أردوغان وغول يوحيان بما أوحى به عبدالرحمن وحيد بُعيد وصوله الى رئاسة اندونيسيا. يوحيان به ممزوجاً بنشاطية أرفع بكثير. يتحدثان عن الديموقراطية والإسلام. يتيحان للمعلّقين التكهّن ب"ديموقراطية اسلامية" على غرار الديموقراطية المسيحية الأوروبية. نصدق؟ نعم. رمضان في اسطنبول أزهى منه في باقي مدن الاسلام. جيرة المساجد والبحر، جيرة الشرق والغرب، تعملان. اسلاميو تركيا نتاج احباط لا يشبهه الا احباط علمانييها. الاحباط الأول جسّده نجم الدين أربكان: هم لا يستطيعون الحكم بمعزل عن واقع شكّلته الأتاتوركية لقرن. هذا الواقع صار مواقع ومصالح وقناعات واستراتيجيا وجيوبوليتيك. لهذا لم يضطر الجيش الى الانقلاب لاطاحة أربكان، والجيش التركي انقلابي بامتياز. أهل اسطنبول أنفسهم رفضوا تغيير معالم "ساحة تقسيم" المركزية. مشروع السوق الاسلامية المشتركة، انهار بمعزل عن الجيش. هذا لا يعني ان الأخير لم يحرك ساكناً. يعني ان المجتمع والمعطيات الموضوعية حرّكت، بدورها، سواكن عدة. الاحباط الثاني بلوره انهيار الأحزاب العلمانية. تفاهة قادتها. فسادهم. عجز البرلمانية عن تجاوز دور الجيش في السياسة. استيراد رئيس للجمهورية، أحمد نجدت سيزر، من القضاء. هذه كلها قالت ان الديموقراطية العلمانية لا تقلع في تركيا كما تقلع في أووبا الغربية. الحرب ضد الأكراد، مثل الحرب ضد الشيشان في روسيا، عنصر معيق للديموقراطيات خارج النواة المركزية الأوروبية. زواج الاحباطين رسم السقوف والحدود لأية سياسة تركية ناجحة. وهذا له مقدماته هناك. فالمطالبة القديمة للاسلام التركي باستعادة السلطنة لم يبق منها الا تقوية تركيا. ما رسخ من المطلب القديم نوع من قومية قابلة لإعادة التدوير في الدولة. والعلمانية التركية حين تقول بالقومية لا تكف عن التعاطي مع الاسلام بوصفه من مقوّماتها: صحيح انه "إسلام تركي" تدجّنه الدولة وترسم العلمنة حركته ورقعته. وصحيح انه اسلام منقوص الطقوس والزوايا، إلا أنه إسلام أرادت الأتاتوركية المعتدّة ان تتمايز به عن المسلمين غير الأتراك كما عن المسيحيين في غربها. ومن المقدمات الأخرى أن الدولة كانت دوماً قبلة الاسلام التركي. إنه أراد الوصول اليها لا هدمها. غير أن طريقه لم تكن ايرانية: فمنذ عدنان مندريس في الخمسينات استُبعدت الثورة وتم التركيز على التعليم وفتح أبواب الادارة لخريجي المدارس الدينية. واشتد ساعد الدعوة مع أربكان لأن ساعد الرأسمالية الزراعية والأناضولية الأصول اشتد. وهذا، بدوره، لم يكن عديم الصلة بالدولة، وتحديداً في الثمانينات الأوزالية حيث اتسعت طبقة مقاولين انبثقت من تلك الرأسمالية، وتوسع قطاع الموظفين المؤمنين الذين استفادوا من طفرة الإعلام والتلفزيونات: معظم هؤلاء كانوا خريجي مدارس دينية ناضل أربكان حين كان وزيراً لتشريع عملها. ولنلاحظ في الحكومة الجديدة أن المناصب الأهم أعطيت لكوادر في الدولة: يشار ياكيش، وزير الخارجية، ديبلوماسي وسفير سابق. وجدي غوغول، وزير الدفاع، محافظ ورئيس سابق لديوان المحاسبة. علي باباكان، وزير الشؤون الاقتصادية، مستشار مالي سابق. كذلك من المقدمات: أوروبا. فهي لم تعد تتقدم للاسلاميين بصفتها معاداةً ومناقَضةً للاسلام. صارت تتقدم كضمانة لحقوق الانسان في مواجهة العسكر المحلي. والأصوات الأوروبية التي تعلو الآن رافضة ضم تركيا، وأعلاها جيسكار ديستان، تضاعف قناعة الاسلاميين بأن الموضوع ليس "امبريالية" وأطماعاً في أرض السلطنة، وأن البراعة تكمن في تجنب الاستبعاد والتهميش. الآن، مع الحكومة الجديدة، تأتينا هذه الأصداء مدوّية: الإقرار بالوقائع الأساسية التي تنهض عليها تركيا. الحماسة للخصخصة واقتصاد السوق. الفتور لحرب العراق مع... الاستعداد لمواكبتها. تسليم وزارة الخارجية لمن يجيد التحدث بالعربية مع العرب من دون عرقلة الصلات باسرائيل إنه أيضاً خبير في شؤون المياه. ما يصحّ على "العرب" لا يصح إذاً بالضرورة على سورية. وأخيراً: التمسك بالديموقراطية وبأوروبا والعمل على السماح ب... الحجاب في المدارس. لم لا؟ هذا توليف مقبول في بلدان أوروبية عدة. يبقى الامتحان الكبير أمام اسلاميي تركيا. وأمام تركيا: كيف الانتقال من زواج بين إحباطين الى تفاعل بين تجربتين؟ هنا المحك.