فما أصعَبَ على قلب المؤمن أنْ يودِّع وفدَ الحجيج وقد حرِمَ هو من هذه الرِّحلة والحزن بادٍ على قسمات وجهِه، ودموع الأَسَى تهطل من مقلتَيْه! فهل لك أنْ تحجَّ وأنت في بيتك؟
إنْ أردت ذلك فاقرأ منِّى تلك البشرى، إنها لأمثالك ممَّن حبَسَهم عذر ضِيق ذات اليد، ومنَعَهم عدَم الاستِطاعة من رفقة الوافِدين على الرحمن – تبارك وتعالى. يَا سَائِرِينَ إِلى البَيْتِ العَتِيقِ لقَدْ / سِرْتمْ جسوماً وَسِرْنَا نَحْن أَرْوَاحَا / إِنَّا أَقَمْنَا عَلى عذْرٍ وَقَدْ رَحَلوا / وَمَنْ أَقَامَ عَلى عذْرٍ فَقَدْ رَاحَا /
إنَّ من فضل الله على عباده أنْ جعَل لهم فرَصاً حتى يتقرَّبوا إليه بالطاعات، ومن مَزِيدِ فضله أنْ أعلمَهم بهذه الفرَص، ومنها العشر من ذي الحجَّة، والله – سبحانه وتعالى – فضَّل بعضَ الأماكن على بعضٍ؛ ففضَّل مكَّة على سائر البِلاد، وفضَّل بعض المساجد على بعض؛ ففضَّل المسجد الحرام، وأعدَّ الثواب العظيم لِمَن حجَّ بيتَه الحرام، ومن رحمته لم يكلِّف بهذه الفريضةِ غيرَ المستَطِيع، ومن مزيد فضله لم يحرم الله غيرَ المستطيع الذي حبَسَه العذر من مشاركة حجَّاج بيته الحرام من الأجر والثَّواب ومشاركتهم في مَناسِكهم، وإذا كان الحجَّاج يَعِيشون كل معاني التقوى والإيمان وينقلونها إلى بقيَّة الأمَّة، فإنَّ الله – عزَّ وجل – أراد لِمَن لم يكتَب له الحجّ أنْ يعيشَ هذه المعاني التي يعيشها الحاجّ، وليس هذا عن طريق السَّماع فحسب، بل شرَع الله – عزَّ وجل – لنا وسائل تجعَلنا نَعِيش نفسَ مَشاعِر الحجَّاج، وفي نفس الوقت الذي يؤدّون فيه مَناسِكهم.
فقد شرَع الله – عزَّ وجل – لنا أعمال خيرٍ وبِرٍّ، وطاعةٍ وعبادة، خاصَّة في أيَّام الحجِّ؛ ففي نفس الوقت الذي يكون فيه الحاجّ في مكَّة يؤدِّي المناسك تكون أنت في بلدك بعيداً عن مكة بمئات أو آلاف الأميال، ومع هذا تحصِّل من الأجرِ الكثيرَ والكثيرَ، لدرجةٍ تعلو فيها على المجاهد، إلاَّ أنْ تبذل النفس بكاملها والمال بكامله في سبيل الله، فهذه أعظَم عشرة أيَّام في العام كله، وهذه الأيَّام ليست للحجَّاج فقط، بل إنها لعموم الأمَّة؛ حتى يعيش المسلِمون مع إخوانهم الحجاج الجوَّ الإيماني الذي يَعِيشونه.
تعظيم المكان والزمان: فمع تَعظِيم أماكن الحج عظَّم الله زمانَ الحجِّ؛ ففضَّل أيَّام الحج على غيرها من الأيَّام حتى تتنزَّل الرحمة على الحاجِّ المستَطِيع، وكذلك على مَن حبَسَه العذر وصدَق في نيَّته فحجَّ بقلبِه.
فكما نهى عن الظّلم بارتِكاب المحرَّم في المكان فقال – تعالى -: ﴿ وَمَنْ يرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظلْمٍ نذِقْه مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾[الحج: 25].
وكما كان مكان الحج مقدَّساً وهو بلدٌ حَرام؛ أي: حَرام فيه القتال، والذَّنب فيه أشد عقوبَة، كذلك زمان الحج فهو شهر حَرام؛ أي: حَرام فيه القتال، والذَّنب فيه أشد عقوبة، ففي الشهور الحرم تغلظ فيها الآثام كما تغلظ فيها الدِّية عند الإمام الشافعي وغيره.
