Richard Holloway. On Forgiveness. في المغفرة. Canongate Books. Edinburgh, New York. 2002. 98 pages. هناك مغفرة فقط حيث ثمة ما لا يُغفر، على ما يجادل الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا. فلكي يستحق فعل المغفرة الصفة المنسوبة اليه، لا بد وان يكون غفراناً غير مشروط لما لا يُغفر. فإذا ما أتى هذا الفعل مسبوقاً او ملحقاً بالتوبة، او بالاقرار بالذنب وإصلاح ما أفسد، فإنه لا يكون بأصدق من سبيل مصالحة تمليها رغبات الجماعات ومصالحهم. ففي مثل هذه الحالة فإن من يحظى بالمغفرة ليس الشرّ او فاعله، اي المذنب، وإنما التائب والمعترف بالذنب، اي عملياً شخص آخر مختلف لمن يحتاج الى المغفرة. هذا في حين ان فعل المغفرة هو ذاك الذي يغفر ما يستحيل العودة عنه وإصلاحه. ةلئن بدا مثل هذا التعريف "مفرطاً ومغالياً ومجنوناً" على ما يصفه دريدا، فهذا لأن المغفرة، على ما يجادل الفيلسوف الفرنسي في مقالة شهيرة له كنا قد عرضنا لها من قبل على هذه الصفحة، لهي جنون وينبغي ان تلبث "جنون المستحيل". والمقصود بالجنون ههنا، ان المغفرة فعل غير مقدر او محسوب، وغالباً ما يباغت المستقر والتواضع عليه، تماماً كما يفاجىء فعل الثورة سياق التاريخ والسياسة والقانون. ففي مثل هذا السياق ليس ثمة سياسة او قانون مغفرة، الاّ بما تقتضيه الحاجة وتشترطه المصلحة. انه لمن هذا التحدي الذي يطرحه دريدا، ينطلق ريتشارد هالواي، الكاتب البريطاني، مطران إدنبره السابق واستاذ "الإلهيات" في جامعة لندن، في كتابه موضوع هذه القراءة. وعنده ان الدين الإبراهيمي اليهودية والمسيحية والإسلام أكفأ من تعامل مع مسألة المغفرة. وتاريخ الوعي الإنساني بمحنة الآخرين ليتجلى خير ما يتجلى في الدعوات التوحيدية الابراهيمة الى التعاطف والعفو عما مضى. ولعل ما ييسر للكاتب التصدي لهذا التحدي، وسوق حجج حسنة الوقع، انه لا يستند الى فرضيات او مسلمات تهمّش او تستبعد الجمهور العلماني، والليبرالي النزعة، على الأرجح، ممن يتوجه اليه أصلاً. فهو لئن جادل لصالح الدين، فإنه لا يمانع الأخذ بشرط، او مفارقة اخرى من مفارقات دريدا، شأن القول ب"الدين من غير دين"، اي الدين من دون المؤسسة الدينية بما تُملي من تطبيق تعاليم او تنفيذ وصايا وممارسة طقوس وشعائر. انما هو القيم الإلهية، كالحب الالهي بما هو العدل وليس الإلتزام الحرفي بالنصوص الدينية. ولا يضير الكاتب ايضاً الاخذ بالمعرفة العلمية حول بدء الوجود عوضاً عن حكاية الخلق الدينية. فالغاية الأسمى، وإن الأعسر، على ما يجادل الكاتب، هي معرفة "كيف" وليس "لماذا"- كيف يزودنا الدين بنظرية للمغفرة تنال الرضا ولا تتجاهل، في الوقت نفسه، حجم التحدي الذي يشير دريدا اليه؟ وصعوبة معرفة "كيف" هذه تنبع من حقيقة ان الكاتب يحاور جمهوراً علمانياً، وليبرالياً على الأغلب، اي جمهوراً سياسياً يتطلب حجة تُقرّ بفرضياته وتجاري طموحاته العمليّة. لذا فهو يُرجىء الكلام على المغفرة غير المشروطة، او المستحيلة، على ما يصفها، الى ان يتسنّى له إقامة الحجة على ان المغفرة المشروطة نفسها ضرورية وملازمة لمطلب العدل. يسوق الكاتب في سبيل هذا الغرض ثلاث حجج مستمدة من أمثولات إنجيلية: اولاها، ان الوجود الانساني من السعة والتعقيد ما يجعل من العسير إحصاء كافة ذنوب البشر، ومن ثم غفرانها واحداً إثر الآخر. وحيث ان هناك من الآثام، مما يُقترف من دون مشيئة او معرفة المذنب، فإن البشر جميعاً غير معصومين من شبهة إرتكاب الآثام. ومن ثم فإن الدعوة الى المغفرة ليست دعوة مستَحقة الى مجموعة معينة، من الافراد والجماعات، وانما