اعترف أولاً بأنني من مدمني قراءة ما يكتبه مارك صايغ الذي أعرفه اسماً ولا أعرفه إنساناً للأسف الشديد. أقرأ كتاباته في ملحق تيارات في جريدة "الحياة"، لأنه يكتب عن موضوع تهمني متابعته، هو علم الصورة في الغرب والذي اعتقد أنه سيكون من القضايا المهمة في مستقبل البشرية تماماً كما كانت في القرن العشرين معركة الكلمة والمعتقد. واعتقد أن هذه القضية تمثل مشروعه الجوهري، ما يجعلني أحسده كل أسبوع على تلك الخندقة في هذا التخصص الدقيق. يكتب مارك صايغ تحت عنوان: "بروتوكولات حكماء العرب" حكاية "كفاية يا مصر كفاية" في 3 تشرين الثاني نوفمبر 2002 عن مسلسل "فارس بلا جواد". وكان إبراهيم العريس، الذي أعرفه كاتباً وأعرفه لحسن الحظ إنساناً، كتب تحت عنوان "فارس بلا جواد، أو كبوة فارس أخطأ طريقه" في "الحياة" الجمعة 1 تشرين الثاني 2002 عن الموضوع نفسه. وأعترف بأن الفانتازيا التي بدأ بها مارك صايغ مقاله أخذتني لأنني لم اكتشف "الخدعة" و"الغواية" إلا في الربع الأخير من المقال عندما كتب مارك صايغ في أول المقطع الأخير يقول: "بالطبع هذه القصة مجرد افتراء نابع من مخيلتي". قلت لنفسي لحظتها يا ويل من يقرأ العنوان فقط. أو من يقرأ الجزء الأول من المقال فقط. لأن الأمر في هذه الحال قد يتحول إلى فضيحة "بجلاجل". وقد خشيت لحظتها لو ان العدو الصهيوني التقط فكرته وحولها إلى مسلسل يرد به على مسلسل "فارس بلا جواد". وإن حدث هذا - ولِمَ لا يحدث -؟ أرجو أن يرفض مارك صايغ أن يستغل أحدٌ فكرته أو هجائيته للواقع العربي الراهن. أن يرفض أن تصبح هذه الفكرة سلاحاً بيد العدو. لكنني آخذ عليه عدداً من الأمور: الأول أنه، وهو المتخصص، لم يتوقف متأملاً أمام أميركا وإنكلترا وإسرائيل التي تعلن الحرب ضد مسلسل قبل أن يشاهده أحد. وهذا مبدأ خطير، لأنه يعني إعلان الحرب على النيات. هل يعرف مارك صايغ أن الملحق الثقافي الأميركي في السفارة الأميركية في القاهرة اتصل قبل بدء التصوير بكاتب المسلسل محمد بغدادي وطلب منه - بصورة ودية طبعاً - أن يمكنه من قراءة نص الحلقات. وعندما رفض المؤلف أبلغه الملحق عبر سكرتيرته ان الاقتراب من "الهولوكست" ونسبة هذه البروتوكولات إلى حكماء اليهود، يمكن أن يجعلا الأمر يصل إلى قطع المعونات التي تقدمها أميركا لمصر. لن أجعل من عنوان المقال "كفاية يا مصر.. كفاية" مشكلة فبقدر دور مصر الكبير، يكون العتب عليها. ولا بد من قبول كل هذا العتب، الذي ينبع من المحبة. وإن كان مارك صايغ قال: "كفاية يا مصر كفاية"، فإن أسد فولادكار المخرج اللبناني صاحب فيلم "لما حكيت مريم"، وقف في الإسكندرية يتساءل: "وينك يا مصر؟". والعبارتان تخرجان من حال حب لمصر سواء بالتعبير عن حضورها أو باللهفة على غيابها. وأيضاً سأعبر سريعاً التعميم على النخب العربية وموقفها من معاهدات الحكومات العربية مع العدو، لأن كل حال تختلف عن الأخرى. لم يتوقف مارك صايغ أمام الامبراطورية الأميركية التي تقول إنها أصبحت سيدة الكون، وتتدخل في أمورنا بحجة الدفاع عن "الحريات وحقوق الإنسان". كما لم يتوقف أمام العدو الصهيوني الذي يدعي أنه يشكل "واحة الحريات" في الشرق الأوسط. وهما معاً يحاولان منع عرض مسلسل تلفزيوني. أليس في هذا تناقض صريح وجوهري؟ أليس في كل هذا سخرية ما بعدها سخرية؟ إن الأميركيين والصهاينة يخوضون معركة ضد مسلسل تلفزيوني. فهل يشكل هذا المسلسل من الخطر ما يصل إلى حدود إشهار هذه الحرب؟ وبهذه الطريقة؟ الأمر الثاني في كلامه انتقاده عدم مطالبة النخب المثقفة في مصر الحكومة بإلغاء معاهدة السلام مع العدو، "وهي الاتفاقية التي تسير بنجاح منذ نحو ربع قرن" على حد تعبيره. ومن قال لك إن هذه النخب لم تطالب بإلغاء هذه المعاهدة؟ ثم من قال لك إن المعاهدة تسير بنجاح منذ ربع قرن؟ في مصر تيار كامل شديد العداء سواء للعدو الصهيوني أم للسياسات الأميركية. بل إن الموقف المصري الشعبي من السياسات الأميركية يعود إلى سبب جوهري هو الانحياز الأميركي الكامل والمطلق الى تجاوزات إسرائيل. طبعاً لن أتوقف أمام قوله إن مثقفي إسرائيل لم يهبطوا إلى مستوى "سخافة" بعض مثقفينا، لأنني أعتقد أن هذه زلة قلم قادت الكاتب إليها حال الانفعال التي كتب تحت تأثيرها. تبقى "بروتوكولات حكماء صهيون". ومنذ أن قرأت ما كتبه إبراهيم العريس في "الحياة"، قررت العودة إليها لأنعش الذاكرة بقراءة جديدة لها، وبخاصة الترجمة التي قام بها محمد خليفة التونسي وقدمها عباس محمود العقاد ونشرت فى خمسينات القرن الماضى. وهي الترجمة التي وقف وراءها الرئيس جمال عبدالناصر عندما طلب إحضار "البروتوكولات" وترجمتها. علماً أن هناك ترجمة أخرى قام بها شوقي عبدالناصر الشقيق الأصغر لجمال عبدالناصر. وقررت أيضاً أن اقرأ ما كتبه الكاتب المرجع - ربما الوحيد - الدكتور عبدالوهاب المسيري في موسوعته الجزء الثاني وعلى مدى خمس صفحات تحت عنوان: "بروتوكولات حكماء صهيون". وكذلك ما كتبه المسيري في كتابه "اليد الخفية: دراسة في الحركات اليهودية السرية الهدامة" الفصل الأول وكلاهما من نشر دار الشروق في القاهرة. بعد الانتهاء من القراءة لا بد من الانتظار لحين اكتمال عرض مسلسل "فارس بلا جواد" حتى يمكن التعامل مع الأمر بصورة صحيحة. لأن الدخول إلى رواق القضية من دون قراءة "البروتوكولات" وما كتب حولها، يعني أن العدو هو الذي يحدد لنا زمان المعارك ومكانها.