ومعني (حَرام)؛ أي: إنَّ المعصية فيها أشد عقوبة والطاعة فيها أكثر ثَواباً؛ "تفسير الفخر الرازي" (الشيء بالشيء يذكَر فقال الرازي: قال أهل العلم: الواجب على المسلمين بحكم هذه الآية أنْ يعتَبِروا في بيوعهم ومدَد ديونهم وأحوال زَكواتهم وسائر أحكامهم السَّنة العربيَّة بالأهلة، ولا يجوز لهم اعتِبار السَّنة العجميَّة والروميَّة).
وقد أقسَمَ الله – عزَّ وجل – بهذه الأيَّام كما جاء في قول الحق – تبارك وتعالى -: ﴿ وَالْفَجْرِ * وَليَالٍ عَشْرٍ ﴾ [الفجر: 1 - 2].
وقد أورد الإمام الطبري في تفسيره لهذه الآية: ﴿ وَليَالٍ عَشْرٍ ﴾ [الفجر: 2] قال: والصواب من القول في ذلك عندنا: أنها عشر الأضحى؛ لإجماع الحجَّة من أهل التأويل عليه؛ "جامع البيان في تأويل القرآن"؛ للطبري.
وقال الرازي: اعلم أنَّ هذه الأشياء التي أقسَمَ الله – تعالى – بها لا بدَّ وأنْ يكون فيها إمَّا فائدة دينيَّة؛ مثل كونها دلائل باهرة على التوحيد، أو فائدة دنيويَّة توجِب بعثاً على الشّكر، أو مجموعهما؛ تفسير الفخر الرازي، المشتهر ب"التفسير الكبير" و"مفاتيح الغيب".
وأكَّد ذلك ابن كثيرٍ في تفسيره لهذه الآية بقوله: والليالي العشر: المراد بها عشر ذي الحجة، كما قاله ابن عباس، وابن الزبير، ومجاهد، وغير واحد من السَّلف والخَلف، وهذا هو الصَّحيح عنده.
وهنا يمكِن القول: إنَّ فضل الأيَّام العشر من شهر ذي الحجة قد جاء صريحاً في القرآن الكريم الذي سمَّاها بالأيَّام المعلومات لعظيم فضلها وشريف منزلتها؛ ﴿ لِيَشْهَدوا مَنَافِعَ لهمْ وَيَذْكروا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلومَاتٍ عَلى مَا رَزَقَهمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكلوا مِنْهَا وَأَطْعِموا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ﴾ [الحج: 28].
قال ابن كثيرٍ في تفسيره لهذه الآية: وقوله: ﴿ وَيَذْكروا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلومَاتٍ عَلى مَا رَزَقَهمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ﴾ [الحج: 28] قال شعبة وهشَيْم عن أبي بشر عن سعيد عن ابن عباس: الأيَّام المعلومات: أيَّام العشر، وعلقَه البخاريّ عنه بصيغة الجزم به، ويروَى مثله عن أبي موسى الأشعري، ومجاهد، وعطاء، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، والضحَّاك، وعطاء الخراساني، وإبراهيم النَّخعي، وهو مذهب الشافعي، والمشهور عن أحمد بن حنبل.
قال الرازي: أكثر العلماء صاروا إلى أنَّ الأيَّام المعلومات عشر ذي الحجَّة، والمعدودات أيَّام التشريق، وهذا قول مجاهد وعطاء وقتادة والحسن، ورواية سعيد بن جبير عن ابن عباس، واختيار الشافعي وأبي حنيفة – رحمهم الله – واحتجّوا بأنَّها معلومةٌ عند الناس لحِرصِهم على علمها من أجل أنَّ وقتَ الحج في آخِرها.
ثم للمَنافِع أوقاتٌ من العشر معروفة؛ كيوم عرفة، والمشعر الحرام وكذلك الذبائح لها وقتٌ منها؛ وهو يوم النحر؛ تفسير الفخر الرازي، المشتهر ب"التفسير الكبير"، و"مفاتيح الغيب".
