تتكرر كلمة الموت اليوم على كل صعيد، وصرنا نتحدث عن "موت الحضارة" و"موت الشعر" و"موت المؤلف" و"موت الايديولوجيا" و"موت الواقع" نفسه. هذا الموت الذي يحكم كل شيء هو واحد من خصائص فكر "ما بعد الحداثة" الذي يعبِّر جوهرياً عن معايير مجتمعات ذات اقتصاديات متطورة ومعولمة لا تستطيع الانسجام مع ذاتها إلا بالترويج لفكرة الموت، لكي تبقى حاضرة في العالم، هي وحدها، الى الأبد. من أجل أن يحل هذا الفكر تناقضات متشابكة صارت تقلقه من الداخل بين مفاهيم الحق والعدالة وما اليها مما يمس الإنسان، وبين تفوق مجتمعاته المفروض غالباً بالقوة الاقتصادية والعنف الصريح، فإن معاييره السابقة لم تعد متسقة، بينما الخرق في ازدياد بينها وبين أساساتها التاريخية. فكرة الموت وحدها هي ما يمكن أن تساعده في البقاء فاعلاً كما يبدو. وفي يقيني أن أخطر أفكار الموت قاطبة هي فكرة "موت الواقع" القائلة ان دخولنا عصر التكنولوجيا ألغى المسافة بين "الواقع" و"صورته" في أذهاننا الى درجة امحاء الواقع. وقد أخذت حرب الخليج مثالاً على ذلك، وقد قيل على لسان مفكرين وعلماء اجتماع أوروبيين ان ما تم اثناء حرب الخليج لم يكن إلا "صورة مرئية" للحرب. وبمعنى آخر: فلأننا لم نشهد الحرب إلا عبر الشاشات والأقمار الاصطناعية فإنها لم تقم فعلاً بالنسبة الى وعينا. التبسيط للفكرة هنا قد يكون مخلاً، على أنه يود أن يقرّب جوهر الفكرة المهيمنة في الوعي ما بعد الحداثي، الذي هجر بعضاً من القوانين المعيارية في نظرية المعرفة لكي يتسق مع معيار رأسمالية متطورة، راقية وقاسية في آن، يجب علينا ألاّ ننسى أنها هي من يدفع تكاليف المعاهد والجامعات والمتاحف والأساتذة والمفكرين. هذا تبسيط مخل آخر يسعى لتقريب كيف أن هيمنة "الموت" قد لا تعني شيئاً سوى تبرير معقد لأمر آخر. هل مات الشعر بالفعل في العالم؟ وهل لا يوجد فعل شعري أساسي؟ وهل المعمورة غير قادرة منذ الآن فصاعداً على انجاب شاعر جوهري؟ يتعلق الأمر في غالب الظن بالهامش الممنوح للشعر في تكوين العالم. من الواضح ان هذا الهامش يقع في تفارق مع النص السائد الذي لا يولي إلا للربح والتقدم التقني والسرعة وبالأثمان كلها والمغامرة الطائشة والأخرى المحسوبة والتجارات الرابحة والمضاربات وغير ذلك من مفردات النص الكوني المتشكل اليوم تحت أبصارنا. ربما تبرهن وضعية فن العمارة الحديثة ما نقول، وفيها تحل الوظيفة المحل الأول، قبل أي أمر آخر، يعني الجمال، هذا الأخير متهيئ لمن يمتلك الثروة. أين الجمال والأريحية في عمارات ما بعد الحداثة؟ "موت الجمال" سيقال لنا الآن. وسيقال إنه أمر نسبي تماماً، ولكن لن يُقال لنا إننا نشهد نوعاً من اندثار الجمال وتزاوج أنواع مختلفة هجينة منه في العمل الواحد، مقبلة من أجيال وتيارات ومزاجات في غاية التنوع والتناقض. لنذهب نشاهد أي متحف حديث في أوروبا، سنلتقي بتمثيلات واضحة لهذا التزاوج المريب. تأتي الريبة بالشعر، في يقيني، من الريبة بأية حكمة أخرى غير حكمة الاندثار الموصولة بمزاج السوق الكوني الراهن. نتكلم في الحقيقة عن ريبة ولا نتكلم عن موت. ومن أكبر المفارقات في السياق هذا أن البلدان المتحدثة عن موت الشعر هي أكثر البلدان التي تُنتج الشعراء: الولاياتالمتحدة تضم أكثر النخب الشعرية عدداً في العالم، وتطبع الآلاف من المجاميع وتقيم الكثير من اللقاءات والسجالات حوله، مهما كان نطاق مستمعيها ضيقاً. مثلها القارة الأوروبية، ويكفي أن ينظر المرء الى ربيع الشعر في باريس لكي يرى أننا بعيدون من موت الشعر. أضف الى ذلك ان من يطبع من الشعراء ومن يحضر لقاءات الشعر منهم لا يندرج في خانة عمرية واحدة، أي من الشيوخ، ولكنها تضم المزيد من الشبان والشابات بل حتى بعض الصغار الموهوبين. لقد كان هامش الشعر ضيقاً على الدوام قدر ما كان خطيراً، مقارنة بحقول المعرفة الأخرى. سوى أن الهامش الممنوح للفعل الشعري اليوم يزداد ضيقاً في عالم منح للبصري الدور الأساسي. كيف لا والبصريُّ هو الحامل التقني المروّج لروح السوق: البضاعة. لا يمكن الشعر بطبعه ان يلعب دوراً دعائياً. انه محكوم بالتراجع من دون أن تبدو على وجهه علائم الموت. وفي ظني ان ما بعد الحداثة لا تحب كثيراً الحقيقة، هي القائلة ب"موت الواقع"، بخاصة أنها ستلتقي بحقائق موضوعية مدوخة تفكك لها التزاماتها العميقة المغطاة بطبقات وب"حفريات" مداهنة للغاية وعارفة الى أبعد حدود المعرفة. النسبية التي تكره انشتاين وموت الحقيقة ألماً بعد حداثية سيضطربان أمام بحث الشعر الدائب عن "الحقيقة"، وعن "المطلق" اليائس ذي الوجه الجميل الأسيان. وانها تنفيه لهذا السبب الى الهامش زاعمة موته. في العالم العربي يتلقف البعض "موت الشعر" ويتحدث عن سيادة الرواية الآن، وفي هذا الرأي شيء من الاعتباطية لأنه يتلقف تلقفاً الموقف الأوروبي والأميركي الطالع من شروط أخرى. ان وفرة عدد الشعراء الجدد أو كثرة المجاميع المطبوعة لا تسمح بالتحدث عن موت الشعر في العالم العربي، بل أنها ستسمح لنا بعد حين بالحديث عن موت الشعر الرديء. يخيل الينا ان كل هذا الموت هو موت مجازي في نهاية المطاف قبل أن يكون موتاً حقيقياً. هل ستكون غواةً وجهلةً إذا استعدنا كلمة رينيه شار "شعر وحقيقة صنوان"؟