لكافة بني البشر. فيتوجب على المرء المغفرة لأنه يتوقع ان يُغفر له ما اقترف او ما قد يقترف من ذنب، سواء ادرك إقترافه ذنباً ام لم يدرك. ثانياً، ان جلّ جرائم البشر وآثامهم لا تنحصر بالظروف الوثيقة الصلة بهذه الأفعال، وانما غالباً ما ترتبط بظروف وملابسات أشمل وأعقد، وبما يتجاوز كلاً من الجاني والضحية. وان معرفة لهذه الظروف الشاملة تبيّن انه حتى حينما يكون من المتعذر غفران الجريمة، فإن سلوك الجاني كان محكوماً بجملة من العوامل التي تتجاوز مدار إرادته المباشرة. ومثل هذه الحقيقة قد لا تعفيه من المسؤولية بيد انها توجب المغفرة، تبعاً للتقاليد الدينية، خاصة إذا ما أقرّ الجاني بالذنب. ثالثاً، وهي الحجة الأهم، ان المغفرة لهي السبيل الوحيد لتحرير الضحية من عبء الماضي. وقد يكون من العدل الخالص الاّ تغفر الضحية لمن أساء اليها وألحق الأذى بها. ولكن لأن من المستحيل استرجاع الماضي والحؤول دون حصول ما حصل، فإن المغفرة تكون السبيل الوحيد لئلا يتحول الماضي الى "حفّار قبور الحاضر والمستقبل" على حد تعبير شهير لنيتشه. وحالة التثبيت عند الماضي التي يعمد بعض الضحايا الى الاستسلام اليها، انما تعني ان حياة الضحية بما تنطوي عليها من إمكانيات وإحتمالات لا تُحصى، قد انتهت عملياً، وأن الحاضر والمستقبل ما هما سوى ملحق او تتمة للماضي. ومن الواضح ان هذه الحجج تنهج سبيل العقلنة النفعية الذي يُظهر ان سياسة المغفرة المشروطة لهي في صالح الجميع سواء لغرض تحقيق سلام كوني او إنقاذ الضحية من وسواس الإنتقام والثأر. بيد ان هالواي يدرك ان هذا الوسواس، مثلاً، قد يكون من النفوذ والرسوخ في نفس الضحية بحيث يتضاءل في حضوره اي مردود نفعي للمغفرة المشروطة، وبما فيه إستعادة حياتها المرهونة للماضي. الى ذلك فثمة من الجرائم الفظيعة ما يجعل من المحال إصلاح ما أُفسد، بل وحيث الأذى من الهول بما يجعل التوبة والإقرار بالذنب، اي شروط المغفرة المشروطة، امراً لا جدوى منه، بل لا معنى له. فأي جدوى للإقرار بالذنب حيال "تجارة الرق" او "المحرقة" او غيرهما من الجرائم التي أودت بحياة ملايين البشر؟ وأي معنى هناك لإقرار كهذا؟ هنا تبرز الحاجة الى المغفرة غير المشروطة - المغفرة بإعتبارها غاية بحد ذاتها لا إحتساب فيها لمنفعة لاحقة، مباشرة او غير مباشرة. ومستعرضاً أمثولة إنجيلية حول ذاك الأب الذي يغفر لإبنه العاق أفعاله المشينة، قبل توبة هذا الأخير، بل من دون ان يتوقع الاب توبته اصلاً، يخلص هالاوي الى ان هذه هي المغفرة غير المشروطة، طالما ان فعل المغفرة قد أغفل ما تمليه التقاليد والقوانين والاعراف التي تتبعها الجماعة التي ينتمي الأب المذكور اليها. ولو كان الأب قد أخذ بعين الحسبان شروط الجماعة وقوانينها لما إستطاع ان يغفر لإبنه من دون شروط مسبقة، او على امل ان يتوب الابن بعدما يُغفر له. بيد ان تجاوزه هذه القوانين هو الذي أفسح المجال لإنبثاق فعل مفاجىء لا يحتكم او يجاري سياسة الافعال المتواضع عليها. تماماً كما هي الثورة، على حد تعبير دريدا، "تُفاجىء مسار التاريخ والسياسة والقانون" وتتجاوزها جميعاً، ولكن من دون ان تُرسي اساس سياسة وقانون بديلين. وكأي مقدم على فعل مفاجىء لا غرض له الاّ ذاته، فإن المبادر الى مغفرة خالصة سيُتهم بالغفلة والمغالاة والجنون، او حتى الخيانة، نظراً الى خرقه محور الاجماع واعراف الجماعة. ولكن هل نجا انبياء الدعوة الابراهيمية من تهمة الخيانة والجنون، من قِبل جماعاتهم؟ وهل يمكن الكلام على قيمة كونية تتجاوز حدود الجماعة ومصالحها من دون الاستعداد لهذا الجنون، لهذه الخيانة؟