ذكْر النبيّ – صلى الله عليه وسلم – لها: روى البخاري عن ابن عباسٍ عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – أنَّه قال: ((ما العمل في أيَّام العشر أفضل من العمل في هذه))، قالوا: ولا الجهاد؟ قال: ((ولا الجهاد، إلاَّ رجلٌ خرَج يخاطِر بنفسه وماله فلم يَرجِع بشيءٍ)).
ولفظ الترمذيِّ عن ابن عباسٍ قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((ما من أيَّامٍ العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيَّام العشر))، فقالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلاَّ رجلٌ خرَج بنفسه وماله فلم يَرجِع من ذلك بشيءٍ)). وفى الباب عن ابن عمر وأبى هرَيرة وعبدالله بن عمرو وجابر.
قال أبو عيسى: حديث ابن عباسٍ حديثٌ حسن صحيح غريب.
فالجهاد أفضَل الأعمال، ويتَّضِح هذا جليّاً من سؤال الصحابة للنبيِّ – صلى الله عليه وسلم – وقد حرِمنا من الجهاد في بلادنا، والعمل الصالح في هذه الأيَّام العشر أفضل من الجهاد في سبيل الله، خلا مَن خرَج بنَفسِه وماله ولم يَرجِع بشيءٍ منهما.
كيف نعيش هذه الأيَّام العشر؟ أوَلستَ تَزعم أنَّك ترِيد أنْ تحجَّ؟ فإنْ كنتَ صادِقاً فعِشْ وكأنَّك في الحج، وكأنَّك في مكَّة عند الكعبة، حجَّ بقلبك، فلو صَدقَتِ النيَّة لعِشتَها بقلبك، ولأجِرتَ عليها من الله.
أوَما عَلِمتَ أنَّ الطريق إلى الله – تعالى – تقطَع بالقلوب لا بالأبدان؟! فيبلغ المرء بنيَّته ما لا يَبلغه بعمله؛ فالنبيّ – صلى الله عليه وسلم – في غزوة تبوك حَثَّ الصَّحابة على الإنفاق في سبيل الله وعلى الجهاد، فجاءه الضّعَفاء والفقَراء من المسلمين ليَحمِلهم معه، فاعتَذَر لأنَّه لا يجد ما يَحمِلهم عليه، فماذا كان شعورهم؟ هل قالوا في أنفسهم: عَمِلنا ما عليْنا، ورجَعوا وهم فَرِحون، أو أنَّ قلوبهم تمزَّقت حزناً وألماً لأنهم لا يَجِدون ما ينفِقون؟
اسمَع كيف وصَف القرآن مشاعرَهم: ﴿ وَلا عَلى الذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلهمْ قلْتَ لا أَجِد مَا أَحْمِلكمْ عَليْهِ تَوَلوْا وَأَعْينهمْ تَفِيض مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلا يَجِدوا مَا ينْفِقونَ ﴾ [التوبة: 92]، فكان جَزاء صِدقِ نيَّتِهم أنْ أشرَكَهم في الأجر والثَّواب مع مَن غزَوْا وجاهَدوا في سبيله؛ فعن أنس بن مالكٍ – رضِي الله عنه – أنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – رجَع من غزوة تبوك فدَنَا من المدينة فقال: ((إنَّ بالمدينة أقواماً ما سِرتم مَسِيراً ولا قطعتم وادياً إلاَّ كانوا معكم))، قالوا: يا رسول الله، وهم بالمدينة؟ قال: ((وهم بالمدينة، حبَسَهم العذْر))؛ رواه البخاري واللفظ له، ورواه أحمد وأبو داود وابن ماجه.
