هل يصح الدخول الى الأزمة العميقة التي تعيشها شركات الاتصالات المتطورة في العالم من زاوية الانسان المستخدم للتكنولوجيا؟ سؤال ليست الاجابة عنه سهلة. والازمة المقصودة هي تلك التي تلف سوق "نازداك" منذ سنتين وأكثر ورافقتها ازمة عامة في اقتصاد اميركا، بل والعالم. هل سبقت التكنولوجيا الناس ففشلت؟ وليس المهندس اللبناني ديفيد خوري بغريب عن هذه الامور اذ استطاع بكفايته الوصول الى الصف الاول من صانعي القرار في شركة "أريكسون" السويدية، احدى عمالقة شركات الاتصالات في العالم. ما ان تصل بك السيارة الى بيت خوري في قرية "غلبون"، التي تُطلُّ من فوق عمشيت على مدينة جبيل الساحلية العريقة، حتى تنفتح امامك دروب عدة في الاتصالات ومعانيها. الم تكن مدينة جبيل هي التي اخترعت الابجدية الاولى في التاريخ التي عرفت تلك بالألفبائية الفينيقية، وكانت اول محاولة لصنع وسيلة اتصال وتواصل بين البشر. وخرج بها الجبيليون الى اوروبا في محاولة لربط العالم المعروف، آنذاك، ببعضه بعضاً. وراهناً، تحاول شبكات الاتصالات المتطورة، بدءاً من الانترنت وصولاً الى الاقمار الاصطناعية، تكرار ما حاوله الاوائل في جبيل. رواية "كويلهو" والانترنت! يمكن تَلَمُّس شيء ما من هذا المعنى في تفكير اللحظة الحاضرة عن الاتصالات. وعلى سبيل المثال، فان قُرَّاء قصة "الجبل الخامس" للبرازيلي باولو كويلهو، يلاحظون التشابه بين الاثر القوي الذي احدثته ثورة الابجدية قبل أكثر من ألفي عام، وبين ما تحدثه الانترنت من تغييرات في المجتمعات الانسانية. وفي الرواية خيال عن صراعات دامية تنجم عن خوف الامبراطوريات على اوضاعها الداخلية والخارجية من احتمال ان تنتشر أبجدية الجبيليين، وان تتمكن الشعوب من التخاطب مع بعضها، فتضيع سطوات وهيمنات وعروش. شيء ما مشابهاً يقال عن الانترنت واثرها. وذلك بات حديثاً مكرراً. ماذاعن الوجه الآخر لكل هذا الكلام. ماذا عن الازمة الضارية التي تعيشها الاتصالات والانترنت والمعلوماتية، في تقنياتها واقتصادياتها؟ لم يبدأ الكلام مع خوري من تلك الازمة، بل من امر شخصي تماماً. ولا تخفي عائلته قلقها من بقاء الابن عازباً على رغم "وسامته ومركزه"، كما يقول أخوه. ما الذي يُمِضُّ هذا المهندس، فيجعله بعيداً من "الاتصال المستمر" مع الانثى بالزواج؟ يضحك خوري، ويسلم بأنه من التناقض ان يعيش مهندس الاتصالات في ازمة اتصال! اليس ذلك حال التكنولوجيا في العالم كله؟ ويميل خوري الى الرأي القائل ان جزءاً من هذه الازمة يمكن اختصاره ب"أزمة اتصالات". فقد راهنت شركات الكومبيوتر والاتصالات، وهما ذراعا ثورة التكنولوجيا المتطورة، على الاندماج بين الكومبيوتر والهواتف الخلوية. ويعني ذلك الاندماج بين المعلوماتية والاتصالات في اوجهها كافة، بدأ من الاجهزة التي في يد المستخدم العادي، ووصولاً الى الشبكات التي تربط الاجهزة في كل الارض عبر الاقمار الاصطناعية. وعَبَّرَ ذلك الرهان الاستراتيجي الحساس عن نفسه تكنولوجياً بمشاريع الخلويات من الجيل الثالث 3G" ورديفها في عالم الكومبيوتر هو PDA، او المساعد الرقمي الشخصي. وبالنظر الى عمق الرهان على اندماج المعلوماتية والاتصالات، يكاد ان يكون كلا النوعين من الاجهزة متطابقاً. وانتظرت الشركات كلها نتيجة الرهان. وخاب أملها. لم تجد رخص شبكات الجيل الثالث من يشتريها، الا باثمان تقل كثيراً عن سعرها. ويستعيد خوري ما حدث مع الانترنت. "قبل الشبكة، كانت