق بما يهجس «لأنه يعرف عن تجربة أن اللغة، أية لغة، لا تستطيع أن تقول كل شيء». فهناك خلجات وحركات وأصوات وروائح وألوان تدانيها اللغة ولا تمسّها إلا أهون مسّ. يتساءل لقمان الموالدي عن اجتراحه نصاً عن الواقع في شموله، هو الذي لا يعرف عنه غير نتف. ويبدو الواقع للرجل أشد تعقيداً من الخيال، وهنا تترجع حكمة أو نصيحة صديق الرجل العاري، وهو الناقد فاروق العامري، بأن خير ما يكتبه هو ما لا يكون موجهاً لأحد «مثل اعتراف بينك وبين نفسك، وفي حجرة مغلقة ليس فيها أحد سواك، كأنك تلوذ بالعزلة والوحدة». وتُضاف الى دعوة العامري دعوة صديقة الرجل العاري كريستين الفرنسية الى أن يكتب عن اللحظات الجميلة فقط، وليس كما يفعل، إذ يكتب كأنه في حرب. لكن الرجل يريد أن يكتب لنفسه أولاً وأخيراً، بعيداً عن أي ضغط، وهذا ما يومئ له فعل التعري في الرواية. فالرجل يتعرى كأنه في لحظة اعتراف، وهو لا يريد أن يطلع على عريه أي اعترافه أو روايته أحد غيره، ولا يريد أن يقرأه أحد من بعده. لكن «الآخر» لا يفتأ يفعل فعله، مرة بالبرقع السياسي، ومرة ببرقع المرأة الغربية. تبرز السياسة في مثال اللبنانية هويدة التي حذقت المتاجرة بالقضايا، فهي تفرح بكوننا أمة مشتتة، بحيث يمكن لك أن تنفذ وتستجير بقطر لنشر غسيل عدوه في بلد آخر. ومثل هويدة التي يوجهها حدسها فتقف مع العراق الى حين، تبدو شخصية فاروق العامري الذي لا يعجب من تحالف بعض البلدان العربية مع العدو، وهو من التحق بالمقاومة اللبنانية في صيف اجتياح اسرائيل للبنان، فعاد الى تونس مشككاً بالعروبة. وفي رد فعل، كما يستذكر الرجل العاري لقمان الموالدي، يتعلق فاروق العامري باجداده الأمازيغ، وينكر انتماءه العربي. وبعد سنة ينصرف الى اعداد أطروحة عن الشعر، ويقاطع السياسة حتى تنشب حرب الخليج الثانية، فيعود الى «قومويته» ضد اليانكي الغازي لبلاد الرافدين، غير أن رد الفعل ينقلب به مرة أخرى، فيمجد ديموقراطية الحزب الواحد والصوت الواحد. يفكر لقمان الموالدي في أن يكتب عن رقيب تصوره في الخمسين في مثل سنه واسمه، لكن شكله مختلف. وفي لعبة الرواية يعجز الموالدي عن الكتابة بعد حكاية الرقيب وهو «يريد عملاً ضخماً يحوي كل ما تفيض به نفسه». تشخص كريستين قلة ميل لقمان الموالدي لها هي، بالحبل السري الذي يربطه بمطلقته. وتشخص معاناة أنيسة لعقدة أوديب مع الموالدي، إذ تراه أباً لها كما هو لعبتها منذ عشرين عاماً. ويشبه الموالدي باريس بأنيسة، ويصفها بالمتبرجة، وبالعطوف إذا كان الحبيب جواداً، كما يشبهها بالغانية التي تدوس عشاقها. وهكذا تعيد هذه الرواية مألوف الرواية العربية في تجنيس الآخر الغربي. لكنها لا تجعل وكدها هنا، اي في كريستين، بقدر ما تجعله في سوط الذات، ابتداءً بالهجرة الى الآخر، حين يقول لقمان الموالدي «شتان بين من حمل على الفرنجة والرومان في عقر دارهم بسيفه مرفوع الهامة كالرمح، ومن يبيت الليل بأكمله تحت أسوار القنصليات الأوروبية يستجدي تأشيرة دخول الى الجنة الموعودة، شمال المتوسط». ويلح الموالدي على الزهو بالأجداد مقابل النيل من الذات ومن الآخر. فالقوت الآن بيد الغرب، يبيعه من يشاء، ويمنعه عمن يشاء «وإذا هو سلاح قاتل يلوح به في الملمات ويرغم أنوفاً كانت في ما مضى شمّاً لا تعرف الإذعان، يحاصر قوماً بأرض الرافدين». يرى الرجل العاري أن الغرب غدا المعيار الذي ننقد به ذاتنا، والمرآة التي نرى على صفحتها الناضجة وجوهنا القبيحة، وفكرنا المدقع، وأدبنا المضحك وحداثتنا المزرية وعجزنا الفادح عن الإقامة في العالم وفق رؤية خاصة بنا. ولا يكتفي الرجل العاري بسوط الذات، بل هو يسوط الآخر، كما رأينا في صورة باريس، وكذلك في تشخيصه للحضارة بما يسمو بالإنسان، بينما «حضارتكم تنشئ الآدمي» كما يخاطب كريستين التي سترد عندما ينتقد الأسلوب الغربي (المتحضر) في رفض تشغيل الأجانب، بالسؤال: «لماذا تتركون بلدانكم وتأتون؟». لا فسحة إذاً للقاء بالآخر ولا مستقبل، مهما يكن من الاشتباك الفكري أو الجنسي أو العاطفي مع الآخر. وليس أمر الذات بأفضل. فالحكام - كما يقول لقمان الموالدي - في أوطاننا يفرضون علينا الصمت. بل ان الشعر نفسه يرتد الى درك وضيع. ولعل للمرء أن يسأل إذاً عما جعل هذه الرواية تغامر بسكّ فصولها الشعرية التي أحسب أنها شوشت القصّ، على خلاف ما ذهب اليه البشير الوسلاتي في تقديم الرواية. غير أن الرواية جاءت، كما رسم الوسلاتي نفسه، نصاً «متحرراً من قيود الجنس الأدبي، نصاً غير منضبط انضباطاً اجناسياً، فهو بقدر ما يوهمنا بأنه محض خيال روائي، ينشد الى الذاتي القريب من حياة الكاتب انشداداً يكاد يكون مكشوفاً. وبقدر انكشافه تزداد درجة خداعه».