فمَن حبَسَه العذر عن الذَّهاب إلى مكَّة لحجِّ بيت الله الحرام وهو صادِقٌ في نيَّته فليَعِش كما يَعِيش الحاجّ، وليتمثَّل أخلاقَ الحجَّاج ومَشاعِرهم، وعلى الله الأجر والثَّواب، وهل سأَلتَ نفسك سؤالاً: كيف عاشَ الصحابة الذين رجَعوا ولم يَغزوا مع النبي – صلى الله عليه وسلم؟ هل كانوا في عِصيانٍ؟ أم على طاعةٍ ودعاء لنصرَة النبيِّ وصحبه؟ كيف حال مَن سمَّاهم القرآن بالبكَّائين؟ كذلك لا بدَّ أنْ يكون حالك كحال البكَّائين حتى تكون مثلهم في الأجر والثَّواب وتَنال بنيَّتك مالم تنَلْه بعملك، ولئن حبِستَ هذا العام عن الحجِّ فارجِع إلى جِهاد نفسك لا يحبسنَّك عنه الشَّيطان، ولئن كان البيت الحرام بعيداً عنك فاقصد ربَّ البيت الحرام؛ فهو أقرَب إليك من حبل الوَرِيد، وعِشْ مع الحجيج بقلبك وروحك في كلِّ منسكٍ من مناسك الحج؛ فإذا ركب السائرون سفينة الذَّهاب إلى بيت الله الحرام فاركَبْ أنت سفينةَ الطاعة إلى جنَّة الفردوس، وكما أنَّ الحجَّاج لا يضيِّعون وقتاً ولا يَصرِفونه إلاَّ في طاعةٍ، فكن مثلهم في طاعةٍ دائماً، وإذا كانوا يَخافون من الله أنْ يعصوه في بلده الحرام فخَفْ من الله أنْ تعصيه في الشهر الحرام.
وإذا أحرَمَ الحجيج من المِيقات فليحرِم قلبك عن كلِّ ما يغضِب الله – تعالى – من حقدٍ وغلٍّ وكراهية، واخلع مع الحجيج ثِياب المعصية والزّور والبهتان، وتحل بلباس التقوى والإيمان؛ ﴿ وَلِبَاس التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ﴾ [الأعراف: 26].
وإذا طافوا حول الكَعبة هناك فليَعرج قلبك وروحك لتَطوف مع الملائكة الكِرام حول البيت المَعمور في السَّماء مستَعلِية على الدّنيا وحَقارتها وسفاسف الأمور، وطفْ أنت هنا معهم في مِحراب الصَّلاة.
وإذا سعَوْا بين الصفا والمروة فاسعَ أنتَ هنا لقَضاء حَوائِج النَّاس؛ عن ابن عمر عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((أحَبّ الناس إلى الله أنفَعهم، وأحَبّ الأعمال إلى الله – عزَّ وجل – سرورٌ تدخِله على مسلِم أو تَكشِف عنه كربةً، أو تَقضِي عنه دَيْناً، أو تَطرد عنه جوعاً، ولأَنْ أَمشِي مع أخي المسلِم في حاجةٍ أحبّ إلى من أنْ أعتَكِفَ في هذا المسجد شهراً، ومَن كفَّ غضَبَه ستَرَ الله عَوْرتَه، ومَن كظَم غيظاً ولو شاءَ أنْ يمضِيه أمضاه مَلأَ الله قلبَه رضاً يوم القيامة، ومَن مشَى مع أخيه المسلم في حاجَتِه حتى يثبتها له أثبَت الله – تعالى – قدَمَه يوم تزلّ الأقدام، وإنَّ سوء الخلق ليفسِد العمل كما يفسِد الخل العسل))؛ أخرجه الطبراني وابن عساكر وابن أبي الدنيا، وحسَّنه الألباني.
وإذا كانوا يقبِّلونَ الحجرَ الأسودَ فقَبِّل يدَيْ والدَيْك وبرَّهما؛ فهما باب الجنَّة، وإذا كانوا يشرَبون ويغتَسِلون من زمزم فاغسِل وجهَك وطهِّر قلبك بدموع التوبة.
وحين يَقِف الحجيج على عرفات رافِعِين أكفَّ الضَّراعة إلى الله – عزَّ وجل – فليَصعَد قلبك على أبواب السَّماء، ويخر ساجدّاً لله سجدةَ انكسارٍ وفقرٍ وتذلّلٍ لا يرفَع منها إلى يوم القِيامة، وقِفْ أنت هنا على حدودِ الله، واجعَل بينك وبين المعصية حِجاباً.
وحين يتَزاحَم الحجيج لرَمْي الجمرات، فليَرْمِ قلبك كل ما علق به من شَهوات الدّنيا وملذَّاتها، وتطرد روحك كل ما يطارِدها من وَساوِس الشيطان.
أعمال تعادِل الحج: إليك أعمالاً تعادِل الحجَّ في الأجرِ والثواب، وبها تشارِك الحجيج مشاعِرَهم وشعائِرَهم، ومَن سبَقَ له الحج يستَرجِع ذكريات الحج ومشاعره.