الكومبيوترات منتشرة ومستعملة في كل مكان. لم يلزم لظهور الانترنت سوى ربط تلك الاجهزة. اما مع خلويات الجيل الثالث، فالأمر مختلف تماماً. صنعت الشركات ادوات 3G وهيأت الشبكات معها. لكن الاجهزة المتطورة ليست في كل مكان، كما كانت حال الكومبيوتر قبل ظهور الانترنت. وهكذا وصلنا الى وضع ان التكنولوجيا موجودة ومتقدمة، لكن الناس مازالت بعيدة. يبدو انه من الخطأ ان تسبق التكنولوجيا البشر"! وليس خوري وحده الذي يرى ان التكنولوجيا لم تراع الاحتياج البشري كأساس في تطورها. ففي افتتاح معرض "كومدكس" السنوي في "لاس فيغاس" أخيراً، الذي يعتبر أبرز تجمع لصناع التكنولوجيا الرقمية في العالم، عبَّر بيل غيتس رئيس شركة "مايكروسوفت" العملاقة، عن وجهة نظر مشابهة اذ نبّه غيتس الى ضرورة انتاج ادوات "اكثر ارتباطاً بالحياة اليومية". وأعطى مثالاً عل"ذلك "المنبه الذكي" الذي يَتكيَّف تلقائياً مع المناطق الزمنية المختلفة، ويتصل بجدول مواعيد صاحبه، ويضبط نفسه تلقائياً. وفي مثال آخر، تحدث غيتس عن ابتكار اجهزة الكترونية "تعرض معلومات بمجرد النظر"، اي بالطريقة نفسها التي يعرف بها السائق السرعة وحال المحرك وحرارته بمجرد إلقاء نظرة على لوحة القيادة. لبنان وشبكة UMTS يقول خوري: "بعيد تخرجي من الجامعة اليسوعية في الاتصالات، عملت في في اول شبكة رقمية للهاتف في لبنان ثم انتقلت الى فرنسا لأعمل في شركة "ألكاتيل". وفي الحرب، حصلت على وظيفة في فرع "اريكسون" الفرنسي. عملت على ادخال تطوير الى نظام ISDN الذي كان حينه النظام الاكثر تقدماً. ثم انتقلت الى السويد. وعملت في مشاريع تكنولوجية عدة. كان ذلك قبل ثورة المعلوماتية في 1995. وبعدها، عملت في مشروع يهدف الى دمج نقل المعلومات والفيديو والصوت في نظام واحد. وهذا الامر شكل مدخلاً الى عملي في المشاريع الاساسية في الجيل الثالث للخلويات، التي تُحَوِّل الاتصالات الى العمل على نظام الانترنت المعروف باسم IP. وحالياً اعمل على تطوير على شبكات الخلوي المتقدمة من نوع UMTS، التي تعتمد على موجات الراديو ذات النطاق الواسع من نوع Wide Band CDMA". وشدد على ان شبكة UMTS تستخدم النظام الاساسي الموجود في شبكات الخلوي العادية GSM. والفارق الاساسي هو في الشق المتعلق بموجات الراديو. وما ينظم عمل تلك الموجات هو استخدام Wide Band CDMA. ويسمح ذلك بنقل كمية كبيرة من المعلومات المتنوعة، بسرعة تصل الى اثنين ميغابايت في الثانية الواحدة، مع الحفاظ على النظام الاساسي الذي يدير شبكات الخلوي العادية. ونبَّهَ كثيراً الى النقطة الاخيرة، اي كون شبكات UMTS المتطورة جداً تعمل اعتماداً على الشبكات الموجودة فعلاً. وهذا يعني ان الشركات التي تفوز بمناقصة لبناء شبكة متطورة، لن تتكلف كثيراً، لأنها ستستخدم شبكات الخلوي الحالية! وأبدى خوري استغرابه للنقاش الذي دار في لبنان عن شبكات الخلوي. ولاحظ، كمهندس عالمي للاتصالات، انها لم تأخذ في شكل عميق، مسألة الشبكات المتطورة. "لم اسمع احداً يتحدث عن شبكة UMTS. الارجح ان هذه الشبكات ستصبح الاساس في السوق قريباً. لم اسمع أحداً يقول ان الشبكة المتطورة تعتمد على الشبكة العادية، ولا يلزمها بنية تحتية جديدة كلياً. ويزيد في اهمية هذه النقطة وجود احتمال ان الشركات التي تدير الشبكات الحالية هي نفسها ربما فازت بعقود الشبكات المتطورة! لماذا غاب هذا النقاش؟ ولماذا لم تطرح هذه الحقائق البسيطة.