الصوم: لماذا ترِيد الحجَّ؟ لأنَّ الحجَّ يَغفِر الذنوب، أليس كذلك؟ فلك هذا وأنت في بيتك، فغَيْر الحاج يَغفِر الله له الذّنوب بصَوْمِ يومٍ واحد في سبيل الله، وإليك حديثَ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كما روى أبو قتادة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((… صِيام يوم عرفة أحتَسِب على الله أنْ يكفِّر السَّنة التي قبله والسنةَ التي بعدَه، وصيام يوم عاشوراء أحتَسِب على الله أنْ يكفِّر السنة التي قبله))؛ رواه مسلم والترمذي وغيرهما.
إنَّ من أعظم درجات الحجِّ أنَّ الله – عزَّ وجل – يَغفِر ذنوب الحجاج جميعاً، وأكثَر ما يعتق من الرِّقاب يوم عرفة، وإلى هذا أشارَ النبيّ – صلى الله عليه وسلم – في الحديث الشريف؛ قالت عائشة – رضِي الله عنها -: إنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((ما من يومٍ أكثر من أنْ يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وإنَّه ليَدنو ثم يباهِى بهم الملائكةَ فيقول: ما أرادَ هؤلاء؟))؛ رواه مسلم وغيره.
فالحجَّاج يكفِّر الله – عزَّ وجل – عنهم ذنوبهم يوم عرفه، وغير الحجَّاج من الصائمين الطائعين يكفِّر الله – عزَّ وجل – ذنوبهم وهم في بلادهم على بعدِ مِئات أو آلاف الأميال من مكَّة، وهذا من نعمة الله – عزَّ وجل – على المسلمين جميعاً، فينبَغِي ألاَّ نغفل عن صِيام يوم عرفة خاصَّة، وصيام أيَّام العشر من ذي الحجة عامَّة، عدا يوم العيد.
ولا تنسَ فضل الصِّيام؛ فقد روى البخاريّ ومسلمٌ عن أبى سعيدٍ الخدري – رضِي الله عنه – قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((مَن صامَ يَوْماً في سبيل الله باعَد الله وجهَه عن النار سبعين خَرِيفاً))، هذا في أيِّ يومٍ، فكيف لو كان في يومٍ هو من أحبِّ أيَّام الدّنيا على الإطلاق إلى الله – عزَّ وجل – فالأجر مضاعَف والثَّواب أكثَر؟!
وروى النسائي وأحمد عن حَفصَةَ قالت: أربَعٌ لم يكن يدعهنَّ النبيّ – صلى الله عليه وسلم -: صِيام عاشوراء، والعَشر، وثلاثة أيَّام من كلِّ شهرٍ، وركعتين قبل الغَدَاة؛ ضعَّفه الألباني، ويؤخَذ بهذا في فضائل الأعمال.
صلاة الجماعة: صلاة الجماعة بالنسبة للرجال في المسجد، والصلاة على أوَّل وقتِها بالنسبة للنِّساء، وهي من العِبادات التي ينبَغِي علينا أنْ نزيد الاهتِمامَ بها، ولننظر ولنتدبَّر حديثَ النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -: عن أبى هرَيرَة – رضِي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((مَن غَدَا إلى المسجد أو راحَ أعدَّ الله له في الجنَّة نزلاً كلما غَدَا أو راحَ))؛ رواه البخاري ومسلم.
ولنستَشعِر هذه المعاني العظيمة التي يحتَوِيها هذا الحديث، ألسنا نحسد الحجَّاج على وعْد الله لهم بالجنَّة؟! فالرسول – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((العمرة إلى العمرةِ كفَّارة لما بينهما، والحجّ المبرور ليس له جزاء إلاَّ الجنَّة))؛ رواه البخاري ومسلم عن أبي هرَيرة.
هذا رائعٌ، لكنْ لديك فرصةٌ وأنت في بلدك، فلا داعي لأنْ تَحزَن لأنَّك لا تستَطِيع أنْ تذهَبَ إلى الحجِّ لتحصل على هذا الثواب الضَّخم والأجر الكبير؛ لتحصل على الجنَّة، فكلّ ذهابٍ إلى المسجد وكلّ إيَابٍ منه يعَدّ لك نزلك في الجنَّة، أرَأيتَ عظيمَ فضلِ الله علينا؟! والنّزل هو: ما يعَدّ للضَّيف من كرم الضِّيافة وأنت ضَيْف الله في بيته.
بل لك البشرَي بفضلٍ عميمٍ من حديث رسول الرَّحمة – صلى الله عليه وسلم – عن أمِّ حَبِيبة قالت: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((مَن صلى اثنتَيْ عشرة رَكعة في يومٍ وليلةٍ بنِي له بهنَّ بيتٌ في الجنَّة))؛ رواه مسلم.
وقد فسَّرَهم الترمذيّ في حديثه عن أمِّ حَبِيبة قالت: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((مَن صلى في يومٍ وليلةٍ ثنتي عشرة ركعة بنِي له بيتٌ في الجنَّة: أربعاً قبل الظّهر، وركعتَيْن بعدها، وركعتَيْن بعد المغرب، وركعتَيْن بعد العِشاء، وركعتَيْن قبل صلاة الفجر))، قال الترمذي: حسن صحيح.
الدعاء: كلّنا نلتَمِس ممَّن نودِّعهم من الحجَّاج الدّعاء عن الكعبة أو عند زمزم أو غيرها من النّسك؛ لأنَّ الدّعاء عند الكعبة مستجابٌ، وكذا عند الشّرب من ماء زمزم، وعند السعي، وعند الوقوف بعرفة، وكذا عند كلِّ نسك، ولك هذا وأنت في بيتك، بل إنَّ الله هو الذي يَسأَلك: ما حاجتك؟ ماذا تريد؟ بِمَ تدعو؟ ما الذي ينقصك؟ عن أبى هرَيرة عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((يَنزِل الله إلى السَّماء الدّنيا كل ليلةٍ حين يمضى ثلث الليل الأوَّل فيقول: أنا الملك، أنا الملك، مَن ذا الذي يَدعوني فأستَجِيب له؟ مَن ذا الذي يسألني فأعطِيَه؟ مَن ذا الذي يستَغفِرني فأغفِرَ له؟ فلا يَزال كذلك حتى يضيء الفجر)).
وفي روايةٍ لمسلم: ((إذا مَضَى شطر الليل أو ثلثاه يَنزِل الله – تبارَك وتعالى – إلى السَّماء الدّنيا فيَقول: هل من سائلٍ يعطَى؟ هل مِن داع يستَجاب له؟ هل من مستَغفِر يغفَر له؟ حتى ينفَجِر الصبح)).
ماذا يريد الإنسان أكثر من ذلك؟! الله – سبحانه وتعالى – هو الذي يتودَّد إليك ويرِيدك أنْ تسأَله حاجتَك، أليس لدَيْك ما تريد أنْ يقضيه الله لك؟! ألاَ تريد من ربِّك أنْ يَشفِي لك مريضاً، أو ييسِّر لك امتِحاناً، أو يرد عنك ظالِماً، أو يَرفَع عنك بلاءً نزَل بك، أو يردَّ إليك حقّاً سلِب منك؟! ألستَ ترِيد شيئاً من ربِّك؟ ألاَ تريد مالاً؟! ألاَ تريد زوجةً؟! ألاَ تريد أولاداً؟! ألاَ تريد صحةً؟!
الله – عزَّ وجل – هو الذي يرِيد قضاءَ حاجتك، ما عليك إلاَّ أنْ تسأل، ثم.. أليس عندَك ذنبٌ ترِيد من الله أنْ يغفره لك؟! ومَن مِنَّا لم يقتَرِف ذنباً، فكلّ بني آدم خطَّاء، وخير الخطَّائين التوَّابون، ألسنا نحسد الحجَّاج لمغفرة الله – عزَّ وجل – لهم جميع ذنوبهم؟!
إنَّنا في الواقع نمتَلِك هذه الفرصة كل ليلة، فالله – عزَّ وجل – يسأل: "مَن يستَغفِرني فأَغفرَ له؟"، فما عليك إلاَّ أنْ تستَيقِظ لتَسأَل ربَّك وتستَغفِره دون أنْ تَدفَع المال الكثيرَ، وتتكبَّد الجهد الكبير في ذهابك للحج، وليس معنى هذا أنْ يَتكاسَل الناس عن الحج؛ فالحجّ عبادةٌ من أعظم العبادات في الإسلام، لكنِّي أقول لعموم المسلمين الذين لم يتيسَّر لهم فرصة الحج لأيِّ ظرفٍ من الظّروف: إنَّ الله – عزَّ وجل – أعطاكم بَدائِل للحجِّ، وفي نفس وقت الحج، وعليها من الأجر ما قد يَصِل إلى مثل أجرِ الحج، بل ربما زاد عليه إذا كانت النيَّة خالصةً والاشتِياق للمغفرة وللعمل الصالح حقيقيّاً، فاسجدْ لله في جَوْفِ الليل واقترب؛ ﴿ وَاسْجدْ وَاقْتَرِبْ ﴾ [العلق: 19].
روى مسلم عن أبى هرَيرة – رضِي الله عنه – أنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((أقرَب ما يَكون العبد من ربِّه وهو ساجدٌ، فأكثِروا الدّعاء))، فاقتَرِبْ وسَلْه حاجتَك، وارفَع إليه مظلمَتك و"فضفض" إلى ربِّك؛ فهو يحب مِن عبده أنْ يَسأَله حاجتَه؛ عن أبى هرَيرة – رضِي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((مَن لم يَسأَل الله يَغضَب عليه))، وفي لفظ: ((مَن لم يدع الله غضب الله عليه))؛ رواه الترمذي وأحمد وابن ماجه والحاكم وصحَّحه ووافَقَه الذهبي وحسَّنه الألباني. لاَ تَسْأَلنَّ بنَيَّ آدَمَ حَاجَةً / وَسَلِ الذِي أَبْوَابه لاَ تحْجَب / الله يَغْضَب إِنْ تَرَكْتَ سؤَاله / وَبنَيّ آدَمَ حِينَ يسْأَل يَغْضَب /
لأنَّ الدعاء هو محض العبادة؛ كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم – عن النّعمان بن بَشِيرٍ – رضِي الله عنه – قال: سمعت النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((الدّعاء هو العِبادة))، ثم قرَأ: ﴿ وَقَال رَبّكم ادْعونِي أَسْتَجِبْ لكمْ إِنَّ الذِينَ يَسْتَكْبِرونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخلونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾ [غافر: 60]، قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ، قال الألباني: إسناده صحيح، وصحَّحه ابن حبان، والحاكم والذهبي، ورواه أحمد والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
الذِّكر: فمن مقاصد الحجِّ الذِّكر، ويتَّضح ذلك من قول الله – تبارَك وتعالى -: ﴿ لِيَشْهَدوا مَنَافِعَ لهمْ وَيَذْكروا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلومَاتٍ عَلى مَا رَزَقَهمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكلوا مِنْهَا وَأَطْعِموا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ﴾ [الحج: 28].
روى الإمام أحمد بسنده عن ابن عمر – رضِي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((ما من أيَّامٍ أعظَم عند الله ولا أحب إليه من العمل فيهنَّ من هذه الأيَّام العشر، فأكثِروا فيهنَّ من التهليل والتكبير والتحميد))؛ قال الحافظ العراقي: هذا حديثٌ رجاله مخرَّج لهم في الصحيح، وقال ابن حجرٍ العسقلاني في "الأمالي المطلقة": هذا حديث حسن، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد": رواه الطبراني في "الكبير" ورجاله رجال الصحيح، وقال شعيب الأرنؤوط: صحيح.
وللتكبير بالذات قيمةٌ عالية جدّاً في هذه الأيام، وذكَر البخاري في باب فضل العمل في أيام التشريق: وقال ابن عباسٍ واذكروا اللهَ في أيَّامٍ معلومات أيَّام العشر، والأيَّام المعدودات أيَّام التشريق، وكان ابن عمر وأبو هرَيرة يَخرجان إلى السوق في أيَّام العشر يكبِّران، ويكبِّر الناس بتَكبِيرهما، وكبَّر محمد بن عليٍّ خَلفَ النافِلة.
وأعظَم الذِّكر قراءة القرآن الكريم.
أيّها الأحباب، إنَّنا مأمورون بالتشبّه بالحجَّاج في أعمالهم الظاهرة ومن باب أولي في مقاصد أعمالهم؛ عن أمِّ سلمة أنَّ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إذا رأيتم هلال ذي الحجَّة وأراد أحدكم أنْ يضحِّي، فليمسِك عن شَعرِه وأظفاره))؛ مسلم.
نسأَل الله – تبارك وتعالى – الإخلاصَ في القول والعمل، والسرِّ والعلن، ونسأَلكم الدّعاء.